هل تهجير مسيحيي العراق دفْعٌ للمسيحية لمغادرة شرقها ؟

تاريخ الإضافة الأربعاء 8 أيلول 2010 - 7:49 ص    عدد الزيارات 589    التعليقات 0

        


 

 هل تهجير مسيحيي العراق دفْعٌ للمسيحية لمغادرة شرقها ؟

انطلق من مشهد الواقع العراقي المؤلم، وهو مؤلم اليوم لشعب العراق بمجمل مكوناته الاجتماعية. الا ان التنكيل، ومن ثم التهجير الذي يطال المسيحيين العراقيين، مؤلم وجدانيا ومصيريا، لانه يهدد  اقلية بالرحيل وافراغ العراق من مسيحييه، وللاسف نحن ملزمون الحديث بلغة الاقلية والاكثرية، بالرغم من اننا نعتبر انفسنا، ونعتبر الجميع، مواطنين في دولة واحدة، متساوين في الحقوق والواجبات. نحن نعرف ان الجماعة الاشورية الكلدانية السريانية مجزأة الى اقسام عدة، ابرزها الكنيسة الكاثوليكية وكنيسة المشرق والكنيسة السريانية الارثوذكسية، الا ان ما يجمع بينها هما اللغة والثقافة السريانية، التي كان لها عزها في مختلف الانتاج الفكري ولا يزال. والكل يشهد على الدور الذي اضطلع به هؤلاء خلال الاجيال السابقة وفي حقبة الخلافة العباسية على مختلف الصعد، دينية او روحية او علمية او طبية او فلسفية، واثرهم في حركة التأليف والنقل والترجمة. فمن المعروف انهم اليوم يتوزعون سكانيا الى مساحتين مهمتين في العراق:
- اولا: في الشمال، في منطقة كردستان العراقية، حيث يعيشون في نحو 120 قرية. وفي سهل نينوى، وفي مناطق تل كيف وقراقوش وشيخان حول الموصل.
- ثانيا: في المدن الكبرى، في بغداد والموصل وكيركوك والسليمانية والبصرة، ووجودهم في هذه المدن، او في بعض الاحياء التي كانت تقليديا مسيحية، مهدد بالزوال بالفعل منذ العام 2003، اذ ان الكثير من العائلات هجرت الى امكنة اخرى في العراق او في خارجه. ففي البصرة مثلا، من عشرات الوف المسيحيين، لم يبق سوى عائلات معدودة، وفي مدينة بغداد، تم تنظيف احياء الدورة والميكانيكس والمهدي والبيعة من المسيحيين، في حين ان احياء اخرى سلمت حتى الآن من هذه العملية، لكن حتى متى؟ وفي الموصل، نعلم انه من اصل عشرة مسيحيين لم يبق اليوم سوى ثلاثة.
وفي لغة الارقام الرسمية يقول الاحصاء الاخير في السنة 1977 ان نسبة 2,14 من سكان العراق هم مسيحيون، وان نسبة النمو في صفوفهم تراجعت من 3 في المئة في 1957 الى 0,73 في 1977. اما اليوم فمن الصعوبة بمكان ان نحدد الرقم الموضوعي، وان كان بعض الاختصاصيين يقول ان عددهم هو ما بين 530 الفا و650 الفا. اما الهجرة، فتتم في اتجاهين، الاول صوب الشمال الى كردستان والثاني صوب لبنان والاردن وسوريا، حيث تقدر الجمعيات غير الحكومية عددهم ما بين 40 او 50  الفا. وهؤلاء ينتظرون رحيلهم نحو بلدان اكثر استقرارا، خصوصا من الناحية الاقتصادية. وقد سبقهم الى بلدان اوروبا واميركا اكثر من 100 الف خلال العشرين السنة الماضية.
اما مشهد الواقع اللبناني، فلا اود الاستفاضة في ما يخصه، وهو الذي شهد هجرة موسعة لمسيحييه ابان الحرب ما بين 1975 و1990، وهي هجرة طالت عشرات الالوف من العائلات، وان عاد بعضها بعد استقرار الاوضاع، والبعض يقدر العائدين من المسيحيين بما لا يقل عن 100 الف، ولهذه العودة رمزيتها. الدراسات تحدثت عن هجرة نحو 950 الف لبناني، ولهذه العودة رمزيتها. الدراسات تحدثت عن هجرة نحو 950 الف لبناني، 60 في المئة منهم مسيحيون، واكثر من 40 في المئة من اصحاب الاختصاصات النوعية ما بين 1975 و1990. اما عن لغة الاعداد والنسب المئوية لسكان لبنان وتوزعهم طائفيا، فهناك الدراسات ذات الطابع التشاؤمي وغيرها ذات الطابع التفاؤلي، في غياب اي احصاء رسمي منذ 1932، اذ منها تحدث عن 60 في المئة مسلمون و40 في