العلاقات الروسية الإسرائيلية: شراكة التناقضات(II)

تاريخ الإضافة الأحد 7 تشرين الأول 2012 - 7:11 ص    عدد الزيارات 714    التعليقات 0

        

 

العلاقات الروسية الإسرائيلية: شراكة التناقضات(II)
تاتيانا نوسينكو
لم تتراجع روسيا عن عزمها على تزايد دورها في تسوية النزاع العربي - الإسرائيلي. فمن منظور مصالح روسيا الوطنية، تتصدر إقامةُ السلام قائمة المهام ذات الأولوية، وتكتسب العلاقات الجيدة المبنية على الثقة مع إسرائيل، أهميةً خاصة في هذا السياق. ومع ذلك لا يجوز أن يتناسى المرء أن الحكومة الإسرائيلية الحالية، تمارس بشكل، لم يسبق له مثيل خلال السنوات العشرين الاخيرة، التعنتَ والعنادَ، رافضة أي حل وسط مع الطرف الفلسطيني. وهكذا فإن روسيا تقع في مصيدة مصالح سياسية خارجية «تصادمية»، حيث أن المستوى العالي المنقطع النظير لعلاقاتها مع إسرائيل، يضع روسيا في وضع بلدٍ يشجع في الواقع الزعماء الأقل ميْلاً لخوض مباحثات سياسية.
وفي غضون ذلك ليس ثمة أي أساس للاعتماد على مساعي الوساطة الروسية في تسوية النزاع، من جانب الساسة الناطقين بالروسية. فمثلا، صرح أفيغدور ليبرمان، في معرض أقواله الواعدة بشأن آفاق الشراكة بين روسيا وإسرائيل، رداً على سؤال خاص بدور روسيا والرباعية الدولية في تقدم السلام: «يحدوني الأمل بأن الرباعية ستتركنا وشأننا وستتناسى وجودنا». ويبدو أن الإسرائيليين «الروس» لا يعتزمون المساهمة في الترويج لمصالح موسكو السياسية في هذا المجال الحساس.
ان بعض الخبراء الروس الذين تكوَّن بينهم خلال العقود الاخيرة من السنين «اللوبي» الموالي لإسرائيل، يشككون في دور روسيا في التسوية الشرق أوسطية، زاعمين أن مصالح روسيا تكمن في المجال الاقتصادي قبل غيره. إن إقامة الدولة الفلسطينية، من هذا المنظور، لا تحمل في طياتها أية منافع بالنسبة لروسيا، فيما تعتبر العلاقات مع إسرائيل واعدةً جداً من منظور المستقبل. إن مثل هذه «الحتمية» الاقتصادية المبتذلة من شأنها أن تزيل قضية النزاع بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وتُبعد الى المقام الثاني (إنْ لم نَقُلْ «تشطب») مسألة ضرورة احتواء التناقضات الفلسطينية الإسرائيلية في اثناء المفاوضات السياسية. أما سياسة روسيا الشرق أوسطية، فيبقى أحدَ مكوناتها الرئيسية، التمسكُ بمبدأ تسوية النزاع، وتفهُّم واقع أن تحقيق سلام وطيد في المنطقة مستحيل من دون حل القضية الفلسطينية. لذا فإن الساسة أو الديبلوماسيين الروس لا يرون بديلاً آخر للحوار، مهما كان صعباً وطويلاً ومهما تطلب من القوى والشجاعة، من الطرفين. وفي اثناء مثل هذا الحوار، ينبغي أن تُبنى رؤيةٌ جديدة لتعايش إسرائيل مع جيرانها العرب عل أساس الشرعية الدولية المعترف بها.
وترى روسيا أن من المفيد، باستغلال سمعتها في العالم العربي، خوضَ حوار مع منظمات مثل «حماس»، التي تحتل مواقف أكثر تطرفاً إزاء اسرائيل. لقد أشار رئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الاتحاد الروسي ميخائيل مارغيلوف، إلى أن الاتصالات مع «حماس» هامة، لأنها تحمل طابعاً إعلامياً، وبالاضافة الى ذلك، فإن هذه الاتصالات تسمح بمحادثة ممثليه مباشرة، وبدون وساطة من قبل الإيرانيين والسوريين. وتهدف الاتصالات الروسية مع الجناح السياسي لـ «حماس» إلى دفع زعماء هذه المنظمة إلى القبول بشروط الاعتراف بها من قبل المجتمع الدولي وإلى اتخاذ موقف أكثر واقعيةً إزاء مسألة استعادة الوحدة الفلسطينية المطلوبة لتحقيق تقدّم على طريق التسوية السلمية.
