تحليل سياسي

البوصلة التونسية: ظلال السلطة الهجينة وعفوية الشارع الثوري

تاريخ الإضافة السبت 23 تموز 2011 - 5:41 ص    عدد الزيارات 2877    التعليقات 0    القسم عربية

        


 

رهان على إعادة فرز القوى الإسلامية تحت ضغط المطالب الاجتماعية
البوصلة التونسية: ظلال السلطة الهجينة وعفوية الشارع الثوري 
مازن السيد
من تونس، بدأت تتكون ملامح العصر العربي المقبل. قد تختلف التأويلات في استشراف قيمة هذا العصر، لكن ما لا شك فيه أن مساحة الحدث في الزمان والمكان، وعمق انقلابه على حال عقود طويلة، يجعلانه مؤرخاً لابتداء مرحلة جديدة. وإن كان المشهدان السوري بحساسياته الاستراتيجية، والمصري بوجدانيته القومية، قد خطفا تركيز المراقب العربي، يبقى الواقع التونسي بتعقيده بعد خلع الديكتاتور بوصلة لفهم دينامية الثورة.
مَن يحكم اليوم؟
يعتبر الباحث التونسي، استاذ التاريخ في جامعة روتغرز الاميركي، طارق الكحلاوي، الذي تحولّت صفحته على موقع «فيسبوك» إلى طاولة حوار حول التطورات التونسية، أنه من الضروري «التأكيد على محدودية معرفتنا بتفاصيل خلع زين العابدين بن علي وطبيعة الصراع الذي حصل داخل السلطة بين 14 و16 كانون الثاني الماضي»، قبل محاولة استقراء تركيبة الحكم الحالية في تونس. لكنه يعتبر أن المعطيات المتوافرة تشير بما يكفي، إلى أن «الظروف أو النوايا» أدّت حينها إلى «إبعاد رأس النظام وعائلته المقربة في حين حمى ما تبقى من النظام نفسه».
ويقدم الكحلاوي لـ«السفير» رؤيته لبنية الحكم الحالي بالقول إن «هناك جهازاً من بقايا نظام بن علي متمترس في السلطة، تجمعه المصالح وغريزة التمسك بالسلطة وشبكة علاقات اجتماعية وجهوية وربما حتى عائلية. هذا الجهاز جدد نفسه أيضاً ولمّعها بإقحام قيادات سياسية كان بعضها على تخوم بل وعلى تباين مع النظام في محيطه والطيف المحيط به». وأول ما يقوله الكحلاوي عن طبيعة عمل هذا الجهاز، أنه «يتصرف عملياً كحزب، ما أسميه «حزب السلطة». فيه قيادة مكونة على الأرجح من كتل متنافسة إلى حد ما في ما بينها».
المؤسسة العسكرية التونسية، تبقى احد الأطراف الأكثر تأثيراً في الواقع التونسي كما اظهر مشهد «خلع» بن علي. ويرجح الكحلاوي بالفعل ان يكون «الجيش على رأس التشكيلة القيادية للنظام الحالي». لكن جهات أكثر غموضاً وتوارياً عن الأنظار، تبدو كجزء أساسي من معادلة الحكم الحالي، مثل رجل الاعمال كمال اللطيف.
يعرّف اللطيّف بانه «الصانع الحقيقي لمسيرة بن علي المهنية»، ويقول الكاتبان الفرنسيان نيكولا بو وجان بيار توكوا في كتابهما «صديقنا الجنرال بن علي»، إن اللطيف الآتي من حمام سوسة مسقط رأس بن علي، «ومع أنه لا يملك تفويضاً رسمياً فقد عُد كمال اللطيّف بعد 7 تشرين الثاني 1987 رئيساً ثانياً، إذ كان يستقبل كل صباحٍ في مكتبه في شارع بيروت في قلب تونس العاصمة وزراء الحكومة الرئيسيين وأعضاء فروع الاستخبارات».
وفي آذار 1992 تزوج بن علي من ليلى الطرابلسي، ما غيّر تماماً في طبيعة العلاقة بين الرجلين، لأن اللطيف كان يعارض زواج الرئيس من «الحجّامة» كما يسمّيها التونسيون نسبة إلى وظيفتها الأصلية في تصفيف الشعر. منذ حينها، تعرّض اللطيف لضغوط كثيرة، ليس أقلها إحراق مكاتب له في منطقة سكرة الصناعية، «كان قصر قرطاج يشكّ في أنه كان يودع فيها ملفاتٍ خطرةٍ حول فضائح النظام». كما دفع عدد من المسؤولين ثمن علاقاتهم مع اللطيف، مثلما حصل في العام 1992، حين «وجد وزير الصحة ومدير السياحة ورئيس شركة الطيران التونسية أنفسهم عاطلين عن العمل بعد قبولهم دعوة لحضور ختان نجل اللطيف».