المئة مسيحيون، والبعض الآخر اقل من ذلك، في حين ان الاسقاطات المستقبلية تنبىء بانحسار مهم في عدد المسيحيين، الا ان ما يرجوه البعض هو ان يكذب الواقع تنبؤات المنجمين. لكن الهجرة حاليا وان خفت وتيرتها، فهي مستمرة وتطال المسلمين والمسيحيين على حد سواء، اذ ان 50 في المئة من متخرجي الجامعات في لبنان يتحولون الى الخارج لايجاد عمل لهم. اما في الساحة السياسية المسيحية، فالخلاف حاصل اولا على المصالح المحلية الضيقة، وثانيا على الارتباطات الاقليمية والدولية، وعلى السلاح ومصيره، وعلى تركيبة لبنان السياسية المستقبلية، ويصل في غالب الاحيان الى حد الانشقاق والتباعد والقطيعة، و حتى الكراهية. وما تجدر ملاحظته ان جزءا من المسيحيين يعارضون مواقف البطريرك الماروني معارضة شديدة الى حد اتهامه بالانحياز الى فريق ضد آخر، والى لعب دور سياسي لا يعود اليه.
من هذين المشهدين العراقي واللبناني، اود استخراج بعض الاسئلة والافكار:
- الواقع العراقي يقترب اليوم من واقع عاشه المسيحيون اللبنانيون ابان الحرب، خصوصا في بداية الثمانينات، عندما اطلق البابا يوحنا بولس الثاني عبارته الشهيرة: "ان لبنان اكثر من وطن، انه رسالة...". وذلك في وقت كان الوجود المسيحي مهددا بالزوال. والى حد ما، نجحت هذه الصرخة في الحد من التبعات السلبية على المسيحيين وعلى اللبنانيين. وفي شكل عام، الوجود المسيحي اللبناني، من الناحية السياسية، مختلف عن الوجود المسيحي العراقي، اذ ان المسيحيين في لبنان، بحكم الاتفاقات والمواثيق، هم شركاء في الادارة السياسية للبلاد. الا ان الوجود السياسي ليس كل شيء، بل انه يصبح مصدر صعوبات ومشكلات قاسية عندما يختصر كل شيء بالطائفية السياسية. الوجود الاجتماعي المسيحي اللبناني، في علاقته بالوجود الاجتماعي الاسلامي هو الاساس وليس العكس، وان يكن تفاعلا قويا بين الوجودين، السياسي والاجتماعي. من هذا المنطلق، للقيادات وللفعاليات الدينية والاجتماعية والفكرية، المسيحية والاسلامية، وللمجتمع الاهلي دور اساسي في بنيان العيش المشترك وتعزيز القيم المشتركة الكفيلة بتعزيز هذا العيش التبادلي، اكان ذلك في لبنان او في العراق. ففي العراق، ان لم يكن للمسيحيين دور يذكر اليوم على الصعيد السياسي، فهم واعون ان لهم الدور الاجتماعي القوي لمد الجسور مع الآخرين والتعبير عن هواجسهم لتعزيز هذا العيش المشترك، وصون حرياتهم الاساسية.
هل ان تهجير المسيحيين العراقيين من بلادهم – وهذا هو السؤال الاول الجديد الذي يطرح – هو مقدمة لتهجير المسيحيين برمتهم من الشرق؟ وهل ان هجرتهم من فلسطين ومن القدس بالذات، تحت وطأة الضغط الاسرائيلي وغير الاسرائيلي، هو دفع للمسيحية لان تترك شرقها الذي ولدت منه وفيه شاهدة لايمانها وخادمة لمحيطها؟
لا شك في ان الانفلات الامني، على سبيل المثال في العراق، يطال كل المواطنين، الا انه في بيئة ينمو فيها المنحى التكفيري، انما يتوجه هذا الانفلات صوب المستضعفين، وخصوصا الاقليات المسيحية التي لا ظهر لها سوى الله! وعندما تكون لهذه الاقليات، وخصوصا مكانتها الفكرية والاقتصادية والتاريخية، يصبح التواطؤ عليها من الداخل وضمن خطة معدة سلفا، امرا واقعا لتجريدها من ثروتها، ولتجريدها من ثروتها لابد من ارهابها عنفا وقتلا، وبالتالي يسهل ترحيلها والامساك بمخلفاتها. فهل ان الاسلام او المسيحية يقبلان بهذا النوع من التصرف؟ واذا كانت الدولة مشلولة ولا تستطيع ان تتحرك، اليس من واجب القيادات الدينية والاجتماعية الفاعلة، على مستوى المجتمع، التحرك في شكل جذري لمنع هذه التجاوزات؟ كيف نتحدث عن حوار اسلامي – مسيحي او عيش مشترك ان لم يتم الالتزام والدفاع عن ابسط مقوماته، وهو بقاء الآخر في بيته؟
