السلام الإماراتي- الإسرائيلي....زلزال جيو- سياسي.. أم حضاري؟...

تاريخ الإضافة الأربعاء 26 آب 2020 - 3:22 م    عدد الزيارات 1774    التعليقات 0

        

السلام الإماراتي- الإسرائيلي (1)...

زلزال جيو- سياسي.. أم حضاري؟...

سعد محيو....

لم يكن توماس فريدمان، الكاتب في "نيويورك تايمز" والخبير بشؤون المشرق المتوسطي، مبالغاً حين قال أن "اتفاق إبراهيم" أو صفقة السلام الإماراتية- الإسرائيلية هو "زلزال جيو- سياسي، ستشعر به كل المنطقة... لأن هذه هي المرة الأولى التي يُقايض فيها السلام مقابل السلام، وليس الأرض مقابل السلام".

صح. إنه فعلاً زلزال جيو- سياسي. فهو زلزل الأرض التي كان يقف عليها قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 242، الذي استند (وفق رغبة الولايات المتحدة) إلى مبدأ الأرض مقابل السلام، والذي كان ركيزة كل السياسات الأميركية والدولية في المشرق طيلة نيف وخمسين سنة. القرار أيضاً هو الصرح الذي أُشيدت فوقه اتفاقات السلام المصرية والأردنية والفلسطينية مع إسرائيل، وتم بموجبه الاعتراف بوجود إسرائيل كدولة "عادية" في المنطقة، وكُرِّست في سياقه (وهنا الأهم) منظومة "الدول- الأمم" التي أقيمت بإشراف الغرب غداة الحربين العالميتين الأولى والثانية.

والآن، ومع تبخّر هذا القرار رسمياً، ومعه بالاستتباع، كل قرارات الأمم المتحدة والمواثيق والشرعات الدولية، ستكون كل الخرائط والحدود والكيانات عُرضة إلى التبديل والتغيير في المنطقة، وفق معادلة دولية- إقليمية ضمنية جديدة هي "الأرض لمن غَلَبْ، والسلام لمن يقبل الغُلَبْ". وهذا بالطبع لن ينطبق فقط على فلسطين، بل سيطال كل دول ودويلات وكيانات الإقليم بلا استثناء. إنها ستكون حرب الجميع ضد الجميع مُغلّفة بشعار "السلام مقابل السلام". وهذا سيكون تطوراً بديهيا، لأنه إذا كان مُجاز شطب أرض مقدّسة كأرض فلسطين من المعادلات والمفاوضات، فهل سيكون من المستبعد بعد ذلك تمدد المعادلة إلى أراضٍ "غير مقدسة"، مثلاً بين الامارات والسعودية، أو إيران والبحرين، أو تركيا وسورية، أو المغرب وموريتانيا، او العراق والكويت، ألخ؟

- II--

تعبير الزلزال الجيو- سياسي، إذا، صحيح ودقيق. لكنه مع ذلك غير كافٍ لفهم الابعاد الحقيقية للسلام الإماراتي، وقريباً الخليجي، مع إسرائيل. في الميزان هنا ما يتخطى بشكل كبير وخطير حتى هذا الزلزال الجيو- سياسي الكبير والخطير. إنه الزلزال الحضاري الذي سيتسبّب هذا السلام.

ماذا؟ زلزال حضاري؟ كيف، لماذا؟

للأسباب التالية:

أولاً، السلام الخليجي المُقبل لن ينطلق من الجيو- سياسة ليصل إلى الجيو- تطبيع الفكري والثقافي والإديولوجي، كما فعلت مصر والأردن بل هو يبدأ مع هذا التطبيع الاخير، إلى درجة أن الجوانب العسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية ستأتي بالنسبة إليه في الدرجة الثانية.

