مأزق الديمقراطية في ظل الفكر السلفي

تاريخ الإضافة الخميس 19 نيسان 2012 - 6:49 ص    عدد الزيارات 401    التعليقات 0

        

 

مأزق الديمقراطية في ظل الفكر السلفي
جلال أمين *
جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من الجماعات السلفية، ليست فقط جماعات من المتدينين المخلصين للإسلام، والراغبين في تطبيق شرع الله وإحياء التراث الإسلامي، ولكنها إلى جانب ذلك أحزاب سياسية، خاصة بعد أن سمح لها، بعد ثورة 25 يناير 2012، بتكوين الأحزاب، شأنها شأن غيرها، والاشتراك في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وممارسة مختلف أنواع الرعاية والترويج لمبادئها.
هذه الأحزاب الإسلامية تتمتع في نشاطها السياسي، وفي دعايتها الانتخابية، بميزة كبرى لا يتمتع بها غيرها من الأحزاب، وهي أنها تعمل في بلد أهله يتسمون، منذ أقدم العصور، بالتدين الشديد، ولديهم استعداد قوي للاستجابة لخطاب سياسي يعلن في نفس الوقت أن مرجعيته إسلامية، وللتعاطف بشدة مع أصحاب هذا الخطاب لدرجة غض البصر عما يمكن أن يصدر عن هؤلاء من تجاوزات في العمل السياسي أو الاجتماعي، طالما أنهم في خطابهم يلتزمون بالاحترام الواجب للدين.
على العكس من ذلك، يعاني المنافسون السياسيون لهذه الجماعات السلفية (إذ إن جميعهم في الحقيقة سلفيون رغم اختلاف الأسماء التي تطلق عليهم)، من خطر انصراف الناس عنهم، لخلوّ خطابهم مما يدل على المرجعية الإسلامية، ومن الاستشهاد المستمر بالنصوص الدينية، مهما كانت درجة النبل في مواقفهم السياسية والاجتماعية، حتى ولو كانت هذه المواقف متفقة تماما مع الأهداف العليا للدين الإسلامي.
دخل الجميع حلبة المنافسة بمجرد أن فتحت لهم أبواب الانتخاب والترشح للمجلسين النيابيين، بل وحتى قبل ذلك بشهور عندما دُعي الناس للمشاركة في استفتاء على تعديل بعض المواد الدستورية، في مارس 2011، على الرغم من أن هذه المواد لم تكن تمس العقيدة أو المبادئ الدينية من قريب أو بعيد. كان يكفي الجماعات الإسلامية أن تعلن للناس بأن التصويت بالإيجاب على هذه المواد أقرب إلى ضمان رضا الله تعالى من التصويت بالنفي. كان هذا الزعم (ومن ثم نجاحهم في تمرير التعديلات الدستورية) كافيا لتحقيق هذه الجماعات لبعض أهدافها السياسية البحتة التي لا علاقة لها بالدين (مثل إجراء الانتخابات قبل وضع دستور جديد)، ومن ثم زيادة فرصها في الحصول على أغلبية برلمانية، وكل ما يترتب على ذلك من تغيرات سياسية تتفق مع أهدافها (بما في ذلك فرصتها في انتخاب رئيس للجمهورية يحظى بتأييدها).
