الترابط الأمني بين المغرب العربي والساحل: ديناميكيات متغيرة وتحديات متنامية....

تاريخ الإضافة الأربعاء 12 أيار 2021 - 11:46 م    عدد الزيارات 1105    التعليقات 0

        

الترابط الأمني بين المغرب العربي والساحل: ديناميكيات متغيرة وتحديات متنامية....

محمد أحمد كين.....

مركز كارنيغي....محمد أحمد كين أستاذ الدراسات الثقافية والهوياتية بجامعة ابن طفيل (القنيطرة)، ورئيس المعهد الأفريقي لبناء السلام وتحويل النزاعات. لمتابعته عبر تويتر @gainmedah

على ضوء الترابط بين الساحل ودول المغرب العربي، يبقى الأمن المستورد من أوروبا عاملا مقوضا للجهود المحلية الساعية إلى تحقيق الاستقرار والتمكين السياسيين.

تتصل التحديات الأمنية بالمنطقة المغاربية اتصالا جوهريًا بحالة عدم الاستقرار السائدة في منطقة الساحل، حيث تواجه هاتين المنطقتين أزمات أمنية كبرى، تتفاقم بفعل الترابط العميق بينهما. فعقيدة العداء الجيوسياسي التي تُؤثر في موازين القوة على الساحة المغاربية يتردد صداها بالساحل، بينما الأزمات الأمنية المُركبة التي تتمدد بدول الساحل أصبحت عوامل طاردة للمجموعات البشرية نحو الشمال، بشكل أصبح يلقي بظلاله على الأجندة السياسية بدول شمال إفريقيا والاتحاد الأوروبي أيضًا.

تُعتبر الإحباطات الهوياتية المتراكمة بالساحل، أحد الأسباب الرئيسة الكامنة وراء بروز مظلوميات بقيت مُعلقة دون حل بدول المنطقة، ما أدى إلى تصاعد التحديات الأمنية، وتعقيد لأي مساعٍ تُبذل من أجل تحقيق السلام هناك. ومثال ذلك ما نشهده من استغلال تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى (EIGS)، الذي يضم مجموعات عرقية تنتمي للطوارق وهالبولار، للمظلوميات الإثنية والنزاعات الأهلية التي تنشب في مناطق مثل بوركينا فاسو وشمالي مالي والنيجر، وذلك بهدف خلق تحالفات قائمة على المصلحة، يَجِد فيها البعض حاضنا يوفر له الحماية، وتشكل للبعض أداة يغذي بها نزعات التطرف، بينما تُحقق للبعض الآخر فرصة يوجه عبرها غضبه ضد الحكومات المركزية للدول، خصوصا وأن السياسات المناطقية المتوالية لسنوات، باتت تُذكي الممارسات الإقصائية ضد مواطنين وُضعوا قسرا على الهامش، ولم يجدوا بُدّا من توجيه أعمالهم الانتقامية ضد أي تجسيد لعدوهم المفترض.

تحتفظ فرنسا بحضور أمني قوي في منطقة الساحل، وذلك منذ تدخلها العسكري شمالي مالي في عام 2013، من خلال عملية 'سيرفال' التي حملت اسم عملية 'برخان' في عام 2015. واستمر هذا الحضور في الآونة الأخيرة، عبر قوة تاكوبا بقيادة فرنسا والاتحاد الأوروبي، التي انضمت إلى عمليات تحقيق الاستقرار في المنطقة. غير أن كل هذه العمليات التي قادتها فرنسا عانت من افتقارها للرؤية، فنجم عن تدخلاتها خسائر فادحة في الأرواح، ودفعت بالآلاف إلى الفرار، أمام موجات الإرهاب والعنف الأهلي المتصاعدين. وبينما يستمر الوضع الأمني في منطقة الساحل في التدهور، يثير الوجود العسكري الفرنسي سخطا كبيرا لدى الرأي العام في فرنسا.

يسعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، على بُعد سنة من الانتخابات الرئاسية بفرنسا المزمع تنظيمها سنة 2022، لإقناع الناخبين الفرنسيين بما يعتبره نجاحا في المهمة التي أُنشئت عملية برخان من أجلها. وقد أظهر ماكرون حماسة كبيرة في كلمته الموجهة لقمة نجامينا الأخيرة، حيث أشاد بدور دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، ومشاركة المغرب والجزائر في تصوره للتدبير الأمني للأزمات بالساحل. ومع ذلك، تُعد الاحتجاجات العارمة ضد الوجود العسكري الفرنسي، والتي شهدتها مالي في يناير 2021، مؤشرا ضاغطا يدفع فرنسا نحو تنزيل مقاربة أمنية بتكلفة سياسية منخفضة، لا تؤثر على سمعتها بالمنطقة، كونها تدرك أن وجودها في طليعة العمليات بالساحل يضعها في مواجهة مباشرة مع أي تحديات محلية وإقليمية، تهدد في النهاية مصالحها الاستراتيجية. وفي كلتا الحالتين، فإن الإعتماد الأحادي على المقاربة الأمنية يُنتج فهما قاصرا للأزمات المطروحة، كونها متجذرة ومتعددة الأبعاد، أضف إلى ذلك أن الاعتماد الفرنسي على دول مغاربية حليفة يتجاهل حقيقة أن كل من هذه الدول لديها خياراتها الخاصة في رسم سياستها الخارجية.