في 2 نيسان/إبريل 2018، أجرت "ذي اتلانتيك" مقابلة مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، قال فيها رداً على سؤال ما نصه حرفيا:" اعتقد أن كل شعب، أينما كان، له الحق في العيش في أمّته المسالمة. أعتقد أن للفلسطينيين والإسرائيليين الحق في أن تكون لهم أرضهم الخاصة". وقد علّق مفاوض السلام الأميركي السابق ديفيد روس على هذا البيان بقوله:" كان العرب المعتدلون يتحدثون عن حقيقة وجود إسرائيل، لكن الاعتراف بـ "حق" أرض الأسلاف اليهود كان خطّاً أحمر لم يعبره أي قائد حتى الآن"

وقبل أشهر قليلة، كان لكاتب هذه السطور لقاء عاصف مع شخصية فكرية كويتية بارزة، تحدّث فيه بطلاقة عن "الحق التاريخي لليهود في فلسطين" بوصفه أمراً يجب الاعتراف به كـ "حقيقة تاريخية". أخطر ما في الأمر هنا أن هذه الشخصية التي كانت تنتمي إلى تيار تقدمي وعروبي، كانت لها المواقف الإضافية التالية حول القضايا الرئيسة الأخرى المرتبطة بالحق التاريخي:

- حين قلنا له أن دولتا إسرائيل ويهودا السامرة لم تستمر أكثر من 200 سنة من تاريخ مشرقي عمره سبعة آلاف سنة، رد بأن النص على أرض إسرائيل ورد في التوراة.

- وحين ذكّرناه بأن البدو العبرانيين هم الذين اغتصبوا أرض فلسطين من الكنعانيين الحضريين ومارسوا بحقهم وبحق المصريين الإبادات والقتل بالجملة، قال أن العبرانيين بقوا في العالم والكنعانيين انقرضوا.

- ثم حين لفتناه إلى أنه إذا كان صحيحاً أن لليهود حقاً تاريخياً في فلسطين، فسيكون لهم أيضاً حق في شبه الجزيرة العربية، لأن المؤرخ الكبير الراحل كمال الصليبي أثبت بالقرائن والوقائع والأسماء أن "التوراة جاءت من شبه الجزيرة العربية" (وهذا اسم كتابه)، اكتفى برسم ابتسامة غريبة على وجهه.

-أخيرا، وعندما قلنا له: هل من الحق والعدل أن نكرّس طرد 7 ملايين عربي فلسطيني من أرضهم التي عاشوا فيها على الأقل 1400 عام ونجلب مكانهم 15 مليون يهودي من كل أنحاء العالم قد لايعرفون لا تاريخ ولاجغرافيا فلسطين، أجاب فوراً وبحماسة بالغة: يجب أن نوطّن الفلسطينيين حيث هم، ويجب أن نمنح اليهود حق التجوّل بسلام في بيروت والقاهرة وكل الدول العربية كي يشعروا بالأمن والأمان.

- III -

نقلنا هذا الحوار بأمانة وحرفاً بحرف، ليس بهدف التعريض بأحد أو إطلاق الإدانات، بل للقول بأن ما جاء على لسان ولي العهد السعودي وفي توجهات المفكر الكويتي سيكونا من الآن فصاعداً هما نقاط إرتكاز الخطاب الخليجي في التعاطي مع مسألة السلام مع إسرائيل. أي: الانطلاق من/والتشديد على مسألة الحق التاريخي لليهود في فلسطين، والذي يعني فوراً أن الفلسطينيين كانوا هو المُحتلين والغزاة وليس الحركة اليهودية الصهيونية.

قد يعتقد البعض أن مثل هذا المنطق هو مجرد أداة فكرية لتحقيق غرض سياسي أو أمني، مثله مثل تبرير مصر والأردن للسلام مع إسرائيل وإن على نحو معكوس: من الواقعية السياسة إلى وعد التطبيع الفكري- الإديولوجي لاحقاً.

لكن الأمر ليس على هذا النحو على الإطلاق. ففي تضاعيف جعبة السلام الخليجي ما ألمعنا إليه في البداية: زلزال حضاري كبير.

كيف.... (للحديث صلة)

 

السلام الإماراتي- الإسرائيلي: زلزال جيو- سياسي.. أم حضاري؟(2)

هل نقول وداعاً للحضارة المشرقية- الإسلامية؟

سعد محيو

افترضنا بالأمس أن السلام الإماراتي، وقريباً الخليجي، مع إسرائيل، لا تنطبق عليه سمة الانقلاب الجيو- سياسي وحسب ، كما السلام المصري والأردني والفلسطيني، بل هو أولاً وأساساً بمثابة زلزال حضاري. وسنقول اليوم لماذا.