قد لا يرى البعض أي غضاضة في هذا كله (ومن المؤكد أن الجماعات الإسلامية لا تجد فيه أي غضاضة) ولكنني أقر بأنني أرى فيه مأزقا حقيقيا للديمقراطية. الجماعات الإسلامية تقول دع الناس يقررون ما يشاءون ويختارون من يشاءون من النواب، ومن يرونه صالحا لعضوية اللجنة التي يعهد إليها بوضع الدستور، بينما ترى الأحزاب الأخرى أن في هذا نوعا من الظلم لهم، بل وخروجا على جوهر الديمقراطية، الجماعات الإسلامية (أو السلفية) يتعجبون من موقف الأحزاب الأخرى، ويضربون كفا بكف قائلين: «ما هي الديمقراطية إذا لم تكن الرضوخ لرأي الأغلبية؟ وإذا كانت الأغلبية قد اختارت ممثلي هذه الجماعات، فلماذا لا تحترمون رأيها؟ أأنتم (أيها الليبراليون أو العلمانيون) تظلون تنادون بالديمقراطية حتى تأتي الديمقراطية بنواب لا يعجبونكم، فتنقلبون ضد الديمقراطية؟ وما الذي لا يعجبكم بالضبط في أن يقوم أعضاء البرلمان أيضا باختيار اللجنة التأسيسية التي ستقوم بوضع الدستور؟ أليس أعضاء البرلمان هم الذين اختارهم الشعب؟ فما الخطأ في أن يقوم نواب الشعب باختيار آخرين، من داخل مجلس الشعب أو من خارجه، باختيار من سيضع الدستور؟ فإذا سمحنا بأن يكون من بين أعضاء هذه اللجنة التأسيسية 60٪ أو 50٪ أشخاص يأتون من خارج مجلس الشعب، فلماذا لا تقبلون هذا منا شاكرين؟ ألا تعطينا مبادئ الديمقراطية الحق في أن نضع الدستور وحدنا؟ أو أن نختار وحدنا من سيقوم بوضع الدستور؟».
عندما قرأت اعتراضات الليبراليين (والعلمانيين) على هذا القول، تعاطفت مع هذه الاعتراضات، ولكنني لم أجد معظم ما قدموه من حجج مقنعا تماما. يقول المعترضون «إن هناك عناصر مهمة من الشعب لا يمكن تجاهلها، ويجب أن تكون ممثلة في لجنة وضع الدستور، ولكنها غير ممثلة تمثيلا كافيا على الإطلاق في مجلس الشعب، ومن ثم فلا يمكن أن نتوقع أن يختار مجلس الشعب عددا كافيا يمثلون هذه العناصر في لجنة وضع الدستور. من أهم هذه العناصر، المرأة، والأقباط والشباب الذين قاموا بالثورة».
لم تفلح هذه الحجة في إقناع الجماعات الإسلامية، ولم أجد هذا غريبا. فإذا كانت هذه العناصر (المرأة والأقباط وشباب الثورة) مهمة حقا وقوية، فلماذا لم تحصل على نصيب أكبر في مجلس الشعب؟ بعبارة أخرى، يمكن أن ترد هذه الجماعات بالقول «إذا كان الناس لم ينتخبوا إلا عددا قليلا من النساء أو من الأقباط أو من شباب الثورة، فما الذي لا يعجبكم في هذا؟ ألا يدل هذا على أن الشعب المصري يفضل أن يمثله الرجال على أن يمثله النساء، وكذلك فيما يتعلق بالأقباط أو شباب الثورة. تقولون إن نسبة النساء في الشعب المصري، وكذلك نسبة الأقباط ونسبة الشباب، أكبر بكثير من نسب تمثيلهم في مجلس الشعب، فما هو الخطأ في هذا، هل تريدون أن تكون نسبة النساء في مجلس الشعب وكذلك الأقباط والشباب) مساوية بالضبط لنسبهم في الشعب المصري؟
إن المطلوب من المجلس المنتخب ليس أكثر من التعبير عن اختيارات الناس وليس أن يكون صورة فوتوغرافية مصغرة للشعب بكل أنواعه وطوائفه. أنتم تعترفون بعدم وقوع تزوير وتلاعب، فما الذي تريدون أكثر من ذلك؟».