وفي نفس الوقت، يتأكد بالملموس وجود نموذج أمني متناقض في منطقة الساحل، تحاول فيه المقاربة الأمنية الدولية أن تُجهز على تطلعات المجتمعات المحلية، عبر اعتماد تدبير أمني للأزمات يستند على خطاب رنان موجه للجمهور الغربي، في إطار الحرب العالمية ضد التطرف العنيف، وتصوير منطقة الساحل قاعدةَ إسنادٍ للخلايا المتطرفة العنيفة الموجودة في أوروبا، قصد صرف الانتباه عن الهدف الغربي الأساسي المتمثل في الحفاظ على احتكار مستمر للوصول إلى الموارد الطبيعية الموجودة بدول الساحل. ويُقابل هذه السردية الغربية السائدة، رؤية أخرى محلية ذات ثقل مجتمعي وازن، تَعتبر أن الأمن لا يتحقق إلا بتنمية اقتصادية حقيقية تُجيب على انتظارات المجتمعات المحلية أولا، وأن المخططات الجيوسياسية الملتبسة للغرب هي ما يُهدد الأمن في منطقة الساحل.

إلى جانب هذا التناقض الحاصل بين التطلعات المحلية والمصالح الاستراتيجية للقوى العظمى بالمنطقة، يبرز اختلال آخر عميق يَطبع العلاقة بين المركز والأطراف، بشكل يُفاقم المظلوميات المحلية بقوة، في منطقة تواجه بلدانها تحديات أمنية كبرى، مثل تهريب المخدرات والاتجار بالأسلحة والبشر، وتزايد الهجمات الإرهابية وعمليات الاختطاف التي تستهدف المدنيين. ما جعل الأطراف في بلدان الساحل غير خاضعة لتأثير الحكم المركزي، وتحولت بذلك أرضًا خصبة لنشوء مدارات انتماء جديدة، تخلقها الجماعات غير الدولتية في المجالات الحدودية. وبذلك توفر هذه الجماعات "هويات" بديلة لسكان الأطراف، الذين يصبح تهميشهم حافزا يدفعهم للتماهي مع انتماءهم الجديد. معالجة المسألة الهوياتية في هذه البيئة المعقدة وغير المتجانسة بالساحل هي في واقع الحال مهمة صعبة، لأن أي محاولة أحادية لمعالجتها ستكون بالضرورة غير مجدية.

يجب أن تحظى إعادة بناء الثقة في الحكم المركزي لدى مجتمعات الأطراف، بأولوية قصوى في كل البرامج الوطنية والدولية التي تحاول توفير إجابات على حالة عدم الاستقرار السائدة في منطقة الساحل، بشكل يتطلب تغييرا في السرديات المعتمدة دوليا أثناء التعاطي مع أزمات منطقة الساحل والمنطقة المغاربية على حد سواء. وعلى سبيل المثال، لا تزال الهجرة تشكل مصدر قلق كبير بالنسبة للاتحاد الأوروبي، الذي اختارت دُوله تفويت مهمة ردع تدفقات الهجرة والتحكم فيها، لجيرانها الجنوبيين، عبر برامج تعاون غير متوازنة أو شراكات تهيمن فيها مصلحة الأوروبيين أساسا. ليظل هدف الحد من تدفقات الهجرة بعيد المنال، ما لم يحدث تغيير في مواقف الاتحاد الأوروبي تجاه العوامل الحقيقية الكامنة وراء استمرار موجات الهجرة غير النظامية. وكمثال لذلك، يَظهر جليا كيف أن التحديات الناجمة عن المقاربة الأمنية في التعاطي مع ظاهرة الهجرة من النيجر إلى أوروبا، قد أصبحت تفرض مراجعة عميقة للسياسات المعتمدة، بما يضمن تجاوز قيود التأشيرات وتكثيف ضبط الحدود، التي أثبتت محدوديتها في إيجاد الحل.