الزلزال الذي نقصده هنا لا يتعلّق بمسائل القيم الحق والعدالة في فلسطين، على رغم أنها هي المعنى الحقيقي للتاريخ ولفلسفة الوجود. ولا عن الظلم الذي ألحقه اليهود الإسرائيليون بحق حضارة مشرقية لم تكن لهم سوى الملاذ والملجأ طيلة 1400 سنة، من الأندلس إلى صفد والدار البيضاء واسطنبول (وحتى ما قبل ذلك مع الكنعانيين والمصريين والفرس)، ولا حتى بعد قيام من لا يملك بمنح فلسطين لمن لا يستحق.

ما نقصده هو التأثيرات الضخمة التي سيتركها اعتراف بعض الخليجيين بـ"الحق التاريخي لليهود في فلسطين" على الهوية الحضارية للإقليم العربي- الإسلامي. فإسرائيل ليست في الواقع مجرد دولة يكفي الاعتراف بوجودها على مفترق طرق آسيا وإفريقيا وأوروبا حتى يهدأ روع الآلهة الغاضبة التي تصطرع على أرضها المقدسة منذ فجر التاريخ، أو حتى يُبرم السلام والصلح بين أتباع يسوع وموسى ومحمد، بل هي كما كانت تقول كارين أرمسترونغ (The Holy war ) عن حق تكثيف هائل لصراع الهوية في المنطقة. الهوية الحضارية على وجه التحديد.

خلال الحروب الصليبية، والكلام لايزال لأرمستروغ، كان الأوروبيون يحاولون الخروج من قرونهم الوسطى الدموية عبر بلورة هوية جديدة اتخذت من الصليب شعاراً لها في حروبهم الشرق أوسطية. وهم اعتبروا أن هذا لن يكون مُمكناً ما لم يتم أولاً تقويض هوية الحضارات المشرقية، مُتمثلة في آخر عنقود فيها : الحضارة الإسلامية. وأصاب الصليبيون، استراتيجياً وإديولوجيا، حين اعتبروا أن السيطرة على فلسطين هو المدخل لهذا الهدف، لأن روح الحضارة المشرقية وهويتها ستهتز توازناتها بعنف إذا ما بُتر رأسها الفلسطيني.

وهذا ما عبّر عنه بدقة مذهلة الحوار بين صلاح الدين الأيوبي وبين أحد القادة العسكريين الصليبيين، حين كان الأول يمتطي جواده متجهاً إلى القدس للاحتفاء بفتحها. قال له هذا القائد: ماذا تعني لك القدس؟. أجاب صلاح الدين: لاشيء. ثم سار خطوات توقف بعدها واستدار إلى الوراء قائلاً :" كل شيء".

- I I -

إسرائيل تلعب الآن، ومعها الغرب الرأسمالي، الدور نفسه: بتر رأس الحضارة المشرقية الإسلامية في فلسطين ليس فقط عسكرياً وجيو- استراتيجيا، بل أيضاً إديولوجياً وثقافياً، أولاً عبر فصل الهوية اليهودية عن الحضارة الإسلامية التي لطالما كانت جزءاً مقبولاً ومصاناً فيها وفق مايصفه أرنولد تويني بـ"أعظم نزعة تسامح بين كل الأديان" ، ثم تسييد هذه الهوية نفسها على شتات هذه الحضارة.

مثل هذا التسييد لا يتم من خلال بعث الآلهة اليهودية (ألوهيم) الغاضبة في أنقاض معبد سليمان وحسب، بل أيضاً عبر مشروع مُتّسق مع ظروف القرن الحادي والعشرين: العولمة التكنو- رأسمالية النيوليرالية، التي يلعب فيها الرأسمال اليهودي دوراً بارزا. ها هنا نلتقي مع مشروع شمعون بيريز في "الشرق الأوسط الجديد" ومع نسختيه الأميركية (الشرق الأوسط الكبير ثم الموسّع) والأوروبيية (مبادرة برشلونة والاتحاد المتوسطي). ها هنا أيضاً نجد أنفسنا وجهاً لوجه ليس فقط مع مشروع كوتشير في "صفقة العصر"، بل أيضاً مع بعض المشاريع الاقتصادية الخليجية التي تشكّل في الواقع امتداداً لهذه الصفقة.

