لا مواطنية في ظل تشريع الميليشيات

تاريخ الإضافة السبت 4 أيلول 2010 - 7:10 ص    عدد الزيارات 631    التعليقات 0

        


 

لا مواطنية في ظل تشريع الميليشيات
بقلم ميشال أبو نجم - جاد يتيم

أخطر ما كشفته المعارك العنيفة في برج أبي حيدر محاولة تطبيع ثقافة الميليشيا وسلوكاتها لدى اللبنانيين باعتبار أن الإقتتال الداخلي أمرٌ واقعٌ لا حول ولا قوة للبنانيين على ردِّ غائلته.
 وبعد أن ذُهل اللبنانيون بالجهوزية العالية للميليشيات المسلحة في أحياء العاصمة اللبنانية، أوحت تصريحات بعض الأقطاب والسياسيين أنه ما على الشعب اللبناني إلا رفع الراية البيضاء أمام دبيب الفتنة الزاحفة و"تطبيعهم" على انفجار ديناميات النزاع الأهلي وتقلّص دور الدولة كحاجزٍ بين المذاهب المتصارعة إلى الحد الأدنى.
هذا مع العلم أنَّ محاولات "التطبيع" على الأمر الواقع وسيطرة المنظمات الفلسطينية المسلحة على الشارع والكيان عشية حرب العام 1975 لم تفعل سوى تسريع الخطى نحو الهاوية.
هكذا فإن دعوة سياسيين لإقامة لجانٍ أمنية ما هي إلا استعادةٍ لسلوكات لجان الإرتباط خلال الحرب الأهلية والتي لم تعنِ إلا إمعاناً في ضرب هيبة الدولة. حتى أن هذه الآليات تفوح منها رائحة "اتفاق قاهرة" جديد غير مكتوب تتنازل فيه الدولة عن أبسط واجباتها وحقوقها وهيبتها.
لكن في حين أنَّ تلك الثقافة نشأت في الحرب على أنقاض الدولة المنهارة فإنها تتم اليوم تحت سمع وبصر ما تبقى من هيكل الدولة المتصدعة بنزاعات الداخل ووطأة "الفوالق الزلزالية" للصراعات الإقليمية المتعددة على الكيان اللبناني.
وكان على اللبنانيين أن ينصتوا بألمٍ وأسفٍ إلى سياسيين يستخفون بخطورة الوضع الراهن عبر التعجب من إثارة موضوع ما وصفوه بـ "السلاح الخفيف"، في تشريعٍ رمزي للتسلح وتالياً توفير أرضية مثالية لحروب الزواريب المتناسلة والتي لا تحتاج بالطبع إلى مدافع وصواريخ باليستية بل إلى مجرد سلاح... "خفيف"!
 ولكي يُستكمل خطاب ازدراء الشعب اللبناني في سياسة التَورية اعتُبرت الحادثة "فردية" جداً وبين أطراف "الخط الواحد"، وهكذا فإنه من غير المقبول استنكار سياسيين لسقوط ضحايا بـ "نيران صديقة" وكأن سقوط ضحايا من الخصوم السياسيين أمر مقبول!
 إنه الخطاب الخشبي المموّه الذي، وإن كان هدف أصحابه التهدئة، ربما، فإنه لا يضع إصبعه على جرح النزاع وجوهره، ومن ينسى أن التفسير الشعبي لأسباب حوادث 1840 و1860 في الجبل كان يستند إلى رواية الخلاف "الفردي" على "الكِلَّة" و"الحجل" بين مسيحيين ودروز؟!
التشريع المعنوي لثقافة الميليشيا و"تطبيع" النزاع الأهلي يؤازره تراجع الدولة عن تأدية مهماتها الأساسية في تأمين الأمن والسلامة، إلى خانة الحياد السلبي في الإقتتال الداخلي.
 ليس أبلغ من التعبير عن محدودية قدرات "الدولة" تصريح وزير الداخلية بالقول إن اللجنة الأمنية الوزارية لن تجترح العجائب، فكيف إذا حددت لنفسها خطوطاً حمراء في عدم الحديث عن سلاح "حزب الله" في بيروت؟ أما قرار وزير الدفاع بوقف رخص الأسلحة فهو تعبيرٌ آخر عن شكلية "الدولة" وقراراتها وعدم تطبيقها إلا على من يلتزم القانون في المبدأ، في ظلِّ لعلعة السلاح غير المرخص وغير الشرعي والذي لا يوجد أي قرار بسحبه لا بل يتم تحصينه ويُستخدم من ضمن تعجيز تحقيق مطالب المواطنين المحقة عبر اعتبار السلاح الفردي أمراً واقعاً. وأبرز مظاهر انكفاء الدولة أو حياديتها في الصراع الأهلي ما يعبر عنه سلوك الجيش الذي الذي يأتمر بأوامر السلطة السياسية، فنراه لا يبادر إلى ضرب المسلحين بل إلى تطويق رقعة الإشتباكات وحصرها، وهذه الصورة هي أكثر ما يعزِّز الشعور بعدم الأمان والقلق لدى المواطنين.
