حرب وايزمان - بن غوريون في نسختها العربية: هل سيبقى شيء من فلسطين للفلسطينيين؟

تاريخ الإضافة الإثنين 26 كانون الثاني 2009 - 1:34 م    عدد الزيارات 960    التعليقات 0

        

يحيى غانم *    

«... حين اندلعت الحرب العالمية الأولى، بدا جلياً أن البناء الصهيوني هش يسهل تحطيمه، وأن تذروه الرياح...». هكذا وصف إبراهام ليون أحد كبار المؤرخين اليهود للحركة الصهيونية، الوضع الحرج الذي انتهت إليه الحركة في بداية الحرب العالمية الأولى. ولم يكن ليون الوحيد الذي توصل إلى هذا التشخيص للمأزق السياسي والتمزق النفسي الذي كانت تعانيه الحركة الصهيونية في تلك المرحلة المفصلية من تاريخها. ففي تقويمه الأزمة التي مرت بها الحركة الصهيونية، يقول إيزايا برلين أستاذ النظرية الاجتماعية والسياسية في جامعة أكسفورد: «ستبقى السنون التي سبقت الحرب العالمية الأولى تمثل فصلاً شديد الجفاف في تاريخ الصهيونية، حين يئس كثير من اليهود من جدواها، ناهيك عن تزايد قوة سواعد اليهود الأرثوذكس المتدينين الذين تصاعدت اتهاماتهم للصهاينة اليهود بالكفر لمحاولتهم استباق إرادة الربّ بتنفيذ وعوده في التوراة، بهدف الإسراع بنزول المسيح إلى الأرض، إضافة إلى اشتداد عداوة مثقفين يهود كثيرين في الغرب، رأوا في الصهيونية محاولة خطرة لإشغال اليهود بشوفينية مصطنعة، يمكن أن تسيء الى علاقاتهم بمواطنيهم الذين ينتمون إلى عقائد دينية أخرى...».
ويستطرد المفكر اليهودي قائلاً: «... ويتمثل أحد جوانب الأزمة العميقة التي مرت بها الصهيونية في بداية القرن الـ20 في ذلك البون الشاسع الذي فصل بين طموحات الحركة الصهيونية، وتصورها لمدى نفوذها ونفاذيتها لدى القوى الاستعمارية الكبرى في العالم، وبين حقيقة هذا النفوذ الذي كان أقل بكثير من التقديرات المبالغ فيها...».
وتطبيقاً لما أكده بيرلين، نجد أن الحركة الصهيونية فوجئت عشية الحرب العالمية الأولى بانشغال الدول الإمبراطورية الكبرى عن الصهيونية، واتضح أن المصالح التوسعية الإمبريالية لهذه الدول كانت أكبر بكثير من حجم العطف على الحركة الذي قدره زعماؤها في ذلك الوقت.
إلا أن البعد الثاني الأخطر لأزمة الصهيونية في تلك المرحلة، لم يقتصر فقط على انشغال الدول الإمبريالية عنها، وإنما تجاوز ذلك - وهو الأخطر - ليصل إلى حد انشغال الطوائف اليهودية عنها أيضاً. وفي هذا السياق، يمكن قراءة ما كتب المُنَظّر اليهودي بن هلبرن في كتابه «فكرة الدولة اليهودية»:
«... خلال العقد الذي سبق الحرب العالمية الأولى، تعددت الأيديولوجيات اليهودية التي طرحت رؤى متناقضة لحل القضية اليهودية، والتي كان من بينها الصهيونية بدعوتها العالمية لليهود، والحركات القطرية التي دعت الى ترسيخ حقوق الأقليات اليهودية، كل منها في بلدها...». وعلى رغم أن هلبرن لم يحدد مكانة الصهيونية في هذه الدوامة من الأيديولوجيات اليهودية، إلا أن الوقائع تؤكد أنها لم تكن أقواها.
