تركيا أيضاً: دولة الاتزان المذهبي في المنطقة

تاريخ الإضافة الخميس 29 كانون الثاني 2009 - 5:09 م    عدد الزيارات 910    التعليقات 0

        

جهاد الزين

في نهاية العام 1992، كما هو معروف، أبعدت اسرائيل الى لبنان اكثر من اربعمئة ناشط وكادر قيادي في حركة "حماس"، انشأت الجهات المعنية في لبنان مخيما لاقامتهم ضمن اراضي قرية "مرج الزهور" القائمة على الحدود بين محافظتي البقاع والجنوب.
الواقعة المتداولة يومها ان احد وفود "حزب الله" التي جاءت للترحيب بالمبعدين فوجئ ان العناصر القيادية بينهم، وفي المقدمة الدكتور عبد العزيز الرنتيسي (الذي اغتالته اسرائيل عام 2004 في قطاع غزة) قد اقامت حلقات تدريس لفكر الفقيه الاسلامي الذائع الصيت في العهد المملوكي الشيخ ابن تيمية. كان مصدر المفاجأة ان صورة ابن تيمية في ذهن هؤلاء الكوادر من شيعة "حزب الله" هي صورة صاحب الفتوى الشهيرة التي قضت بضرورة محاربة الشيعة، الفتوى التي استندت اليها الحملة المملوكية على الشيعة في جبال لبنان. لا بل اتضح لاحقا ان قادة "حماس" في مخيم "مرج الزهور" أطلقوا على مدرسة تعليم الفقه داخل المخيم اسم "مدرسة ابن تيمية".
ما الذي يجعل منظمة متفرعة مباشرة من حركة "الاخوان المسلمين" تعتبر رائدها الفكري الشيخ ابن تيمية الذي مات، بالمناسبة، كمفكر غير مطواع للسلطة، مسجونا ومقتولا من الحاكم المملوكي... ما الذي جعل "حماس" تنتقل من منظمة متأثرة بحساسية سلبية حيال الشيعة، بكل فرقهم كالاثني عشرية والاسماعيلية وغيرهما، او اشتقاقات فرقهم كالدروز، الآتين من الشيعة الاسماعيلية الاكثر تأثرا بالفكر اليوناني، الى منظمة متحالفة، بل راسخة التحالف مع ايران و"حزب الله"... تحالف هو الآن في ذروة نجاحاته السياسية في لبنان وفلسطين؟ (فروع "الاخوان المسلمين" في بلاد الشام كانت تقليديا مهتمة باشكالات التنوعات المذهبية الاسلامية فيما تركيز المصدر الاصلي لـ"الاخوان المسلمين" المصريين على اشكالات الثنائية المسلمة – المسيحية بحكم الفارق التكويني بين مجتمعات بلاد الشام الأكثر تعددية والمجتمع المصري).
هذه التحولات في تقارب حركات الاسلام السياسي المعاصرة، وهو تقارب يأتي الآن على مستوى جيل الاصوليات الجهادية السابق لجيل "القاعدة"، هي بطبيعة الحال في تاريخنا المعاصر نتيجة رافدين رئيسيين:
الاول هو الافق المسدود الذي تواجهه هذه الحركات في الصراع العربي – الاسرائيلي، اي تجاه العدو الاسرائيلي.
الثاني هو المواجهة الفكرية – السياسية من مواقعها المعادية للغرب، لاسيما كلما تقدمت مدرسة غربية متشددة في التعاطي مع قضايا العالم الاسلامي وتأييد اسرائيل كما حصل بعد احداث 11 ايلول 2001 وطيلة ولايتي الرئيس جورج بوش.
الا انه رغم اهمية هذه التحولات في التقارب المذهبي في زمن الحساسية السنية – الشيعية التي اصبحت بعد العام 2003 انطلاقا من العراق سياسات دول ومصالح جيوبوليتيكية وفي بعض الحالات حربا اهلية منفجرة، رغم اهمية هذا التقارب، بل هذا التحالف الاستراتيجي على مستوى الحركات الاصولية الخمينية الشيعية والاخوانية السنية، فان تحولا على مستوى تطور ادوار الدول الرئيسية في المنطقة قد بدأت تصبح له اهمية احتوائية، بل تعطيلية اكبر للتوترات السنية الشيعية (راجع مقال جهاد الزين: تركيا الصاعدة كمعضلة للغرب وكمعضلة للعرب 28/1/2009).
... انه دور تركيا الحديثة. ولا يمكن في هذا السياق ذكر تركيا بدون وضع الصفة التالية مباشرة: الحديثة بل ربما الادق التحديثية، لان السياسة المتزنة التي اتبعتها وتتبعها حيال الحساسية السنية – الشيعية في المنطقة، ليست مجرد خيار تكتيكي قد يتغير مع تغير القوة الحاكمة، اي "حزب العدالة والتنمية" بل لان هذا الموقف المتزن هو حصيلة تطور شخصية تركيا العلمانية التحديثية كدولة – امة مستقلة، اصبحت نمرا صناعيا خدماتيا متقدما في العالم المسلم وترتكز على ديموقراطية سياسية متصاعدة.
طبعا، الانكفاء البادئ لموجة الحساسية السنية – الشيعية ومعه انكفاء محتمل ومتزايد لـ"اللوبيات" المحلية والاقليمية المستفيدة منه التي احترفت تأجيجه... هذان الانكفاءان لا يرتبطان طبعا بالعامل التركي وحده بل هما حصيلة بدء تراجع الحرب الاهلية في العراق وعودة تقدم الصراع "المركزي" العربي – الاسرائيلي... كما تبلور شخصية الدولة التركية المتميزة عن كل ما يحيطها من حيث عناصر بنيتها الحديثة التي تجعل خياراتها عقلانية وغير ماضوية واستيعابية رغم كل مخاض صعوباتها المتواصل.
تركيا التي تواجه ارث الصراعات القومية القرن تاسعْ عشري واوائل القرنْ عشريني كالارث الارمني – التركي مع صدمته الاخيرة في الوعي الثقافي الليبرالي التركي المتمثلة باغتيال المثقف – الصحافي التركي الارمني هرانت دينك في اسطنبول. في هذه التركيا محاولة عبر "دولة القانون" لمواجهة التطرف القومي الارهابي واحد فصوله المهمة محاكمة "ارغنيكون" الجارية حاليا باشكال لا سابق لها.
تركيا التي تواجه ارث الصراعات الدينية المتمثل احيانا ببروز موجة تطرف اصولي تستوعب في التحدي الذي ينشأ في "الشرق الاوسط" الواقع جنوبها، تتجاوز الحساسية السنية – الشيعية في سياسة طليعية تنتهجها الدولة كدولة (وليس الحزب الحكومي وحده) في الموازنة بين المحاور الاقليمية، ايران من جهة والسعودية من جهة اخرى، في الوقت نفسه الذي تطل فيه كقوة توازن مع الدور الايراني المتوسع.
... هذه التركيا، حتى في فترة يحذر فيها زعماء المنظمات اليهودية الاميركية الرئيسية الخمس رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان من مخاطر لا سابق لها لتنامي موجة العداء للسامية، وهي رسالة شديدة الدلالة حين تأتي من زعماء اليهود الاميركيين الذين يشكلون تاريخيا خلفية دعم دائمة للجمهورية التركية حتى قيل يوما ان علاقة تركيا باسرائيل تمر عبرهم اولا اي انها تأتي كسبب لا كنتيجة للعلاقة مع اسرائيل!... في هذه التركيا يقوم رئيس الجمهورية ذو الاصول الاسلامية الاصولية بالاتصال بكاتبة مقال في جريدة "راديكال" التركية تحت عنوان: "ان تكون يهوديا في تركيا"، تتساءل فيه الكاتبة اليهودية التركية "ما اذا كان لا يزال يُنظر اليها في هذا البلد كضيفة...".
يتصل بها الرئيس غول من قصر الرئاسة في شنكايا الذي بناه مصطفى كمال اتاتورك معربا عن تأثره بما كتبته هذه الاستاذة في علم النفس في "جامعة بوغازيسي" المرموقة، ومؤكدا على تضامنه معها كمواطنة... هذه "الحركة" من عبدالله غول تضيف علامة اختلاف جديدة من علامات تمايزه عن رجب طيب اردوغان الذي اظهر مواقف غير مألوفة فعلا بالنسبة لبلد كتركيا من نوع دعوته الى طرد اسرائيل من الامم المتحدة.
هذه التركيا المتزنة في "الحروب الاهلية" الاقليمية بين بعض مسلمي المنطقة، بل التي تغير حاليا "قواعد اللعبة" ضد المراهنة على جيوبوليتيك مذهبي، هي ايضا التركيا التي يمكن – في الجزء الايجابي للعلاقة مع "حماس" – ان تساهم – مع سوريا وربما فرنسا – في محاولة استيعاب تدريجي لحركة "حماس" داخل خط التسوية السلمي في المنطقة اذا اظهرت الولايات المتحدة الاميركية قابلية لتطوير هذا التوجه لا تبدو صعبة مع ادارة الرئيس باراك اوباما، ولكن دائمة الصعوبة مع اسرائيل.