 إنَّ تعرّض الجيش لانتقادات لعدم تدخله، لا يقلِّل من حقيقة أن سلوك المؤسسة العسكرية يجد جذوره في سوابق للجيش اللبناني إزاء النزاعات الأهلية (ثورة 1958 وسلوك فؤاد شهاب، أحداث 7 أيار 2008،...). لن تُستَخدمَ وحدات الجيش في ضبط نزاعٍ أهلي تخوضه قوى سياسية ومذهبية لديها ما لديها من تمثيلٍ، تحت وطأة انقسامٍ سياسي حاد، ومن الخطأ المنهجي بمكان اعتبار الجيش مؤسسة خارج البنية اللبنانية المتعددة ومتعالية عليها وقادرة على فرض حلولها على حوادث وسياقات قد تتفاعل وتؤثر سلباً على الجيش.
يدفع هذا الواقع إلى رسم صورةٍ لبنانية مقلقة جداً. ثَبُتَ أنَّ ما نشهده منذ اتفاق الدوحة وتشكيل حكومة وحدة وطنية بعد الإنتخابات النيابية الأخيرة ليس سوى هدنةٍ طويلة يلتقط فيها البعض أنفاسهم في استعدادٍ محموم لخوض معركة شرسة وتحقيق أوهام الحسم ضد الطرف الآخر، وأنَّ ديناميات الصراع لا تحتاج سوى إلى الفتيل لإشعالها. والأسوأ أن الإحتقان المذهبي في لبنان والذي تعززه عوامل عدة هو في شكلٍ أو آخر رجع صدى للمخاض المجبول بالدماء الذي يعيشه الشرق الأوسط في صياغة مستقبل دوله وجماعاته انطلاقاً من العراق.
 لم تتعلم الجماعات اللبنانية من دروسها القاسية في الحرب وها هي اليوم تتعامل مع معارك برج أبي حيدر من خلال منظارٍ نزاعي يؤدي إلى المزيد من تفكك الدولة والتوتر وتشدد الأفرقاء المعنيين وتمترسهم وراء خنادقهم. وكل الشعارات التي قد تبدو براقةً ومحقّة في الشكل تسقط فاعليتها ما دامت لا تبغي حلاً حقيقياً بل غلبةً ولي ذراع في المعركة المذهبية الكبرى.  يقع ضمن هذا السياق شعار "بيروت منزوعة السلاح". فهذا الشعار في المبدأ مطلبٌ محق لكنه جزئي ولا تنفصل بعض خلفياته عن الصراع المذهبي. المطلوب تحديد الهدف بدقة: لا يمكن أن تنعم منطقة لبنانية بالشرعية دون منطقة أخرى، أو أن ينعم مواطن لبناني بالأمن بينما يفقده آخر وجميعنا متساوون في الحقوق والواجبات بحسب الدستور.
إنه المبدأ: الدولة هي فقط من يحتكر العنف. وإنَّ آليةً – إن وُجدت - لمعالجةٍ جدية للسلاح الفوضوي يجب أن تشمل بدايةً كل بؤر التوتر من باب التبانة إلى صيدا فالبقاع وغيرها من المناطق، لكن تحت سقف تفاهم سياسي يعزز الأمن ولا يعلو فوق سلطة الدولة في تأمين حق المواطن بالحياة.
ولكي تنجح الآلية يجب أن تشمل كل بؤر التوتر المحتملة ونزع السلاح منها إضافةً إلى بيروت. طرابلس التي اختيرت قبل عامين لكي تكون ميداناً للرد على مفاعيل 7 أيار 2008 في شوارع باب التبانة- جبل محسن؛ صيدا حيث الأولوية بسبب غابة المنظمات المتطرفة والأسلحة في مخيم عين الحلوة؛ سلاح المنظمات الهجينة ما بين الإنتماء الطائفي والمشارب السلفية والجهادية التي برزت في مجدل عنجر قبل عامين وفي مجزرة حلبا؛ السلاح في خطوط التماس التي استحدثت بقاعياً في أحياء سعدنايل وتعلبايا حيث استخدمت في تلك المواجهات قذائف الهاون ولا نعتقد عند حدود علمنا بنوعيات السلاح أنه سلاح خفيف!!!...