أين الهوية الحضارة المشرقية التاريخية في هذا الخضم الإديولوجي- الاستراتيجي اليهودي- الغربي الهادر؟ وفق مشاريع السلام الخليجية الراهنة، يجب أن تقتنع هذه الهوية بالأمور التالية دفعة واحدة:

- الاكتفاء بالفتات الاقتصادي الذي سيقدّم لها لقاء صفقة "السلام مقابل السلام"، والاحتفاء بتحوّل الفرد العربي والمسلم (خاصة الخليجي) إلى إنسان ذي بعد واحد استهلاكي، وتابع، وفاقد للهوية والذات ولمعنى الوجود الإنساني الحقيقي.

- اعتبار الهوية العبرية – اليهودية بداية تاريخ المنطقة ونهايته. وهذه ليست مجرد كلمات بلاغية فضفاضة، إذ شهدت حقبة أريعينيات القرن العشرين قبل وبعد قيام إسرائيل حركات فكرية- سياسية صهيونية (الصبارين والعبرانيين وغيرهم) تدعو إلى إعادة تهويد المشرق والخليج. والأرجح أن تنبعث هذه التيارات مجدداً الآن في إسرائيل. لا بل هي ستنبعث حتما.

- قبول قيادة إسرائيل للمنطقة، على اعتبار أنها القوة الأكثر ديمقراطية وتطوراً تكنولوجيا. أي عملياٌ قبول زعامة يهود إسرائيل للعالمين العربي والإسلامي. ومرة أخرى هذه ليست مجرد تعابير فضفاضة، لأنها من أسف مقبولة علناً الآن من بعض الخليجيين وحفنة مرتزقة من المشرقيين، ناهيك عن أنها هدف مطروح منذ المؤتمر الصهيوني الأول في بازل العام1897 : "إسرائيل شعاع النور والحضارة لكل الشعوب.

- نسف الهوية الحضارية- التاريخية للإنسان المشرقي (خاصة الخليجي)، عبر تفتيتها إلى هويات فرعية منغلقة طائفية ومذهبية وقبلية وإثنية، أو هويات هجينة مُتعولمة منقطعة الصلة بحضارات المنطقة وقيمها ومبادئها. وهذا قد يتم من خلال إخضاع الأنسان المشرقي إلى سطوة تكنولوجيا الثورة التكنولوجية الرابعة وشركاتها وجيوش مراكز الأبحاث الجرارة التابعة لها، والتي فصّل دورها بدقة المفكر العربي البارز جورج قرم.

- I I I -

هذه بعض سمات الزلزال الحضاري الذي قد يتسبّب به اندفاع بعض الخليجيين إلى الاعتراف بحق الحركة اليهودية الصهيونية في فلسطين. وهو زلزال، كما أسلفنا، في غاية الخطورة لأنه يأتي في وقت تندفع فيه كل أمم العالم وحضاراته في سباق محموم للحفاظ على قيمها ومداميكها الحضارية، ما قد تقيها شر تسوناميات عولمة تكنو- رأسمالية مُغرقة في ماديتها الميكانيكية، وفي تدميرها للبيئة وحتى لأسس الحياة برمتها على كوكب الأرض.

ماذا حلّ بأرض الحضارات والرسالات الأخلاقية- التوحيدية، كي تقبل بمثل هذا المصير الصهيوني- الرأسمالي الغربي البائس؟ كيف احتجبت هذه الشمس المشرقية التي نشرت على كل العالم قاطبة دفىء العواطف والحب والضمير، ونعمة الحرف والعلم والمعرفة، وحافز تجاوز الانسان لمحدودية الإدراك الحسي والقفز نحو عوالم أبعاد داخلية وخارجية لا تخطر على بال، لتحل مكانها ظلامية عتاة الأمراض النفسية الصهيونيين واتباعهم من بعض العرب الآن؟

