بعد النموذج الأميركي... بوتين يؤسس لنظام عالمي روسي ؟

تاريخ الإضافة الإثنين 8 كانون الأول 2014 - 11:43 ص    عدد الزيارات 744    التعليقات 0

        

 

بعد النموذج الأميركي... بوتين يؤسس لنظام عالمي روسي ؟
إميل أمين
في أوائل تشرين الثاني (نوفمبر) 2014 صدرت مجلة «فوربس» محتوية على أسماء الرجال الـ 25 الأقوى في العالم، وللعام الثاني على التوالي يحتل الزعيم الروسي فلاديمير بوتين صدارة المشهد، بوصفه الرجل الأقوى على وجه الأرض، والذي لا يمكن توقع توجهاته أو مساءلته، إذ يقف على رأس دولة غنية بالطاقة، ذات رؤوس حربية نووية، ولا يمكن أحداً أن يصفه بالضعيف.
هل يتخذ بوتين من المنصة الروسية العائدة إلى الأجواء القطبية الدولية بقوة كما العنقاء، من الرماد منطلقاً للحديث عن التفكير في نظام عالمي جديد يتجاوز مرحلة اللانظام التي تعيشها البشرية في الأعوام الأخيرة؟ هل يسعى إلى لعب دور بطرس الأكبر؛ باني نهضة روسيا الحديثة، أم يعمد إلى قيادة بلاده على غرار النموذج الستاليني الشهير؟
في توقيت مقارب لصدور عدد «فوربس» المشار إليه، كان مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، أحد أهم مراكز التفكير في الولايات المتحدة الأميركية، يشهد ندوة لمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لسقوط جدار برلين، شارك فيها ثعلب السياسة الأميركية هنري كيسنجر الذي واجهه الحضور بالسؤال: هل بوتين يشبه ستالين؟
في خلفية الرسائل الفكرية، كما كتبت «فايننشال تايمز» منذ بضعة أيام أن «روسيا أكثر خطورة من «داعش» بالنسبة إلى أوباما»، غير أن كيسنجر نفى عن بوتين أي شبه مع ستالين، قائلاً: «لا أظن أن بوتين يعتقد بأن نظام الحكم في روسيا يميل إلى النسق الستاليني، هو يشعر بعمق التضرر من الإجراءات الغربية، ويتفاعل معها بطريقة كان سيفهمها بطرس الأكبر فقط».
إذاً، نحن أمام نموذج قيادي روسي، لديه روح المبادرة والمبادأة للقيادة في عالم اهتزت فيه هذه الروح، لا سيما منذ أن خيّل للأميركيين انفرادهم بمقدّرات العالم في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي، وبلغ الأمر عند المحافظين الجدد في أواخر تسعينات القرن المنصرم حد الحديث عن صوغ ورقة استراتيجية تتطلع الى الهيمنة على العالم طوال القرن الحادي والعشرين، وقطع الطريق على أية أقطاب عالمية تتطلع الى مزاحمة واشنطن في ريادتها وسيادتها لشعوب الأرض ولو بالقوة. ماذا عن رؤية بوتين للنظام العالمي الروسي، إن جاز التعبير، وهل من حظوظ لنجاحه؟
ربما يمكن اعتبار ما جرى في نهايات شهر تشرين الأول (أكتوبر) المنصرم في مدينة سوتشي، بداية جديدة، أو في أضعف الأحوال والمآلات دعوة غير تقليدية الى التفكير في عالم جديد.
جرى ذلك خلال اجتماع نادي «فالداي» الدولي للحوار الذي ضم خبراء من عشرات البلدان، حيث اعتبر بوتين أن بناء نظام علاقات دولية جديد هو «مهمة ذات أولوية للحيلولة دون نشوب نزاعات داخلية ودولية».
في كلمته أمام النادي، أكد بوتين أن النظام العالمي الأحادي القطب ـ أي النظام العالمي بالمسحة الأميركية ـ أظهر عدم قدرته على تحمل قوة مهيمنة واحدة. ووفق قول بوتين، فإن هذا البناء الهش أثبت عدم قدرته على المواجهة الفعالة لتهديدات مثل النزاعات الإقليمية والإرهاب وتجارة المخدرات والأصولية الدينية والشوفينية والنازية الجديدة.
أبعد من ذلك، يعتبر بوتين أن «العالم الأحادي القطبية بجوهره هو تبرير للديكتاتورية تجاه الناس وتجاه البلدان»، كما أنه «لا توجد ضمانة اليوم بأن يكون نظام الأمن الدولي والإقليمي الحالي قادراً على الحماية من الصدمات».
هل من مفارقة كبيرة بين حديث بوتين أمام منتدى «فالداي» الأخير وبين خطابه الذي اعتبر معادياً للغرب في ميونيخ قبل سبع سنوات؟