لكن اللطيف بقي تحت حماية ما يعرفه من أسرار النظام كما يقول بو وتوكوا في كتابهما: «صديقنا الجنرال زين العابدين بن علي وبسبب الملفات التي بحوزة كمال، لا يستطيع المساس به حتماً. إنه أحد القلائل الذين يستطيعون انتقاد النظام عندما يستقبل ضيوفاً، في تونس العاصمة، في بيته الفخم، على مقربة من مقر إقامة السفير الأميركي. وخلال أسفاره المتعدّدة إلى إيطاليا والولايات المتحدة، يبقى موضع مراقبةٍ خفيّةٍ».
وعن شخصية الظل هذه، يقول الكحلاوي «يتردد من مصادر متنوعة ومتطابقة ومتواترة دور كمال اللطيف رجل الأعمال الذي جلب بن علي الى السلطة في العام 1987 قبل أن يتم إبعاده من عرينها. اللطيف لم ينف بالمناسبة أنه يلعب دوراً سياسياً في الكواليس عندما طرح الأمر بشكل علني بل أكد ذلك بداعي «الوطنية». بالاضافة الى ذلك توجد على الأرجح رؤوس أخرى تتنافس وتتعاضد على هرم السلطة بما في ذلك سياسيون مخضرمون عاشوا مرحلة (الرئيس الأسبق الحبيب) بورقيبة وبن علي ولديهم شبكة علاقات واسعة تجعلهم بالضرورة في مفترق طرق أي توجه إلى إعادة ترميم النظام».
وإن كانت بنية النظام ضبابية إلى حد ما، «لا تنقص المؤشرات على إعادة ترميم نفسه ومقاومة أي تهديد لإمساكه بمواقع صناعة القرار. فلو ركزنا مثلا في تعيينات أهم وزارات البلاد أي الداخلية لرأينا أننا بصدد إعادة توزيع الكراسي بين كبار موظفي الأمن ذاتهم الذين كانوا في مركز آلة البوليس. المسؤولون المحليون أيضا، من ولاة ومعتمدين وعمد وشيوخ قرى بقوا رغم التعيينات والاقالات من التشكيلة المعتادة ذاتها. الامر نفسه ينطبق على بيروقراطية الدولة وجهاز تسييرها المسمى بـ«حكومة انتقالية»، وحتى على المنظومة الاعلامية السمعية البصرية خصوصا، والتي بقيت بالأساس مسيرة من أشخاص كانت السلطة تزكيهم قبل 14 كانون الثاني الماضي».
واقع الشارع
في مقابل هذه البنية لنظام يحكم تونس في استمرارية نسبية لما سبق 14 كانون الثاني، شارع ثائر واصل تصديه لكل محاولات اختطاف الثورة واستبدال منجزاتها بتغيرات صورية. لكن الواقع الأمني في البلاد بدأ يشكل عاتقاً على شرعية هذه القوى الثورية، مع تردد الاتهامات لها بزعزعة استقرار البلاد وما إلى ذلك من خطابات سياسية تشهدها أيضاً مصر وأقطار عربية أخرى، كان آخرها حديث رئيس الوزراء الموقت الباجي قائد السبسي عن «شرذمة مفسدين» حملهم مسؤولية أحداث الشارع.
«الاحتجاجات المتواترة في الاحياء الشعبية للعاصمة وبعض الجهات، وآخرها استتباعاً للقمع الذي واجه محاولة البعض اقامة اعتصام «القصبة 3» هي بالضرورة وفي الجوهر من ارهاصات المسار الثوري»، يقول الكحلاوي، موضحاً إن «تركيبة المحتجين الجغرافية والاجتماعية والعمرية هي ذاتها تركيبة المحتجين بين 17 كانون الاول و14 كانون الثاني الماضيين»، ومؤكداً أن «الاحتجاجات تأتي كرد فعل على حالة قمع متكرر وتعبيراً عن رفض استمرار القديم في جبة «الجديد» و«الموقت» و«الانتقالي»».
ويوضح الكحلاوي قائلاً إن «ليس كل ما يقوم به المحتجون عين الصواب من حيث الشكل والأسلوب، لكننا أمام قطاعات شبابية مارست السياسة من دون وعيها، ومارست الهيكلة في أشكالها البدائية من دون بلوغ مستوى التنظيم. فمن حيث الشكل والمضمون نحن إزاء طاقة ثورية منفلتة لازالت في مرحلة ما قبل التسييس. وهكذا من الطبيعي أن تتعرّض الى محاولة التلاعب والتشويه وتصويرها عموماً على أنها مجرد تعبير على حالة «شرذمة» من «مفسدين» مثلما قال السبسي أخيراً».