كيف سمحت الثقافات العريقة الأولى في التاريخ هذه المُنتمية إلى حضارة مشرقية واحدة، أن يفقد ناس هذا الاقليم المشرقي المتوسطي الشاسع الممتد من حوض البحر المتوسط إلى أعالي الهضبة الإيرانية- التركية، ذاكرتهم الجماعية، وثقتهم بأنفسهم، وإيمانهم بدورهم في التاريخ، ليصبحوا أشبه برواد فضاء انقطع الحبل الذي يربطهم بسفينتهم الأم وتاهوا في فضاء بهيم ليس له قرار، أو ليتحوّلوا بين ليلة وضحاها من أسياد العالم الأخلاقيين والمُبدعين إلى عبيده الهامدين والتابعين؟ كيف يمكن أن يقبلوا بإدخال مليار ونصف المليار مسلم وأكثر من 100 مليون مسيحي مشرقي من خرم إبرة 5 ملايين صهيوني مُغرقين في أمراض نفسية عاتية عمرها 2000 سنة يعالجونها بحديد ونار الكراهية والانغلاق والاحقاد ونفي الوجود الإنساني لسبعة ملايين فلسطيني، بدل العودة إلى الاندماج بالحضارة التي احتضنتهم وحمتهم من محاكم التفتيش الاسبانية والمحارق النازية؟

كيف، ولماذا، ومَنْ، مزّق ويمزّق الوحدة الجيو- ثقافية العريقة لهذا الاقليم عبر قبول قطع رأسها الفلسطيني، ويدفع شعوبه نحو مهالك حروب طائفية ومذهبية وقومية وإثنية مدمّرة وعاتية ومريعة لا سابق لها سوى ربما الحروب الدينية- الجيو سياسية الأوروبية في القرن السابع عشر، التي قتلت نصف سكان القارة ودمّرت معظم معالمها الحضرية؟

طيلة قرنين ونيّف، كان المشرقيون يحاولون الخروج من عثراتهم الفكرية والاقتصادية والاجتماعية، لكنهم كانوا سرعان ما يَغرقون، أو يُغرقون، في مستنقع آسن يعج بكل أنواع الأوبئة والأفاعي والكوابيس المُتخيّلة أو الحقيقية، أساساً بسبب ما فعله الغربيون بهم طيلة هذين القرنين كما يعترف بشجاعة بول كينيدي.

والآن يأتي السلام التطبيعي الخليجي مع كيان عنصري- ديني- شوفيني مُغلق ليتمم مسيرة ومضاعفات هذا الزلزال الحضاري.

فهل ينجح؟..... (للحديث صلة)

 

السلام الإماراتي- الإسرائيلي: زلزال جيو- سياسي.. أم حضاري؟(3)

كان الله في عون عرب الخليج

سعد محيو

تساءلنا أمس: هل يُغلق السلام التطبيعي الإماراتي، ومن ثم الخليجي، مع إسرائيل دائرة الزلزال الحضاري؟

هنا أبادر سريعاً إلى تسجيل ملاحظة شخصية: من أشق الأمور على كاتب هذه السطور، وفي الواقع على أي إنسان لايزال يتمسك بقدر من القيم العليا ومسائل الضمير والأخلاق التي باتت عملة نادرة في عصر العولمة التكنو-رأسمالية، أن ينتقد سياسة بلد احتضنه هو عائلته طيلة سنوات سبع (1987-1994) إبان الحروب اللبنانية، وكان له فيها صداقات وهموم ومعارك مشتركة مع شخصيات إماراتية نقيّة وفذّة كتريم عمران وعبد الله عمرانً، ومن خلالهما تثمين رفيع لمواقف وإديولوجيا حاكم الشارقة الشيخ سلطان، دفاعاً عن الهوية العربية الحضارية، وفلسطين، والنهوض العربي، والقيم المشرقية.