لعل من قدرت له مقاربة حقيقية بين المشهدين، رأى كيف أن بوتين في 2007 كان متوتراً وغاضباً، لا سيما في مواقفه تجاه الولايات المتحدة الأميركية وسياساتها الدولية الخارجية، غير أنه وفي خطابه الأخير بدا وكأنه مسترخٍ وسعيد. بل كان مبتسماً ويلقي بالنكات. كيف يمكن تفسير هذا المشهد على رغم العقوبات المفروضة اليوم على روسيا من جانب الغرب، ومع وجود ملفات ساخنة مفتوحة كالنيران المسلّطة على سويداء القلب الروسي؟
عند ديمتري ترينين؛ مدير مركز كارنيغي في موسكو، ان الفارق هو أن روسيا اليوم تثبت عملياً مقدرتها على التصدي لفكرة القطب الواحد؛ ذلك أنها تواجه سياسات واشنطن في أوكرانيا وسورية، ما يعني أن موسكو ترفض الوضع الدولي القائم، وأنها ستدافع عن مواقفها بشأن المسائل الرئيسة بالنسبة اليها.
هل يعني ذلك أن روسيا تفكر في تقاسم النفوذ الدولي مع الأميركيين، والعودة إلى زمن الحرب الباردة؟
يخبرنا بوتين في «فالداي» أن «الدب الروسي ملك التايغا (غابات سيبيريا) يعيش هناك في وئام مع الطبيعة، ولا يريد تغيير مكانه أو الهجرة والتوسع في مناطق جغرافية أخرى، يعلم أنها لا تناسبه، ولا يريدها، لكنه لن يسمح أبداً لأي كائن كان بالتطاول على مملكته».
هذا الخطاب يعني أن روسيا وخلافاً لمزاعم الغرب لا تعتزم أن تأخذ على عاتقها دور المهيمن، والمتحكم بمصائر العالم، غير أنها تدافع عن مواقفها، بكل السبل المتاحة حالاً ومستقبلاً.
والمقطوع به أن حديث «فالداي» كان لا بد من أن يثير مخاوف الغرب بعامة والولايات المتحدة بخاصة، فقد اتهم بوتين «الاملاءات» الأميركية من جانب واحد، بالتسبب في الاضطرابات العالمية، واتهم الغرب بازدواجية المعايير والنفاق تجاه روسيا التي وصفها بأنها كانت تعمل فقط على «حماية مصالح السكان الناطقين باللغة الروسية في شبه جزيرة القرم، ضد الفاشيين الجدد، عندما ضمت شبه الجزيرة وأشعلت الصراع في الشرق».
كانت الرسالة الروسية ولا تزال واضحة: «إذا ما كسرت أميركا القواعد في كوسوفو، فيمكن روسيا فعل ذلك في أوكرانيا». هل تغيرت على هذا النحو سياسات روسيا في الأعوام المقبلة؟
يبدو أن هذا أمر بات حقيقة تفرضها السياسات الروسية، وتدعمها نهضة عسكرية روسية غير مسبوقة. أما عن السياسات، فجوهر خطاب بوتين هو أن موسكو في منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، ليست كما كانت في عقد التسعينات، بمعنى أنها لن تقف عاقدة الأذرع على الصدور تجاه أخطاء الغرب التي تقترب من الخطايا، وأنه إذا كانت موسكو في الماضي تنطلق من أن الغرب يمثل قوة الخير، وأنه يمكن مسامحته على بعض الهفوات، أما الآن فإن أمن روسيا أصبح مهدداً.
ماذا عن التطورات العسكرية في الداخل الروسي، وانتشارها على الصعيد العالمي؟ وهل تتهيأ روسيا الحديثة لمواجهة استحقاقات النظام العالمي الروسي الجديد؟
في الأسبوع الأول من شهر تشرين الثاني 2014، الذي تكاثرت فيه الأحداث الدولية، صدر عن «شبكة القيادة الأوروبية»، وهي منظمة بريطانية غير ربحية، تقرير عما سمّته «العمليات الاستفزازية» الروسية ضد الغرب، ويبلغ عددها نحو أربعين حادثة، منذ ضمت روسيا شبه جزيرة القرم في شهر آذار (مارس) الماضي، حيث تحرش الروس بالدول الغربية، من خلال الاشتباكات الجسدية والديبلوماسية، وإرسال طائراتهم الحربية، للتحليق بشكل قريب من هذه الدول، ومن خلال قيادة «الغارات الوهمية» كما يشير التقرير.
تشي هذه الحوادث بثقة عسكرية روسية بالنفس، بنقل البلاد من مرحلة اليد المرتعشة إلى القبضة الحديدية الواثقة بذاتها، وهو ما أشار إليه بوتين في الرابع من الشهر الجاري، أي يوم الوحدة الشعبية، العيد الوطني الذي تحتفل به روسيا، إذ أشار إلى أن بلاده تقوم بتطوير قواتها، لكي تقدر على درء ما يحدث لها من أخطار.