•••

يفكر رجال اعمال اتراك وعراقيون (اكراد وسنة وشيعة) بانشاء خط سكة حديد يمتد من اسطنبول الى... البصرة. هذه صورة اقتصادية للمنطقة، كما يفكر فيها مخططون اتراك، تجعل التقدم الاقتصادي التركي لا يخترق فقط المنطقة الكردية العراقية في محاولة دائمة لبناء علاقة تركية مع اكراد العراق شبيهة بعلاقة ايران مع شيعة العراق، بل يخترق أيضاً منطقة النفوذ المفترض انها "ايرانية" حتى اشعار آخر في الجنوب.
كيف لتركيا كدولة اقتصاد تتجاوز صادراته سنوياً – بدون اي ثروة خام – المئة مليار دولار وتحتضنه ديموقراطية سياسية تتقدم بنيويا، والمحاطة بدول معظمها ذات اقتصادات ريع نفطي بينها ايران كدولة اقتصاد شديد التخلف، كيف يمكن لدولة كتركيا ان تتحدث مع مسؤوليها ايا كانوا عن حروب مذاهب؟!

 

Sri Lanka’s Bailout Blues: Elections in the Aftermath of Economic Collapse…...

 الخميس 19 أيلول 2024 - 11:53 ص

Sri Lanka’s Bailout Blues: Elections in the Aftermath of Economic Collapse…... The economy is cen… تتمة »

عدد الزيارات: 171,079,465

عدد الزوار: 7,619,950

المتواجدون الآن: 0