أكثر من ذلك: في هذا النقد خوف على هذه الدولة، وعلى بقية شعوب الخليج، أكثر منه مجرد تعبير عن خلافات: خوف من أن يؤدي التطبيع إلى جملة معقّدة وفي غاية الخطورة من الأزمات التي قد تنفجر كالبركان كلها دفعة واحدة: اهتزاز الاستقرار الأمني الذي سمح بنهضة اقتصادية وثقافية وفكرية ملموسة دفعت العديدين إلى الحديث عن "لحظة خليجية" في التاريخ العربي؛ تفاقم مخاطر التركيبة السكانية المُختلة أصلاً بشكل مخيف بفعل احتمال تمدد الأزمات الإقليمية (من اليمن إلى ليبيا مروراً بالحروب مع تيارات الإسلام السياسي، والآن مضاعفات ومخاطر التطبيع السريع مع إسرائيل) إلى أرض الإمارات والخليج؛ والأهم: التشوّه "النهائي" الذي قد يضرب الهوية المشرقية العربية الإسلامية في الخليج على يد تحالف العولمة الرأسمالية واليهودية الصهيونية العالمية.

- II-

هذه الهموم والمخاوف الكبرى كانت موجودة قبل خطوة "السلام مقابل السلام" مع إسرائيل. وقد لخّصها المفكّر الإماراتي د. عبد الخالق عبد الله ( في كتابه "لحظة الخليج في التاريخ العربي المعاصر) كالآتي:

- "لحظة الخليج"، التي تمثّل انتقال مركز الثقل العربي إلى الجزء الخليجي، لا تنم عن أي استعلاء أو غرور. إذ لا يود الجزء الخليجي من الكل العربي أن يخترع لنفسه مكانة لاتليق به، وليس في وارد دوله تقمّص ريادة لا تناسبه، كما ليست لدى المواطن الخليجي رغبة في تقمّص شخصية وهوية غير هويته العربية.

- أمام "لحظة الخليج" تحديات جسام أهمها التحدي الأمني، والسكاني، والديمقراطي، والإصلاح السياسي، والتوفيق بين ما هو محلي وما هو عالمي. وهذا ما يجعل الجزء الخليجي قاصراً عن تقديم نموذج إديولوجي وسياسي وفكري مقنع يصلح لبقية المنطقة العربية.

- تعاني معظم دول الخليج من خلل سكاني كبير وتتّجه إلى مرحلة حرجة من اقتلاع الجذور. فقد تراجعت نسبة المواطنين في كل من قطر والإمارات إلى نحو 10 في المئة فقط من إجمالي السكان، وقد تصل فيهما إلى أقل من 5 في المئة العام 2027 وربما 1 في المئة سنة 2035 وصفر بعد ذلك. وهذا وضع كارثي سائد في بقية دول الخليج ولا سابق له تاريخيا.

- حسنات العولمة كثيرة وفوائدها الاستثمارية والتقنية والمعرفية ملموسة. لكن، كلما تمدّد الكل العالمي شبراً انكمش المكوّن المحلي والوطني متراً على كل مستوى من المستويات الحياتية والفكرية والسلوكية. وفي ظل الصعود المتواصل على سلّم العولمة، بدأت مجتمعات الخليج تفقد أموراً جوهرية وعزيزة، لها علاقة بالتراث واللغة والعادات والهوية والعروبة والعقيدة. وبالتالي، من دون حسم الجدل بين المكوّن المحلي والعالمي، ستعاني دول الخليج من عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي الذي يفاقم بدوره عدم الاستقرار الأمني.

- III-

إذا ما كان الوضع على هذا النحو من الخطورة قبل السلام التطبيعي مع إسرائيل، فكيف سيكون بعده؟

أقل ما يمكن أن يحدث هو أن المواطن الإماراتي والخليجي سيشعر بغربة كاملة عن بيئته المشرقية والعربية والإسلامية، وهو محاط بهذا القدر من التغريب بين عولمة تكنو- رأسمالية كانت لاتني منذ سنوات تقتلعه من جذوره الثقافية والتاريخية، وبين صهيونية ستدفعه الآن شاء أم أبى إلى القطيعة الفعلية مع كل الحضارة المشرقية العربية والإسلامية.

لقد حذّر عبد الرحمن منيف، في "مدن الملح"، قبل سنوات عدة من أن ترك الحبل على الغارب لحداثة منفلتة من عقالها، سيؤدي إلى جعل المواطن في شبه الجزيرة العربية أشبه بالضفدع في مرحلة نموه الوسيطة، حيث لا تكون له علاقة بماضيه ولن تكون له علاقة بمستقبله.

