أميركا ونخب المنطقة

تاريخ الإضافة الإثنين 23 كانون الثاني 2012 - 5:14 ص    عدد الزيارات 855    التعليقات 0

        

أندرو باتريك

أميركا ونخب المنطقة (1820-2001)لأسامة مقدسي

 

الفرضية الأساسية المطروحة في هذا التحليل، تعتبر أن المشكلة الكبرى في "العلاقات الأميركية-العربية"، هي أن الحكومة الأميركية تعلن باستمرار أنها ترفع لواء المثل العليا الليبرالية  لكن أفعالها فشلت في أن ترقى إلى مستوى هذه المبادئ.

حتى عام 2007، انتظر باحثون كثر في مجال الدراسات الشرق الأوسطية مؤرّخاً يكتب تاريخاً من مجلّد واحد عن العلاقة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط. وقد تضمّنت المحاولة الأولى في هذا الإطار، أي كتاب مايكل أورن (النفوذ والإيمان والوهم: أميركا في الشرق الأوسط، من 1776 حتى الوقت الحاضر- نيويورك: دبليو دبليو نورتون، 2007) كمّاً كبيراً من الأبحاث إنما القليل من العمق التحليلي. وعام 2010، كانت المحاولة الثانية مع أسامة مقدسي في كتابه (إيمان في غير موضعه: الوعد المكسور في العلاقات العربية-الأميركية: 1820-2001)(*).
على الرغم من أنه يمكن قراءة هذا الكتاب بأنه ردّ على المجلّد الذي وضعه أورن، إلا أن إعداده بدأ على الأرجح منذ أرسى الكاتب الإطار الأساسي لمحاججته في المقال الذي كتبه عام 2002 بعنوان "العداء لأميركا" في العالم العربي: تفسير لتاريخ موجز" (ذي جورنال أوف أمريكان هيستوري، 89(2)، 2002). صحيح أن المرحلة التاريخية التي يتحدّث عنها مقدسي أصغر من تلك التي يعالجها كتاب "السلطة والإيمان والوهم"، بيد أنه يتجاوز أورن إلى حد كبير في عمق تحليلاته ونطاق تركيزها. باختصار يتمتّع هذا الكتاب بقوّة المحاججة التحليلية التي من شأنها أن تثير الغيرة لدى عدد كبير من المؤرّخين.
لا يعني هذا أن الجميع سيوافقون على الفرضية الأساسية المطروحة في هذا التحليل، والتي تعتبر أن المشكلة الكبرى في "العلاقات الأميركية-العربية" هي أن الحكومة الأميركية تعلن باستمرار أنها ترفع لواء المثل العليا الليبرالية (الديموقراطية، الحرية، إلخ.)، لكن أفعالها فشلت في أن ترقى إلى مستوى هذه المبادئ. بحسب مقدسي "ليس العداء لأميركا مكوِّناً راسخاً في المنطقة" بل "ظهر حديثاً" و"تؤجّجه الحقائق السياسية والتاريخية بلا هوادة" (ص. 355).
في نظر مقدسي، القضية الأساسية هي الصراع العربي-الإسرائيلي، والدعم الأميركي لإنشاء إسرائيل عام 1948 هو المحطّة الحاسمة التي سلكت فيها العلاقات الأميركية - العربية منعطفاً نحو الأسوأ. وقف العالم العربي (ولا يزال يقف) مذعوراً أمام الدعم الأميركي الراسخ لما يعتبرونه خطأ أخلاقياً فادحاً يفرض على الفلسطينيين دفع ثمن العداء الأوروبي للسامية. المساهمات التي يُقدّمها  هذا الكتاب لتاريخ الشرق الأوسط كثيرة. يمكن الجزم بسهولة أن نطاق هذا التقصّي العابر للأوطان (آراء الأميركيين عن العرب، وآراء العرب عن الأميركيين، وآراء الأميركيين من أصل عربي عن مكانتهم في هذه العلاقات) هو أفضل خلاصة متوافرة حتى الآن عن هذا الموضوع.