وحملت بدايات القرن العشرين إرهاصات قوية لاستقطاب هائل تعرضت له الحركة الصهيونية اليهودية، أدى عملياً إلى صدع كبير في بنائها الفكري والحركي والتنظيمي. ففي حين انحاز الصهاينة الألمان الى امبراطوريتهم الألمانية الناشئة، انتصر الصهاينة البريطانيون لإمبراطوريتهم العتيدة.
وفي هذا السياق، سنجد أن الصهاينة الألمان حاولوا صوغ رؤيتهم في إطار القومية الألمانية والتزامهم واجبات المواطنة حيال وطنهم الأم ألمانيا، في حين اكتسبت الصهيونية في إنكلترا نكهة تميل إلى الوطنية البريطانية.
لذلك، ما إن وقعت الحرب العالمية الأولى في عام 1914 بين دول الحلفاء من ناحية، وبين دول المحور من ناحية أخرى، حتى اشتد الاستقطاب القومي داخل المنظمة الصهيونية، ناهيك عن تعمق الصراع الطبقي داخل الطوائف اليهودية في المعسكرين.
وفي هذا الإطار، فإن كثيرين قد يدهشون عند معرفتهم أن المنظمة الصهيونية العالمية في وقت اندلاع الحرب العالمية الأولى كانت تتخذ من العاصمة الألمانية برلين مقراً لها، كما أن قادة المنظمة - وكانت غالبيتهم من الصهاينة الموالين لألمانيا - حاولوا جاهدين تسخير الحركة لخدمة الأهداف الاستعمارية الألمانية.
وحتى لا تستثير مواقف الحركة ريبة الحلفاء، قررت المنظمة نقل مكاتبها الرسمية من برلين إلى كوبنهاغن عاصمة الدنمارك المحايدة، وإن كان معروفاً في ذلك الوقت أن مقر كوبنهاغن واصل التنسيق مع ألمانيا، أكثر من الحلفاء!
وفي الوقت الذي تزعّم الزعيم الصهيوني الأشهر حاييم وايزمان جناح الحركة الصهيونية المنحاز الى الحلفاء، نجد أن زعيماً صهيونياً لا يقل عنه شهرة، وهو ديفيد بن غوريون تزعّم الجناح القوي المعادي بشدة لسياسة وايزمان، ذلك الجناح الذي تحالف مع الدولة العثمانية التي كانت ضمن دول المحور.
وفي هذا الإطار، طالب بن غوريون - في ذلك الوقت - بدمج يهود فلسطين في الدولة العثمانية، كما أعلن ضرورة محاربة سياسات وايزمان، باعتبار أنها تضر بيهود فلسطين!
وعندما حانت لحظة ميلاد دولة إسرائيل، فإن الجناح الموالي للحلفاء في الحرب بزعامة حاييم وايزمان، والجناح الموالي للمحور بزعامة ديفيد بن غوريون، تقاسما السلطة في الدولة الوليدة، فقد تولى وايزمان رئاسة إسرائيل، في حين تولي بن غوريون رئاسة الوزراء!
وقد يتساءل البعض عن مغزى او أهمية هذا الفصل المهم من تاريخ الحركة الصهيونية، وما علاقته بالواقع العربي والفلسطيني اليوم.
ومع التسليم بأن التاريخ لا يعيد نفسه، إلا أن محاولة تماثله مع حال الاستقطاب والانقسام الحاد الذي يعاني منه العرب حالياً بسبب تضارب الرؤى حول أفضل السبل لمواجهة تعنت إسرائيل واستهانتها بعالمهم متمثلاً في استمرارها ليس فقط في احتلال الأراضي العربية الفلسطينية، وإنما سعيها لإسقاط مبدأ قانوني دولي هو حق الشعوب في مقاومة الاحتلال، نقول إن مثل هذه المحاولة لتمثل التاريخ، تبقى محاولة مفيدة من منطلق التعلم من الخصم.
ففي المقارنة مع حال الاستقطاب والانقسام الشديد التي مرت بها الحركة الصهيونية في بداية القرن الـ20، فإننا سنجد حركة التحرر الوطني الفلسطينية تمر بالحال نفسها في بداية القرن الـ 21.