بيد أن الصورة ستكون أخطر الآن بما لا يقاس، لأنه سيضاف إلى تغريب الحداثة، تسليم الهوية الحضارية المشرقية العربية والإسلامية إلى حركة صهيونية عنصرية شوفينية كان أرنولد تويني أكد أنها لن تستطيع البقاء والاستمرار، إلا إذا قضت أولاً على الحضارة العربية الإسلامية. أحد هذين النقيضين يجب أن ينتصر. فهل سيكون المواطن الخليجي مستعد لمشاركة إسرائيل في عملية تدمير حضارته نفسها، وتاريخه نفسه، وقيمه نفسها؟

هذا هو الزلزال الحضاري الخطير الذي قصدناه، حين قلنا أن صفقة "السلام مقابل السلام" بين الإمارات وإسرائيل، لن تقتصر فقط على البعد الجيو- سياسي أو الاقتصادي أو التقني، بل ستضرب بمعاولها معنى وجود الإنسان الخليجي وشخصيته وتوازناته النفسية والحضارية.

وإذا كان من الصعب معرفة ردود الفعل الشعبية الخليجية على هذه القفزات الخطرة في الهواء، على رغم أن تجربة أسامة بن لادن، الذي شكّل هو الآخر رد فعل على تحديات الهوية، حاضرة وجاهزة، إلا أنه يجب القول أنه في حال أقدمت الشعوب والنخب العربية الأخرى على عزل شعوب الخليج، وإدانتها، والدعوة إلى قطع روابطها بالحضارة المشرقية، ستقدّم بذلك خدمة جلى لتحالف الصهيونية- العولمة، بدل مساندة العرب الخليجيين لمواجهة التسوناميات المخيفة التي تجتاح الآن كل شبر من أرضهم وكل بئر وواحة حضرية وحضارية فيها.

حقاً كان الله في عون أشقاءنا العرب الخليجيين.

***

ماذا الآن عن طبيعة الصراع الإقليمي الجديد في المشرق المتوسطي غداة "السلام مقابل السلام" الخليجي؟

 

السلام الإماراتي- الإسرائيلي: زلزال جيو- سياسي.. أم حضاري؟(4)

مكّة المُكرمة أُلحقت بالقدس المحتلة

سعد محيو....

القادة الشبان الجدد في المملكة السعودية ودولة الإمارات قاموا من دون أن يدروا، عبر اندفاعهم الحماسي والجامح نحو الاعتراف بحق اليهود التاريخي في فلسطين، بإلحاق مكة المكرّمة بالقدس المحتلة في رزمة واحدة تصطرع في داخلها كل عوامل التفجير: الإيديولوجي (أي إسلام نريد؟)، والثقافي (أي مسيحية ستسود: البروتستانتية الصهيونية أم الكاثوليكية والارثوذكسية)، والتاريخي، ومعنى الوجود، والحضارة، والحق والعدالة، والقيم العليا والأخلاقية.

لماذا تم هذا الالحاق غير الإرادي؟

لأسباب عديدة:

- فاعتراف هؤلاء القادة بالحق اليهودي (في حلّته الصهيونية الجديدة) في فلسطين، سيعني في الدرجة الأولى أن القدس لن تكون بعد الآن الجزء المُتمم لمكة بكونها أول القبلتين وثالث الحرمين في الإسلام. معبد سليمان الفعلي أو حتى الافتراضي سيصبح هو الأساس والكعبة هي الفرع بالنسبة إليه، على الأقل في معايير موازين القوى الإيديولوجية. وهذا ما سيجعل الصراع الديني في المشرق المتوسطي أسوأ بكثير مما كان عليه أيام الحروب الصليبية، لأنه سيضخ إلى الحاضر صراعات لاهوتية ماضوية رهيبة تعود ثلاثة آلاف سنة إلى الوراء.

- واضطرار القادة الخليجيين الجدد تبرير "السلام مقابل السلام" مع اليهود الصهيونيين باجتهادات فقهية إسلامية، سيطلق موجات تسونامية اعتراضية عملاقة في وجههم من قِبَل مروحة واسعة من الفرق الإسلامية السنّية كما الشيعية، التي ستطالب حينها بـ"تحرير" مكة والقدس معاً. لا بل هي ستعتبر على الأرجح هدف"تحرير" مكة هو المدخل لانقاذ القدس.