إن وجوب مغادرة السلوك النزاعي يحتم على "حزب الله" قراءة نقدية لبعض سلوكاته. إذ أن تحريم البحث في نزع السلاح في بيروت وباقي المناطق تحت حجة توصيفه بأنه سلاح "المقاومة" لا يقنع الجمهور اللبناني الذي يميز جيداً بين السلاح المقاوم ضد إسرائيل وذلك الذي يستخدم في الداخل. وهنا المطلوب من الحزب عدم السماح للبعض باستغلال رصيد المقاومة من أجل المشاركة في اشتباكات في أحياء بيروت وغيرها، لا لشيء سوى لأن هذا البعض ينتمي للطائفة الشيعية.
وهكذا فإنه على "حزب الله" أن يحمي المقاومة من خلال الالتزام بقوانين الدولة واحترام حق المواطنين بعيش آمن، وإقفال النوافذ وخاصةً محاولات استدراجه إلى نزاعٍ أهلي مع السنّة في الزواريب.
ذلك أن النزاع المذهبي مع السُنّة مشتهى خصومه في الداخل والخارج ومقتله لذا فإن مبادرة الحزب لا تضعفه، وكان معبّراً جداً موقف الرئيس السابق للحكومة سليم الحص المؤيد للمقاومة والمفترض أنه حليف "حزب الله" في تأييد شعار "بيروت منزوعة السلاح"، وهو موقف يجب قراءته جيداً. وقد ثَبُتَ أيضاً أن حلفاء "حزب الله" في الطائفة السُنيّة ما زالوا متأخرين بأشواط عن تشكيل بديل أو حتى إيجاد موطئ قدم راسخ في البيئة السُنيّة المضطربة المتفاعلة كما البيئة الشيعية مع خطوط التصدع المذهبي الإقليمي من باكستان إلى العراق.
تراوح المذاهب بين حدّي تفضيل التعددية السياسية في زمن الهدوء النسبي (مَثل الإنتخابات البلدية وتراجع تيار "المستقبل" وقوى أخرى في بعض المناطق) وخيار التوحد والإلتفاف حول القوة الأكبر والأفعل في الطائفة والمذهب في زمن الإحتراب والإقتتال الأهلي (وهذا ما شهدناه في برج أبي حيدر).
إن كل المواطنين اللبنانيين على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم لا يطلبون المستحيل من قواهم السياسية ومما تبقى من دولتهم – أو من الجزء الدولتي الذي لا يمثل أفرقاء النزاع المباشرين – بل يتمسكون بأبسط حقوقهم في عدم الرجوع إلى فترات أليمة مظلمة سابقة. وهم يدرجون أيضاً على لائحة مطالبهم الخروج من الخطاب الخشبي والتَوريات وازدراء اللبنانيين الذين لا يزال لدى بعضهم حس نقدي ووعي يحفزهم على السخرية من طبقة سياسية أسيرة نزاعاتها ومحاسبتُها لا تتم في الداخل.
 يحق لنا كلبنانيين أن نتمتَّع ببلدنا بعيداً من صراعات النفوذ الإقليمية التي تستغلُّ الساحة اللبنانية المشرَعة ومن النزاعات الأهلية التي يكون الأبرياء وقودها، من دون أن ننسى أن هذا الواقع يدعو النخبة والقوى اللبنانية الفاعلة إلى التبصر في آفاق المستقبل، والبحث عن صيغةٍ جديدة تستوعب كل هذه التناقضات، وتريح الطوائف المتذابحة، وتفتح المجال أمام استقرار راسخ ذي ركائز داخلية يقفل النوافذ أمام دخول العرب والعجم والتركمان والفرنجة و.... 


(ميشال أبو نجم أمين سر مركز عصام فارس للدراسات اللبنانية  - ناشط في التيار الوطني الحر جاد يتيم صحافي في "النهار" - ناشط في صفوف 14 آذار)

Sri Lanka’s Bailout Blues: Elections in the Aftermath of Economic Collapse…...

 الخميس 19 أيلول 2024 - 11:53 ص

Sri Lanka’s Bailout Blues: Elections in the Aftermath of Economic Collapse…... The economy is cen… تتمة »

عدد الزيارات: 171,109,202

عدد الزوار: 7,621,229

المتواجدون الآن: 0