يقول المعترضون إن أموالا كثيرة أنفقت من جانب الجماعات السلفية، جاءت معظمها من خارج البلاد. ولكن هذه الجماعات يمكن أن ترد على ذلك بالقول «ألم تنفق الأحزاب الليبرالية أيضا أموالا كثيرة؟ وهل هناك دولة في العالم تمنع الإنفاق على الدعاية الانتخابية؟ أما أن الأموال تأتي من الخارج فهل هذا بالضرورة ودائما يفسد العملية الانتخابية؟ إذا كان في الأمر رشوة أو شراء صريح للأصوات فلتحاولوا إثبات ذلك. أما أن توزع بعض المواد الغذائية على الناخبين لضمان الحصول على أصواتهم فكيف تستطيعون القطع بأن من فاز بأصوات بعض الناخبين بعد حصوله على هذه السلع الغذائية، ليس هو من كان سيفوز بأصواتهم لو لم يحصلوا على هذه السلع؟».
مع كل هذا ما زلت أجد نفسي متعاطفا مع المعترضين على انفراد مجلس الشعب المنتخب بسلطة وضع الدستور، أو بحق اختيار اللجنة التي تقوم بوضعه، أو اختيار معظم أعضاء هذه اللجنة. وعندما سألت نفسي عن سبب موقفي هذا رأيت أننا لا يمكن أن نحل هذا الخلاف حلا حاسما إلا إذا كنا على استعداد للاعتراف بشيء خطير. وهو أن مبدأ الرضوخ دائما لرأي الأغلبية، هو نفسه محل نظر. إنني أصف هذا الاعتراف «بالخطير» لأن هذا المبدأ الذي أراه محل نظر، شاع قبوله منذ زمن طويل، حتى استقر في وعي معظم الناس إنه لا يمكن أن يكون خاطئا أو قاصرا، أو أن من الواجب إدخال بعض التحفظات عليه. وهذا هو بالضبط ما أريد مناقشته الآن.
إن اتباع رأي الأغلبية وجمع الأصوات وطرحها، ليس دائما أفضل الطرق للوصول إلى «الحقيقة»، ولا حتى دائما أفضل الطرق لتحقيق الصالح العام. هل يجوز مثلا أن نعتبر نظام التصويت واتباع رأي الأغلبية في القضايا العلمية أو قضايا المنطق البحت، فنطلب رأي الناس فيما إذا كانت 2+2 تساوي أربعة أم خمسة؟ هل علينا احترام رأي الأغلبية فيما إذا كان علينا أن ندرس للتلاميذ في المدارس ما إذا كانت الأرض كروية أم مسطحة؟ أظن أن هذا غير جائز في الحالتين، بل هو أقرب إلى السخف منه إلى الجد. نعم من الممكن (بل وربما من الواجب) أن نستطلع رأي الناس وأن نتبع رأي الأغلبية فيما إذا كان على الإذاعة مثلا، أن تخصص وقتا لأغاني محمد عبد الوهاب أطول أو أقصر مما تخصصه لأغاني عبد الغني السيد أو محمد عبد المطلب، ولكنني لا أظن أن رأي الأغلبية واجب الاتباع في اتخاذ قرار بما إذا كان صوت الميكروفونات في الشوارع يجوز أو لا يجوز أن يتجاوز حدا معينا من الارتفاع.
في بعض الأمور إذن لا يجوز الاستسلام لرأي يتعارض مع أبسط قواعد المنطق أو العلم، بحجة أنه الرأي الذي تفضله الأغلبية، بل وأريد أن أضم إلى ذلك أيضا بعض المبادئ الأخلاقية التي قد يختلف الناس عليها حقا ولكنها أصبحت، مع مرور الزمن، جزءا من مكونات الضمير الإنساني التي لا يجوز التشكيك فيها. من ذلك مثلا أن من الواجب احترام عقل المرأة وليس فقط صيانة جسدها، وأن صاحب العقيدة الدينية المختلفة عن العقيدة التي تدين بها الأغلبية، له حق الاحترام من جانب أصحاب العقائد الأخرى، وله حق ممارسة شعائر دينه ما دام لا يجور على حقوق الآخرين في ممارسة شعائر دينهم، سواء كان الآخرون أغلبية أو أقلية. التعلل بمبدأ الأغلبية لتبرير الخروج على هذه القواعد التي تنتسب إلى العلم أو المنطق البحث والحقوق الطبيعية للإنسان، هو موقف ظالم في رأيي ويجب رفضه.