ويرفض الكحلاوي توصيف السبسي «غير الدقيق لأنه لا توجد ثورات تصنعها في الشارع «غالبية» من الناس، بل كانت دائماً الأقلية و«الشرذمة» حطب الثورة، ولكن هذا الكلام غير دقيق أيضاً لأنه يتجاهل بصفاقة السياق العام وتركيبة المحتجين ليسقط في التعابير والصيغ السطحية والفجة ذاتها التي كانت مستعملة من قبل نظام بن علي عند مواجهة خصومه».
السبسي في خطابه الأخير اتهم أيضاً «قوى دينية خائفة من الانتخابات» بانها تقف وراء «الانفلات الامني في البلاد»، لكن الكحلاوي يفند هذه الاتهامات معتبراً أن الخطاب «يستحق التصنيف في خانة البروباغندا والتضليل. فاتهامه يشير إلى حزب «حركة النهضة»، في حين أن معظم استطلاعات الرأي، على علاتها، تتفق في أن هذا الحزب سيتصدر الأحزاب في الانتخابات المقبلة. بهذا المعنى نحن لسنا ازاء توصيف موضوعي ومحايد للمعطيات المتوفرة بل مقاربة سياسوية تتضمن تناقضاً صارخاً، مثلما هي العادة في أي «خطاب دعائي».
المعادلة الخارجية
أكثر ما يقض مضجع المتابعين العرب لشؤون الثورة، هاجس «المؤامرة»، ومن النموذج التونسي يمكننا الدخول في باب التأثيرات الخارجية على مستقبل الحركة التغييرية العربية.
إقليميا، يوضح الكحلاوي أن «الاطراف المرشحة لإعاقة المسار الثوري هي بعض القوى الإقليمية خاصة الجارين الغربي والشرقي لتونس، حيث أعرب (الرئيس الليبي) معمر القذافي صراحة عن معارضته الثورة، في حين بدا أن الحملات الاعلامية في بعض الصحف الجزائرية التي تخوف من الثورة في تونس، على علاقة بالتخوف المتوقع لدى بعض القيادات العسكرية هناك».
اما على صعيد أوسع، فـ«يبدو أن الشريك الاستراتيجي حتى اللحظة الاخيرة لنظام بن علي، أي نظام الحكم في فرنسا، أهم القوى التي تجب متابعة ما تفعل في تونس. إذ أن تعويل فرنسا السابق على منظومة الفساد والاستبداد لبن علي وعلاقتها الأبوية التقليدية مع تونس خاصة اقتصادياً واجتماعياً تبدو موضوعياً معوقات بنيوية لبناء علاقة جديدة بين تونس وباريس». لا يتطرق الكحلاوي مباشرة إلى الدور الأميركي في تونس، لكنه بإمكاننا ان نرى خيوط دور واشنطن عبر اداء حلفائها الاقليميين.
الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة، برئاسة القاضي عياض بن عاشور، أقرت مؤخراً مجموعة قوانين ستفرض على نشاط الأحزاب السياسية في تونس. أهم هذه القوانين وأكثرها إثارة للجدل، مادة تمنع الأحزاب من تلقي أية مساعدة مالية من الخارج، كما يمنعها من تقديم الهبات المالية للمواطنين. «حركة النهضة» الإسلامية برئاسة راشد الغنوشي، التي انسحبت من الهيئة لاعتراضها على «عدم ديموقراطيتها»، بدت بحسب المحللين أكثر المتضررين من هذا القانون، على أساس أنها تتلقى دعماً مالياً من دول خليجية، تدعم منذ فترة طويلة التنظيمات السياسية الإسلامية. ويطرح ذلك تساؤلاً مهماً حول سيناريو بدأ ينال توافقاً في أوساط عديدة، ويشير إلى أدوار خليجية في دعم التنظيمات الإسلامية في مصر وتونس وحتى سوريا، في سبيل إجهاض ثورية الحدث العربي وإعادة إخضاعه لمسلمات النظام العالمي سياسياً واقتصادياً.