في النصف الأول تقريباً من الكتاب يستعرض مقدسي بأسلوب مدهش معلوماته المفصَّلة والعميقة عن سوريا الكبرى في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وذلك في إطار تحليلي غني ودقيق. ويصف بوضوح شديد العلاقات المعقّدة إنما الودّية في معظمها بين العرب والأميركيين الذين يعيشون في المنطقة، ومعظم هؤلاء الأميركيين كانوا من المرسَلين. ويبرهن أيضاً أنه في مطلع القرن العشرين، كانت النخب العربية تعتبر إلى حد كبير أن الولايات المتحدة هي أكبر قوة عظمى للخير في العالم، مما يدحض في شكل قاطع المفهوم القائل بأن العرب والمسلمين ينزعون في الأصل إلى "كره" الأميركيين ونمط العيش الأميركي.
ومن النقاط القوية التي يعود إليها مقدسي في مناسبات عدّة في هذا العمل الاستمرارية في المواقف الأميركية من شعوب المنطقة. ففي القرن التاسع عشر، كان الأميركيون الذين يعيشون  في المنطقة يكنّون احتراماً، تارة على مضض وطوراً بكل طيبة خاطر، للشعب الذي كانوا يعيشون وسطه؛ لكن الأميركيين الذين عرفوا المنطقة في شكل أساسي من خلال الكتاب المقدّس، غالباً ما كانوا يعتبرون شعبها متوحّشاً جداً ولا أهمّية له في شكل عام. وعلى سبيل المثال، يستنتج مقدسي من حديثه عن الصهيوني المسيحي وليم بلاكستون الذي عاش في أواخر القرن التاسع عشر، أنه "بالنسبة إلى بلاكستون، وتقريباً كل الصهاينة المسيحيين الذين جاؤوا بعده، كانت الأرض المقدّسة موجودة فقط في النصوص ولا حياة فيها" (ص. 113).
وعندما يصل الكتاب إلى النصف الثاني من القرن العشرين، تصبح الرواية مألوفة أكثر، ويصبح تحليل مقدسي أكثر صراحة. نقطة القوة الأساسية في الجزء الأخير من الكتاب هي العرض المقنع عن تزايد الغضب العربي من الولايات المتحدة. والمقاطع العديدة التي يعتني فيها مقدسي عناية شديدة بالأسلوب، مثل حديثه عن الأيام الأولى لشركة "أرامكو" في شبه الجزيرة العربية (ص. 230-237)، تجعل هذا الجزء من الكتاب يستحقّ القراءة حتى من الأشخاص الذين يعرفون هذه الرواية جيداً.
وتحليل مقدسي للآراء الفلسطينية والأميركية المتباينة عن النزاع العربي-الإسرائيلي، ولا سيما عقب عمليات الخطف الكثيرة في ستينات وسبعينات القرن العشرين، متبصّر جداً أيضاً. يقول مقدسي إن الفلسطينيين اعتبروا الولايات المتحدة "معادية لهم بلا هوادة، وعن غير وجه حق" بسبب دعمها لإسرائيل، في حين أن الأميركيين، ومعظمهم "لم تكن لديهم أي معرفة بتاريخ فلسطين"، اعتبروا أن عمليات الخطف هذه "ظهرت من العدم". يصيب مقدسي بقوله أن الأميركيين "تعاطفوا مع ركّاب الطائرات المخطوفة أكثر من تعاطفهم مع الخاطفين".
لقد أدّت أساليب التحرير التي اختارها الفلسطينيون، والمثل الأشهر هو احتجاز رهائن إسرائيليين في الألعاب الأولمبية في ميونخ عام 1972، إلى "عزل" الفلسطينيين عن "الشعب الذي كانوا يحاولون الوصول إليه" (ص. 285-286)، وفي ملاحظة مهمّة، "تسبّبت بمزيد من التعتيم على تاريخ الحرمان والنفي الذي كان الدافع الأول وراء العنف الفلسطيني". يكتب مقدسي أن هذه الأساليب دفعت بحركتهم نحو "طريق مسدود" (ص. 296-297). نشعر في شكل عام لدى قراءة هذا الكتاب بأن العنف بمختلف أشكاله في النزاع العربي-الإسرائيلي، ولو برّره مرتكبوه المتعدّدون، لم يساهم في تحقيق أي هدف يستحق العناء؛ فدورة العنف هذه مبتذلة بطريقة مريعة وعقيمة إلى حد كبير، بحسب مقدسي.