التباين الشاسع بين زعيمي جناحي الحركة الصهيونية وايزمان وبن غوريون لفكرة وطن لليهود، يقابله اختلاف شديد في رؤى حركة «فتح» والرئاسة الفلسطينية من جانب، ورؤى حركة «حماس» والحكومة المقالة من جانب آخر، في ما يتعلق بأكثر السبل واقعية للوصول إلى الدولة الفلسطينية.
وفي حين اعتصم كل من زعيمي جناحي الحركة الصهيونية بمعسكر في الحرب الأولى، نجد أن جناحي العمل الوطني الفلسطيني اعتصما بمعسكرين متنافسين، أحدهما إقليمي يتمثل في إيران، والثاني دولي يتمثل في الولايات المتحدة التي هي صديقة الخصم.
ومع التسليم بأن الجناحين يسعيان إلى هدف واحد، فإن واقع الحال يظهر خللاً في رؤية «حماس»، على رغم تقديرنا لضخامة التضحيات التي قدمتها وتقدمها للقضية. والخلل يكمن في ذلك المزج غير العملي بين الإصرار على مواصلة الكفاح المسلح، وبين الرغبة في التمسك بخيار الناخب الفلسطيني للحركة كحكومة مفروض عليها التعايش مع مواءمات سياسية.
وفي هذا الصدد، فإن منطق «حماس» بأن الجمع بين حركة تحرر مسلح وحكومة، له سابقة في سنوات ما قبل أوسلو هو منطق مرفوض. فمنظمة التحرير أقامت حكومة وبرلماناً في المنفى، بما أتاح لها مجالاً أوسع للتحرك على الصعيدين السياسي والكفاح المسلح، في حين أن حكومة «حماس» قامت تحت الاحتلال بما يضيق من خياراتها المسلحة والسياسية. في الوقت ذاته، فإن حكومة منظمة التحرير جسدت الأطياف السياسية والعقدية الفلسطينية، في حين أن «حماس» تفتقد هذا البعد. ولعل ذلك يعيد طرح حتمية إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية بما يدمج حركتي «حماس» و «الجهاد الإسلامي» فيها، وذلك قبل إعادة مهمة التفاوض إلى طرفها الأصيل، ألا هو المنظمة، بناء على الأسس التي قامت عليها، والثوابت التي يخشى قطاع كبير من الشعب الفلسطيني من أن السلطة الفلسطينية تخلت عنها، لقيامها بالتفاوض تحت الاحتلال في رام الله.
وبعودة ثانية إلى ذلك الفصل من تاريخ الحركة الصهيونية، نتأكد من أن التضارب في رؤى الهدف الواحد ليس ظاهرة غريبة عن حركات التحرر الواقعة تحت الاحتلال، إلا أن المرفوض هو التضحية بالقضية ذاتها في سبيل إثبات صحة هذه الرؤى، وهو الأمر الذي مثل خطاً أحمر للحركة الصهيونية.
الشاهد، أن ما تقدم يطرح قصة واقعية تمثل فصلاً مهماً من تاريخ تطور الحركة الصهيونية، وإن كان هذا الفصل غير مقروء لدى العرب بصفة عامة، ولدى الفلسطينيين بصفة خاصة، وهو ما يدعونا إلى قراءته، والقراءة فيه، ثم إهدائه إلى العالم العربي الذي يبدو حالياً - خصوصاً بعد مذبحة إسرائيل للشعب الفلسطيني في غزة - منشقاً على نفسه إزاء سبل مواجهة الكارثة، وذلك قبل إهداء القراءة إلى حركتي «فتح» و «حماس»، وبقية الفصائل الفلسطينية، مع دعوتهم الى أن «يأخذوا الحكمة، ولا يضرهم من أي وعاء أتت»!


* كاتب مصري.

Sri Lanka’s Bailout Blues: Elections in the Aftermath of Economic Collapse…...

 الخميس 19 أيلول 2024 - 11:53 ص

Sri Lanka’s Bailout Blues: Elections in the Aftermath of Economic Collapse…... The economy is cen… تتمة »

عدد الزيارات: 171,050,424

عدد الزوار: 7,619,589

المتواجدون الآن: 0