لكن الكحلاوي يطرح وجهة نظر إلى التيارات الإسلامية في الإطار العربي عموماً والتونسي خصوصاً، تستند إلى استنباط الدينامية الداخلية في هذه التيارات، أكثر منه إلى التركيز على تبعياتها الخارجية. ويقول إنه «من الصحيح أن التيارات الإسلامية بما في ذلك المستوحاة الى هذه الدرجة أو تلك من التجربة الاخوانية لا تزال في أحيان كثيرة غير واضحة، وفي أحسن الأحوال غير منسجمة حتى داخلها، في النظر الى موضوع التنمية وطبيعة علاقته بالمؤسسات المالية الدولية». لكنه يعتبر «أن ذلك ليس ناتجاً عن موقف مسبق بل عن قلة نضجها خاصة وهي تتهيأ بالكاد للتحول الى أحزاب حكم».
ويراهن الكحلاوي على دور «القاعدة الشعبية» في تصويب مسار هذه التيارات الإسلامية، متوقعاً أن «تفرض عليها آجلاً أم عاجلاً وبالضرورة عدم الاكتفاء بشعار «الاسلام هو الحل» في المقاربة الاقتصادية والاجتماعية، وعليها أن تحسم تحت ضغط قاعدتها الانتخابية موقفها من العلاقة بين التفقير وسياسات الخضوع الى المؤسسات المالية الدولية. و حينها ربما نرى حراكاً داخل هذه التيارات تختلف فيه المقاربات نحو إنضاجها بشكل تدريجي، وربما نرى حينها فرزاً بالمعنى الاجتماعي الى اسلاميين ينزعون الى اليسار وآخرين الى اليمين».
أما عن العلاقة التي تربط الحدث الثوري التونسي بنظيره في باقي الأقطار العربية، فيؤكد الكحلاوي أننا «إزاء وضع ثوري ذي أفق عربي. الامتداد العربي للحراك الثوري ليس مصادفة وهو تعبير عن البنية الموضوعية العربية بمعزل عن أي قراءة قومية لما يحدث». ويشير إلى علاقة «تفاعلية بين تونس منشأ الثورة والمسار الثوري في مصر وسوريا كمغذٍ لها».
وفيما يشدّد الكحلاوي على خصوصية المسار الثوري في كل من مصر وسوريا، إضافة إلى «تعقيداته الاقليمية والجيوستراتيجية»، إلا أنه يعتبر أنه من تونس «لا يمكن أن ننظر بكثير من التعقيد الى ما يحدث هناك، حيث أن الخيط الرابط بين كل أحداث المنطقة هو اتجاه عميق نحو إعادة تأسيس النظام الرسمي العربي وفقاً لقاعدة اساسية وهي مرجعية الارادة الشعبية الحرة والمؤسساتية، في قطيعة مع مرحلة الهيمنة النخبوية المعزولة سواء كانت ملكية ام رئاسية سلطوية ام عسكرتارية». ويؤكد الاستاذ الجامعي التونسي على أن هذا الاتجاه الثوري «يدعم بالضرورة ولا يتصادم كما يعتقد البعض مع الامن القومي العربي في مواجهة أي مشاريع استراتيجية للهيمنة من خارج المنطقة».
هذه إذن دروس الحركة الثورية التونسية حتى الساعة. النظام يناور لإعادة تشكيل نفسه بعناصر قديمة وجديدة وأخرى كانت تنتظر في ظل فرصتها، والقوى الثورية تصرّ على سقفها للتغيير لكن التنظيم ينقصها مما يجعلها عرضة لتشويه الصورة وزعزعة الشرعية. اما القوى الخارجية فتحاول التأقلم مع الواقع لتجديد ضمانات مصالحها.
العنصر الإسلامي، يبقى الأكثر عرضة للتساؤل، بسبب شعبيته من جهة، وعلاقاته الدولية والإقليمية من جهة أخرى. لكن المنطق التاريخي يراهن في غياب القمع الذي عمّق راديكالية هذه التيارات، على أن قواعدها الشعبية ستعيد فرزها سياسياً للإجابة على أسئلة التنمية والحريات والثقافة، مما سيجردها من خصوصية خطاب ديني تقليدي يصعب تقبلّه في خضم إعادة تشكيل الذات العربية المعاصرة.
 
 
 
 
 
 

المصدر: جريدة السفير

..What is Behind Kenya’s Protest Movement?...

 الإثنين 8 تموز 2024 - 5:33 ص

..What is Behind Kenya’s Protest Movement?... Kenyan police have killed dozens of protesters sinc… تتمة »

عدد الزيارات: 163,077,197

عدد الزوار: 7,294,478

المتواجدون الآن: 90