ليست الهجرة إلا واحدة من بين تحديات عالمية عميقة تواجهنا اليوم، كالتغير المناخي، الذي بات يقض مضجع البلدان الغنية والفقيرة على حد سواء. وهو ما يستوجب أن تأخذ السياسات، التي تهدف إلى الحد من تدفقات الهجرة، بعين الاعتبار حقيقة أن الساحل يُعد منطقة تطالها آثار التغير المناخي بشكل كبير، نظرًا لظروفها المناخية القاسية وبيئتها الهشة، بالإضافة إلى كونها قد شهدت منذ عقود نموًا ديموغرافيا كبيرا، واكبه تفشي لظاهرة الفقر، وانعدام الأمن الغذائي بها. قد تكون تأثيرات التغير المناخي على استدامة الموارد والأمن الغذائي بالساحل مأساوية، مع اعتماد غالبية سكان المنطقة على الموارد الطبيعية بشكل مباشر. تتصاعد النزاعات الأهلية بين الرعاة والمزارعين في النيجر ومالي وبوركينا فاسو، بسبب التنافس على الأراضي القابلة للاستغلال ومصادر المياه، والتي تُضاف إلى عوامل أخرى تزيد من هشاشة الوضع، مثل الفساد، وضعف الحوكمة، وتقلص نفوذ الحكومات المركزية، بما يعيق المقاربات الأمنية المعتمدة، ويُقَوض جميع المحاولات الرامية إلى إحلال السلام بمنطقة الساحل.

تحولت منطقة الساحل، على مدى العقد الماضي، إلى حاضنة لمجموعة من التهديدات الأمنية الحقيقية، التي جعلت منها جزءاً لا يتجزأ من مستقبل الاستقرار بالنسبة لمنطقة المغرب العربي والجيران الأوروبيين. وتتوفر للمغرب والجزائر فرصا هامة قد تقوي حضورهما، إذا تمكّن البلدان من إيجاد أرضية مشتركة تجمعهما، وتضمن التكامل الإقليمي المنشود بالمنطقة المغاربية، قصد مواكبة التحولات التي تشهدها الساحة الدولية. ما ينبغي أن يكون مزعجًا لهذين البلدين ولأوروبا، هو تنامي أنشطة الجماعات المتطرفة التي تجول في مساحات شاسعة من الجوار الجنوبي للمنطقة المغاربية بحدوده الهشة أمام اختراق هذه الجماعات، بالإضافة إلى الأنشطة غير المشروعة المنتشرة على امتداد منطقة الساحل. فقد ولّدت العلاقات المعقدة التي تربط المغرب والجزائر، انسداداً صعبا داخل هاته الكتلة الإقليمية، مما شكل حاجزًا أمام مشاركة فعّالة لدولتين يُعتبران من أهم شركاء أوروبا في مواجهة التهديدات المتنامية في منطقة الساحل. ومن نتائج هذا الإنسداد، ما أصاب اتحاد المغرب العربي من شلل ناجم عن استمرار الأجندات الجيوسياسية التي لا تزال تغذي النزاع في الصحراء الغربية، وفشل هذه المنظمة الإقليمية في الوفاء بأدوارها الأمنية التي خلقت من أجلها، لا سيما في الأزمة بليبيا، التي سيؤدي إحلال السلام بها، إلى تخفيف حدة العنف في منطقة الساحل، شرط أن تحدث تغييرات هيكلية على الأرض، بما في ذلك ضمان انسحاب المرتزقة والقوات الأجنبية التي قد تقوض الوحدة الوطنية، وتشوش على مساعي الحكومة المؤقتة لوضع حد للحرب الطويلة الأمد هناك.

من الطبيعي أن ينصب اهتمام السياسة الأوروبية على التحديات المرتبطة بغياب الأمن بمنطقة الساحل أو غياب الاستقرار بالمنطقة المغاربية، كونهما منطقتين تتواجدان على أعتاب الاتحاد الأوروبي. غير أن الموقف المتعالي الذي يظهره الاتحاد الأوروبي - لا سيما فرنسا وألمانيا - تجاه دول جنوب البحر الأبيض المتوسط، لا يخدم المساعي الهادفة إلى تحقيق أمن مشترك. فبدل إعادة إنتاج النموذج المتقادم الذي يرتكز على فكرة "الأمن المستورد"، بعد أن أثبت قصوره عن مواجهة التحديات، تبرز ضرورة تثمين الإمكانات المحلية والاستثمار فيها، وتغيير سرديات الاستعمار الجديد، بالإضافة إلى تفكيك التراتبيات المعطوبة، التي تصور الأوروبيين كصناع للسلام والسكان المحليين كرعايا للسلام الذي يصنعه الأوروبيون. لقد عاش سكان الأطراف في بوركينا فاسو ومالي والنيجر وتشاد وموريتانيا في ظل "سلام مستورد" وهش لعقود، وسيستمرون بوصفهم مصدرَ قلقٍ أمني كبير في منطقة الساحل، ما لم يتم الاستثمار في الإمكانات المحلية لهاته البلدان، لتحقيق استقرار إقليمي مستدام يتأسس على التمكين.

“حرب الظل” الإيرانية-الإسرائيلية تخاطر بالخروج عن السيطرة..

 الإثنين 15 نيسان 2024 - 9:21 م

“حرب الظل” الإيرانية-الإسرائيلية تخاطر بالخروج عن السيطرة.. https://www.crisisgroup.org/ar/middle… تتمة »

عدد الزيارات: 153,386,902

عدد الزوار: 6,890,127

المتواجدون الآن: 85