إن «الحضور الروسي» في إسرائيل لا يُمثَّل بحوالى مليون من سكانها الناطقين بالروسية فحسب، بل وبتراث روسيا المتمثل في كنائس وأديرة ومبانٍ متنوعة وقِطعٍ من الأرض، أي ما صنعه المسيحيون الأرثوذكس الروس في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وخلال الفترة الممتدة بين عامي 1857 و1914، اشترت البعثة الدينية الروسية في القدس والجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية أكثر من 65 قطعة أرض يبلغ مجموع مساحتها زهاء 150 هكتاراً. وزادت هذه الأملاك بست مرات عن أراضي كريملين موسكو المعاصر. ويقع الجزء الأكبر من هذه الأراضي في القدس وضواحيها، لكن قِطعًا أخرى من الأرض تم شراؤها في بيت لحم وأريحا وعند بحر الجليل والخليل وحيفا وعدد من المواقع الأخرى. أشارت الصحف الإسرائيلية المعاصرة إلى أن روسيا بنت في فلسطين أكثر مما بنته بريطانيا التي أدارت هذه الأراضي على مدى ثلاثين عاماً تقريباً.
عاد الجزء الأكبر من الأملاك الروسية إلى البعثة الدينية، غير أن الجمعية الفلسطينية، كانت بحوزتها أملاكٌ ضخمة. وتم تسجيل هذه الأملاك وفقاً للقواعد العاملة في الإمبراطورية العثمانية، حيث خُصص جزء منها للحكومة القيصرية، وسُجل جزء آخر على أسماء النبلاء منهم الأمير العظيم سيرغي الكساندروفيتش، الذي شارك بشكل فعال في نشاط الجمعية الفلسطينية، كما سُجّل جزء محدد من هذه الأملاك بصفة الوقف الشرعي. وجدير بالذكر أن هذه الأملاك تم شراؤها من خزانة الدولة، أساساً، لا بأموال خاصة. غير أن غياب ذكر «الدولة» (في الأوراق الرسمية)، كشخصية اعتبارية تتمتع بحق حيازة الملكية، شكل لاحقاً حواجز عديدة عرقلت إعادة الاملاك الروسية الى الاتحاد السوفياتي السابق، ومن ثم إلى روسيا.
أقرّت سلطات الانتداب البريطانية في العام 1926 «توجيهات بشأن إدارة الأملاك الروسية»، ثبَّتت وضعها كطرف وحيد تصرَّف بالأملاك الروسية في فلسطين. وفي القدس أقيمت على الأرض الروسية وفي المباني الروسية ـ مقابلَ أدنى أجرة ـ مؤسساتٌ حكومية بريطانية، مما خلق سابقةً استغلتها دولةُ إسرائيل بعد العام 1948.
وفي السنوات الاولى بعد قيام إسرائيل، سُلِّم إلى الكنيسة الروسية عدد من قطع الأرض والمباني الواقعة على أرضها وفي القدس الغربية. اما الأديرة والكنائس الروسية الواقعة على أراضٍ أدارها الاردن، فبقيت ملكاً للكنيسة. وفي اكتوبر/تشرين الأول العام 1964 وقعت وزيرة الخارجية الإسرائيلية غولدا مائير والسفير السوفياتي في إسرائيل ميخائيل بودروف اتفاقية، دخلت التاريخ باسم «الصفقة البرتقالية». فقد باعت حكومة نيكيتا خروشوف إلى أسرائيل، مقابل لا شيء، في واقع الأمر، اي مقابل مبلغ 4,5 مليون دولار 22 منشأة (أملاكاً عقارية) واقعة على أرضها.