أحد الجوانب الفريدة جداً في هذا العمل هو أن مقدسي لا يدحض نظرية "صدام الحضارات" وحسب (ليست مهمّة صعبة)، بل يفنّد باختصار أيضاً الحجّة التي ساقها نعوم تشومسكي وسواه بأن سعي أميركا الإمبريالي إلى ممارسة "الهيمنة على النفط" يؤدّي دوراً أساسياً في الحالة السيئة التي آلت إليها العلاقات الأميركية-العربية. يقول مقدسي إنه على الرغم من أن النفط قد يشرح "سبب وجود الولايات المتحدة في الشرق الأوسط"، إلا أنه لا يفسّر "عمق خيبة الأمل العربية من أميركا وطبيعتها" (ص. 356-357). حجّته بأن النزاع العربي - الإسرائيلي هو الذي تسبّب بتدهور العلاقات الأميركية-العربية مقنعة في شكل عام، لكنه يبدو نوعاً ما أقل ثقة بشأن تضمينات مثل هذه المحاججة. فهو يعتبر على سبيل المثال في خاتمة الكتاب أن قرار الولايات المتحدة بأن تمنح دائماً "الأفضلية لإسرائيل على العرب حال دون إمكان بناء علاقة أميركية أقل تشنّجاً مع العالم العربي" (ص. 357).
إذا توقّفت الولايات المتحدة عن تفضيل إسرائيل أو تمكّنت من تهدئة النزاع العربي-الإسرائيلي عبر التوسّط للتوصّل إلى اتفاق سلام، هل تصبح هناك "إمكانية" لبناء علاقات "أقل تشنّجاً"؟ قد لا يقتنع صنّاع السياسات الأميركيين بأن بذل جهود في هذا الاتّجاه يستحق عناء الوقت ورأس المال السياسي اللذين تقتضيهما مثل هذه المهمّة. يعتبر مقدسي أن الضرر قد وقع وهو كبير جداً. إنه استنتاج صريح للغاية إنما مثبط للهمّة.
عام 1922، عقد مجلس النواب الأميركي جلسات استماع استعداداً لإصدار قرار مؤيِّد لإعلان بلفور، وقد استمع خلالها إلى شهادات من أميركيَّين مرموقين من أصل فلسطيني هما فؤاد شطارة وسليم طوطح. وقد أفاد كلاهما، إنما من دون جدوى، بأن المشروع الصهيوني مجحف في طبيعته بحق الفلسطينيين وبأنه إذا حصل على الدعم من الولايات المتحدة، فسوف يتناقض ذلك مع المثل العليا التي لطالما تبجّحت بها. لكن شهادتهما كانت بمثابة "صوت منادٍ في البرّية" بحسب مقدسي (ص. 166-169).
كتاب "الإيمان في غير موضعه" هو وريث لهذه الأصوات، وهو إعادة تأكيد قويّة للرأي الأميركي المخالف في موضوع الصهيونية. على الأرجح أن عدداً كبيراً من الأميركيين الذين يتعاطفون مع المحنة الفلسطينية سيقرأون الكتاب، لكنّه يحقّق فائدة أكبر للولايات المتحدة إذا قرأه من يتماهون عموماً مع إسرائيل. لا يعني هذا أن كتاب مقدسي سيؤدّي بالضرورة إلى تغيير في الذهنيات، لكنّه يُقدِّم مادّة قيّمة جداً لكل من يرغب في أن يفهم بصورة أشمل أسباب الغضب العربي من الولايات المتحدة وتطوّره في الآونة الأخيرة.

¶ Faith misplaced: The broken promise of US – Arab relations: 1820-2001 NewYork, Public affairs, 2010, 423 PP.

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024..

 الأحد 28 نيسان 2024 - 12:35 م

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024.. حول التقرير.. ملخصات التقرير … تتمة »

عدد الزيارات: 155,546,850

عدد الزوار: 6,995,394

المتواجدون الآن: 61