- ثم إن اندفاعة هؤلاء القادة الجدد إلى إضفاء صفة الإبراهيمية ("اتفاق إبراهيم") على صفقة السلام الأماراتي، ولاحقاً السعودي والخليجي، مع إسرائيل، سيفتح صندوق باندورا الديني على مصراعيه، وهو صندوق يعج بكل شرور غرائز التعصب اللاهوتي وكل شياطين الانغلاق الفكري. إذ عن أي إبراهيم نتحدث هنا: عن النبي إبراهيم الذي أسّس الكعبة وكان مُسلما، أو عن إبراهام الذي قامت سلالته العبرية ببناء هيكل سليمان في القدس وهوّدت فلسطين الكنعانية؟

II-

نسرع إلى القول هنا أن حظوظ القادة الجدد في السعودية ودولة الإمارات سيكون سيئاً للغاية.

إذ لو أنهم أقدموا على "فعلة" الحق التاريخي، فيما السلطة في إسرائيل في يد قوى "علمانية" صهيونية كتلك التي كان يمثلها شمعون بيريز وحزب العمال القديم (بن غوريون وجل القادة المؤسسين لإسرائيل كانوا ملحدين أو علمانيين)، لكانت الأمور أفضل كثيراً بالنسبة إليهم. إذ كان يمكن حينها أن يقال من كلا الطرفين الخليجي والصهيوني أن أوان الإديولوجيات المغلقة ولّى في القرن الحادي والعشرين، وأنه يجب تغليب المستقبل العلمي والتكنولوجي والتطوري والديمقراطي على ماضي الحروب والعصبيات المدمّرة. حينها كانت الغُربة ستبدو طفيفة بين مكة والقدس.

لكن الصورة بالطبع ليست على هذا النحو. فميزان القوى بين العلمانيين وبين الأصوليين في إسرائيل وعلى كل المستويات الديمغرافية والسياسية والثقافية، يميل بشدة لصالح الأطراف الأصولية التلمودية أو القومية الفاشية الصهيونية المستندة إلى هذه التلمودية. كل هؤلاء لا يفكرون بمستقبل إنساني وأخوي ومتسامح مع أولاد عمومتهم، بل يعيشون في ماضٍ لايزال يحكمه إله قبلي يهودي دموي وعنيف يطالب أسباط اليهود بقتل الاطفال، وسبي النساء، وتدمير القرى، وإحراق المدن، وإركاع كل "الغوييم الخنازير" تحت أقدام شعب الله المختار.

العنصرية الدينية- الإثنية المخيفة هي الحاكم سعيداً الآن في إسرائيل. وفي ظلال مثل هذه العنصرية، ستكون صلاة الخليجينن في المسجد الأقصى، كما يسمح بذلك "اتفاق إبراهيم"، أكثر شبهاً بحرية الصلاة في مزرعة جورج أورويل أو بالدعوات والابتهالات داخل زنزانات معسكر أوشفيتز النازي.

المسافة بين مكة المكرمة وبين القدس المحتلة تبددت، لكن ليس لصالح الحب الإلهي والمحبة والتسامح، بل لمصلحة الكراهية والضغائن التاريخية والأمراض النفسية الصهيونية.

ولذا، ومن الآن فصاعداً، سيكون الصراع من أجل القدس، صراعاً أيضاً من أجل مكة. والأعياد الدينية الإسلامية على أنواعها ستُعلّق إلى أجل غير محدد، خاصة منها عيد الأضحى.

***

ماذا الآن عن الصراعات الإقليمية الجديدة التي سيطلقها "اتفاق إبراهيم"؟....

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ملف خاص..200 يوم على حرب غزة..

 الأربعاء 24 نيسان 2024 - 4:15 ص

200 يوم على حرب غزة.. الشرق الاوسط...مائتا يوم انقضت منذ اشتعال شرارة الحرب بين إسرائيل و«حماس» ع… تتمة »

عدد الزيارات: 154,169,201

عدد الزوار: 6,938,286

المتواجدون الآن: 137