في خلفية بوتين الاستخباراتية والعسكرية أن أولئك الذين يصنعون «الثورات الملونة» الجديدة واحدة تلو الأخرى يظنون أنفسهم رسامين عباقرة، فلا يستطيعون التوقف أبداً ولا يفكرون بالعواقب اطلاقاً، ولهذا فإن روسيا تناصر «العقيدة العسكرية الدفاعية» التي تفرض على المسؤولين الروس العمل على حفظ سيادة الدولة والسلام والهدوء لمواطنيها، وفي الوقت نفسه الانتباه من الانزلاق «في مواجهة يحاول الآخرون جر الروس إليها».
يعن لنا أن نتساءل هل بوتين صادق بالمطلق في حديثه عن الاستراتيجية الدفاعية الروسية أم خلف الكواليس هناك استعدادات عسكرية غير مسبوقة للحظة تحول المواجهة الباردة الآنية مع حلف «الناتو» إلى مواجهات ساخنة، حال انفلات الأعصاب وسخونة الرؤوس بخاصة في ظل حقبة من التردد الأميركي غير المسبوق.
في 28 و29 تشرين الأول الماضي، رصدت رادارات حلف الأطلنطي، نشاطاً مكثفاً للقوات الجوية الروسية، تمثل في تحليق طائرات عسكرية روسية فوق بحر البلطيق وبحر الشمال والبحر الأسود والمحيط الأطلسي، ودفع ذلك الناطق باسم وزارة الدفاع الأميركية، الأميرال جون كيربي في 31 تشرين الأول الماضي للتصريح بأن «نشاط القوات الجوية الروسية الزائد ينذر بتصعيد الوضع الأمني في أوروبا، ولهذا نناشد السلطات الروسية القيام بخطوات لتخفيف التوتر وليس تصعيده». والثابت أن تطوير الأسلحة الروسية أخيراً يحتاج الى حديث مفصل قائم بذاته، لكن وفي غير تطويل ممل، نشير إلى بعض المشاهد التي تمثل منحنيات لها أهميتها في هذا الإطار، ففي الأول من تشرين الثاني أيضا أعلنت وزارة الدفاع الروسية عن اطلاق تجريبي ناجح لصاروخ حربي من نوع توبول، وقبل التجربة بـ24 ساعة كانت وزارة الدفاع الروسية تصادق على المهمة التكتيكية ـ التقنية لتصميم مدمرة جديدة يعرف برنامج بنائها بـ «شيفرة - ليدير»، والمتوقع أن يكون السلاح الضارب لها هو مجمع «كاليبر» الصاروخي، المخصص لإصابة الأهداف المهمة البعيدة في أراضي العدو... وقبل ذلك بأيام معدودات كثر الحديث عن «قطار الانتقام» النووي الروسي، حيث تواصل روسيا تطوير النسخة الجديدة من منظومة صاروخية نووية غير عادية تنتقل عبر السكك الحديد، والمرجح أن يكون ظهور القطار الصاروخي على السكك الحديد الروسية، أحد التدابير التي تعدها وزارة الدفاع في حال فشلها في إقناع الجانب الأميركي بالتخلي عن خططه المعروفة بالدرع الصاروخي.
والحديث يطول عن تسليح الأسطول الروسي بصواريخ مجنحة جديدة وأخرى من نوعية الصاروخ «سينيفا» القادر على حمل 4 إلى 8 رؤوس حربية يبلغ إجمالي وزنها أكثر من 2.5 طن.
يشك المحلل المحقق والمدقق في أن تكون نهضة روسيا العسكرية الأخيرة فقط هدفها الدفاع، لكن في الوقت نفسه لا تبدو لدى القيادة الروسية عبر الوقائع والأحداث رغبة في الحصول على ما ليس لها.
ويبقى القول إن مشروع روسيا لنظام عالمي جديد، له قواعد مرعية، وأصول فرعية، في القلب منه مشروع أخلاقي، مضاد للانفلات الأخلاقي الغربي، وللرأسمالية الأميركية المتوحشة، مشروع روسيا يؤسس لأهمية إنسانية وأخلاقية جديدة، حتى وإن احتمت في ظل مؤسسة عسكرية أثبتت الأيام جدواها، وعلى الجانب نهضة روسية أرثوذكسية دينية باتت مركزاً جاذباً لمظلوميات إنسانية عريضة في العالم.
ليست عشوائية عودة روسيا الى رمزها التاريخي الذي يعود إلى زمن الإمبراطورية البيزنطية «النسر ذو الرأسين»؛ أي الذي ينظر إلى الشرق والغرب في الوقت ذاته. وها هي الأحداث تثبت أن روسيا ـ بوتين، صاحبة النسر ذي الرأسين، تواصل تحولاتها، في طريقها إلى التكيف مع متغيرات العالم السياسي الجديدة، وربما في سعيها الى تخليق عالم يرتكز على قواعد جديدة عوضاً عن كونه عالماً «لعبة بلا قواعد»، كما يريده الأميركيون.
* كاتب مصري
 

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024..

 الأحد 28 نيسان 2024 - 12:35 م

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024.. حول التقرير.. ملخصات التقرير … تتمة »

عدد الزيارات: 155,313,995

عدد الزوار: 6,986,846

المتواجدون الآن: 65