لا بد من الاعتراف أيضا بأن الأغلبية (شأنها شأن الأقلية) يمكن أن تترك لعواطفها العنان لدرجة تجعلها تحيد عن الصواب، سواء كان هذا الصواب هو ما تفضي إليه قواعد المنطق البحت، أو العلم الثابت، أو حقوق الإنسان الطبيعية. بل إن احتمال هذا الانحراف عن الصواب أكبر في حالة الأغلبية منه في حالة الأقلية، لأن الأعداد الغفيرة من الناس يشجع بعضها بعضا، ومن ثم فهي أقرب للوقوع تحت طغيان العاطفة من الأعداد الأقل. والعواطف تخضع لتأثير العديد من العوامل، منها التحيز لعائلة أو قبيلة أو أمة، أو التحيز لجنس ضد آخر، أو لثقافة دون أخرى، أو لدين دون غيره.
كما أن العواطف تتأثر بحملات الإعلان الناجحة، إما بسبب ما تستخدمه من أساليب متقدمة في اللعب بعواطف الناس، وما تنفقه من أموال، أو بسبب مجرد الإلحاح المستمر للترويج لشخص أو حزب أو سلعة. كل هذه المؤثرات كثيرا ما تدفع الأغلبية في اتجاه معين دون آخر، دون أن يكون هذا الاتجاه المعين بالضرورة أقرب إلى الحقيقة أو إلى تحقيق الصالح العام. إن مثل هذه الاعتبارات هو الذي جعل مفكرا فرنسيا كبيرا يكتب منذ ما يقرب من قرنين من الزمان (أليكس دي توكفيل) كتابه الشهير (الديمقراطية في أميركا) والذي ما زال يعاد طبعه ويقرأ ويقتطف بلا انقطاع حتى الآن، ويحذر فيه من طغيان وظلم الأغلبية لمن عداهم. ومثل هذا هو أيضا الذي جعل مفكرا أميركيا معاصرا يصف الديمقراطية الأميركية ساخرا بأنها «أفضل نظام سياسي يمكن شراؤه بالنقود». إنه لم يتهم الديمقراطية الأميركية باستخدام التزوير أو الرشوة، بل كان يقصد ما يمكن للنقود أن تفعله في تشكيل عواطف الأغلبية سواء بالحق أو بالباطل.
ـــ أظن أن هذا هو السبب الحقيقي للخلاف الدائر الآن في مصر حول طريقة اختيار أعضاء اللجنة التأسيسية التي ستضع الدستور. فريق يرى أن من حق الأغلبية أن تفعل أي شيء، وفريق يشكك في ذلك. وغرضي من هذا المقال هو دعم الفريق الذي يشكك في ذلك. ولكنني أرى أيضا إلى أبعد من ذلك.
فنحن مقبلون، حتى بعد الانتهاء من وضع الدستور، على مواجهة مشكلات كثيرة يكمن وراءها نفس هذا المأزق.
ما هو نظام التعليم الأنسب؟ وما هي طريقة التعامل مع الأقليات الدينية في المدارس والمقررات الدراسية؟
وكيف يمكن التعامل معها أيضا في وسائل الإعلام؟
وما موقفنا من حرية الإبداع والفنون.. إلخ؟ هل سنتبع رأي الأغلبية في كل هذا مهما كان شططه؟ هل نجمع الأصوات ونطرحها من أجل تحديد ما إذا كان سيجري تدريس نظرية علمية للتلاميذ أم سيجري حذفها؟ وما إذا كنا سنسمح بتدريس فن النحت في كلية الفنون الجميلة أو نمنعه... إلخ؟ هل سنتبع في هذا كله رأي الأغلبية؟ إذا كان الأمر كذلك فإننا نكون مقبلين على كارثة محققة.
 مفكّر من مصر

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024..

 الأحد 28 نيسان 2024 - 12:35 م

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024.. حول التقرير.. ملخصات التقرير … تتمة »

عدد الزيارات: 155,752,586

عدد الزوار: 7,002,385

المتواجدون الآن: 86