الواقع الاقليمي العربي والشرق اوسطي بوجه عام، ومع اشتداد عصر العولمة، يطغى عليه بروز الاحاديات والكتل المتراصة ذات الطابع الاتني والمذهبي والعرقي والطائفي، وكل يريد ان يدافع عن نفسه من الآخر خوفا منه. ولا شك ان المجموعة المذهبية او الطائفية الضعيفة التي تحاول ان تقوي نفسها بأن تصبح كتلة مدافعة عن نفسها، تصبح عرضة للهجوم من الآخر القوي الذي يريد ان يثبت اقدامه امام من هو قوي مثله ويتصارع معه على السلطة. والمسيحيون هم الحلقة الاضعف في هذا المجال. ولذلك فانه من مصلحة المسيحي ان يتعزز دور الدولة المدنية، وهذا ما تطالب به بعض المرجعيات الاسلامية بالذات.
استنادا الى ما سبق، يبدو ان العالم العربي مجتمعا يواجه اليوم، عبر الخوف من انحسار مسيحييه، تداعيات صراع الحضارات، كنظرية احادية لفهم تاريخ البشرية وتفسيره وتحديد مساره، كما شرحها وصنفها الاميركي صموئيل هنتنغتون. ولان ثنائية الصراع هي بين الغرب المسيحي والشرق المسلم، يصبح من المحتم تشجيع سفر المسيحيين المشرقيين وانتقالهم الى العالم الغربي، وبالتالي ازالة انتشارهم في ارجاء العالم الشرقي كاقلية، لان المسيحية الشرقية هي أول من نادت بالدولة الوطنية المدنية ولا تزال، ولانها هي شاهد فعلي على التعددية والعيش المشترك والحياة التبادلية التي هي اساس الدولة الديموقراطية المدنية. وهذا الوجود المسيحي في النطاق الانطاكي هو النقيض الوجودي لنظرية صراع الحضارات كمظهر لصراع الاديان، وهو ايضا نقيض الاحادية الدينية الصهيونية، المتمثلة بالكيان الاسرائيلي.
انا أرى الشرق من دون مسيحييه مشروع افناء ذاتي. في وثيقة الفاتيكان التي اعلنت في بداية حزيران 2010 كورقة عمل لسينودس البطاركة والاساقفة الكاثوليك من الشرق والغرب الذي سينعقد في روما في شهر تشرين الاول المقبل، ورد الآتي: "ان رحيل المسيحيين سوف يكون نهاية التعددية". أحدهم، في صحيفة بيروتية، علق قائلا: "ان هذا التصريح لا يخيف الذين يودون العيش من دون الآخر، وسوف يعتادون على العيش من دون تعددية. وربما كان هذا الصوت على شيء من الصواب، الا انه لا يخفى عليه ان التعددية هي مرادف للحرية وهي ظاهرة عالمية اليوم، وهي كالاوكسيجين الذي لا يستطيع المرء العيش من دونه، وبالتالي هي ثراء واثراء للجميع.
السينودوس الكاثوليكي سيدعو الى مراجعة مفهوم دعوة وجود المسيحيين في الشرق. "هم وجدوا هنا وهم سكان اصيلون"، يقول مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك. "صحيح ان عددهم تناقص ويتناقص، ولكن هذا لا يجب ان يكون مدار خوف او هجرة". الخوف الحقيقي يكون ان لم يتحرك الآخر في الوطن وفي الشرق الى التمسك بوجود ذلك الآخر المسيحي، ولم يقل له كلمة تطمئن، وان لم يؤم جماعته قائلا بوضوح ان هذا الآخر يحيا معنا، لا ليأخذ من طريقنا امتيازات وسلطة، يحق له كل الحق في الامن والامان والحياة الكريمة، وهذا حق له لا منة. الفكر السياسي الحديث يؤكد ان الجميع، مهما اختلفوا، هم ضمانة للجميع، وان اي واحد هو ضمانة للآخر.

الأب سليم دكاش     
(راهب يسوعي، عميد كلية العلوم الدينية في جامعة القديس يوسف – بيروت (النص جزء من ورقة عمل اعدها وقدمها في "مؤسسة الحكيم").)      

Sri Lanka’s Bailout Blues: Elections in the Aftermath of Economic Collapse…...

 الخميس 19 أيلول 2024 - 11:53 ص

Sri Lanka’s Bailout Blues: Elections in the Aftermath of Economic Collapse…... The economy is cen… تتمة »

عدد الزيارات: 171,109,786

عدد الزوار: 7,621,279

المتواجدون الآن: 1