وفي النصف الثاني من الثمانينيات من القرن العشرين، حين وصل إلى إسرائيل فريق قنصلي للديبلوماسيين الروس، طُرحت مسألة الأملاك الروسية. وبدأ الطرفان في دراسة هذه القضية منذ اوائل التسعينيات من القرن العشرين، حين استعادت روسيا العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، وأسست سفارتها في تل أبيب. ودار الحديث بالدرجة الأولى عن إعادة تسجيل كنيسة الثالوث المقدس، ومبنى البعثة الدينية الروسية بمبانيها المتاخمة لها وقطعة أرض في شارع الملك جورج في وسط القدس، إلى الحكومة الروسية. واستمرت المباحثات خلال بضعة أعوام. وتباطأت اللجنة الإسرائيلية المعنية بدراسة مسألة الأملاك الروسية، والتي تمّ تشكيلها في السنوات السوفياتية، في الاعتراف بروسيا كوريثة للاتحاد السوفياتي السابق. وبالرغم من أن روسيا وقعت، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، عدداً من الاتفاقيات مع الجمهوريات الاتحادية السابقة التي نصّت على أنها (روسيا) ستحصل على كل الأملاك السوفياتية في الخارج مقابل شطب الديون المستحقة على الاتحاد السوفياتي، إلا ان السلطات الاسرائيلية خشيت من مطالب أوكرانيا (مثلاً) بها.
وفي خريف العام 1996، أثناء زيارة وزير الخارجية الروسي آنذاك يفغيني بريماكوف إلى إسرائيل، سُلِّمت اليه وثائقُ تثبِّت لروسيا الاتحادية الحقَّ في الأملاك المذكورة. وتم تسليم المباني الكنسية المعادة، إلى الكنيسة الارثوذكسية الروسية على الفور، بموجب مرسوم أصدره الرئيس الروسي. وطالت قصة تسليم «بيت سيرغي»، أي مجموعة المباني الواقعة في وسط القدس إلى روسيا. وبينت التعقيدات الخاصة بهذه المسألة بوضوح، سعي إسرائيل لربط تسوية قضايا الملكية بحل مهامها السياسية الخارجية. وفي خريف العام 2008، أثارت قلقاً بالغاً لدى السلطات الإسرائيلية نيةُ روسيا عقدَ معاهدة بشأن التعاون العسكري مع سوريا، وكذلك ما تردد من شائعات بإعداد العدة لبيع صواريخ «إس -300 « إلى إيران. ففي ذلك الوقت بالذات جاء رئيس الوزراء إيهود أولمرت إلى موسكو بقرار الحكومة الاسرائيلية تسليم «بيت سيرغي» إلى روسيا.
يظهر تاريخ العلاقات الروسية - الاسرائيلية خلال العقود الأخيرة أن الطرفين يتعلمان أثناء التعاون بينهما التغلبَ على سوء التفاهم والاعتبارات المتكوّنة تاريخياً، وإيجادَ مخرج من الأوضاع المعقدة التي تتسبب فيها مصالح إقليمية يستبعد بعضها البعض. غير أن تطور التعاون الثنائي الواسع النطاق لا سيما في المجال العسكري التقني، سيعرقله غيابُ الثقة بروسيا بسبب توجيه صادراتها العسكرية إلى بلدان معادية لإسرائيل، وبسبب الموقف الإسرائيلي المستقل من الملف النووي الإيراني. وستعرقل الإدارة والشركات الأميركية هي الاخرى، هذا التعاون.
 
[ باحثة في قسم الدراسات الاسرائيلية معهد الاستشراق، الأكاديمية الروسية للعلوم.

 العلاقات الروسية الإسرائيلية: شراكة وتناقضات (I)

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024..

 الأحد 28 نيسان 2024 - 12:35 م

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024.. حول التقرير.. ملخصات التقرير … تتمة »

عدد الزيارات: 155,004,965

عدد الزوار: 6,974,538

المتواجدون الآن: 78