ثورة المسيحيين العرب

تاريخ الإضافة الإثنين 6 شباط 2012 - 8:15 ص    عدد الزيارات 863    التعليقات 0

        


 
مشير باسيل عون

ثورة المسيحيين العرب

 

 

في هذه الأزمنة العربية المضطربة قيل الكثير في أوضاع المسيحيين العرب وفي إشكاليات انتمائهم وخصوصيتهم وبقائهم وخصوبتهم وفاعليتهم. أخطر ما أفرجت عنه أقلام المحلّلين العرب والأجانب أن هؤلاء المسيحيين باتوا خاضعين لمشيئة القَدَر العربي، تسيّرهم دواعي الزمن ومفاعيل الدهر. الحجّة الأغلب أن المرء حين يضرب بطرفه في أوطان العالم العربي لا بدّ له من أن يبصر مذلّة الإنسان العربي في جميع حقول الوجود الفكري والاجتماعي والسياسي والاقتصادي. ومع أن المسيحيين العرب هم من صميم الكيان الحضاري العربي، إلاّ أن مذلّتهم تشتدّ فتتفاقم من جرّاء ما يعتريهم من قلقٍ على المصير، وإرباك في الانتماء، واستفزاز في الإفصاح الحرّ عن خصوصيتهم الدينية والروحية والفكرية والاجتماعية والسياسية.

لا يخفى على أحد أن مقولة الانتماء العربي لا يجوز لها ولا يمكنها أن تُبطل مفاعيل هذه الخصوصية. لذلك ينبغي التبصّر الموضوعي الرصين في معاني هذه الخصوصية. ذلك أن مسألة المسيحية العربية تقترن اقتراناً وثيقاً بحقيقة التمايز المسيحي في العالم العربي. فإذا تبيّن أن المسيحيين العرب لا يختزنون في هويتهم العربية سوى ما تنطوي عليه الهوية العربية الإسلامية، سقطت مبرّرات الحديث عن معضلة الوجود المسيحي في العالم العربي. أما إذا اتضح أن المسيحيين العرب يحملون في كيانهم هويةً خاصة تميّزهم فتطبعهم بطابعها من غير أن تفصلهم فصلاً قاطعاً عن الكيان الحضاري العربي، كان من واجب الجميع حينئذ أن يدركوا أن أزمة المسيحيين العرب أزمتان، أزمة المذلّة العربية التي تنتاب الإنسان العربي على وجه العموم، وأزمة الاستعلاء والإقصاء التي تتهدّدهم في وجودهم التاريخي على وجه الخصوص. من ثمّ، ينبغي للحديث عن المسيحية العربية أن ينبسط في حقلين من المعرفة، متلازمَين متكاملَين. الحقل الأوّل هو حقل البحث عن مبرّرات الخصوصية المسيحية، فيما الحقل الثاني هو حقل التبصّر في الإمكانات التي ينطوي عليها فعلُ الالتزام المسيحي في معترك الواقع العربي المضطرب.
 

مبرّرات الخصوصية المسيحية في الانتماء العربي

لا يختلف العقلاء على القول بأن الحضارة العربية ساهم في تكوينها المسيحيون الذين سكنوا في الأرض العربية منذ ما قبل الدعوة الإسلامية. لذلك كانت الحضارة العربية، في صفاء دعوتها الإنسانية، أرحب من أن يستنفدها تصوّرٌ من التصوّرات أو أنظومةٌ من الأنظومات. فلا الأنظومة الدينية اليهودية المتقدّمة في الزمن على المسيحية والإسلام، ولا الأنظومة المسيحية المتقدّمة على الإسلام، ولا الأنظومة الإسلامية المتقدّمة على العَلمانية وفكر حقوق الإنسان، ولا حتى العَلمانية والحداثة الثقافية المتجلّية في شرعة حقوق الإنسان، يمكنها أن تنفرد بالحضارة العربية فتدّعي الهيمنة عليها.
معنى هذا القول أن الحضارة العربية يمكنها أن تستوعب تنوّع المساهمات الدينية والعَلمانية التي نشبت بذورها في الأرض العربية وما لبثت أن ارتفعت غرساً يافعاً وتفتّقت براعمَ وأزراراً. في هذا الواقع إبطالٌ للإبهام الأخطر الذي يعطّل الفهم الصحيح لانتماء المسيحيين إلى الحضارة العربية وإلى العالم العربي. فالمسيحيون يعتقدون اعتقاداً راسخاً أن العروبة أرحب من الأنظومات الدينية اليهودية والمسيحية والإسلامية. لذلك لا يستحسنون أن يستضيفهم المسلمون في حقل التسامح الديني الإسلامي، بل يؤثِرون أن تستضيفهم العروبة استضافتَها لليهود وللمسلمين وللعَلمانيين. ومع أنهم يُكبِرون في الإسلام قيَمه الروحية ويشاركونه فيها مشاركةً صادقةً، غير أنهم يعون وعياً نبيهاً أن الأنظومة الدينية الإسلامية، وشأنها في ذلك شأن جميع الأنظومات الدينية، لا تقوى على الإقبال الهنيّ إلى موضع المساواة المطلقة بين الناس. أما العروبة التي ساهموا هم في تكوّنها التاريخي، فلا تشبه الأنظومة الدينية اليهودية أو المسيحية أو الإسلامية، بل تشبه ذاتها وتنتصر لذاتها كمنفسح حرّ من التساوي والتلاقي والتضايف والتفاعل والتقابس والتلاقح. وهذه، لعمري، أفعالٌ حضارية سامية بها تتحقّق إنسانية الإنسان العربي.
ومع أن بعض الناس يعتبرون أن المناداة المسيحية بالعروبة حيلةٌ من الفكر المسيحي للفوز بمستند ثقافي للمساواة، إلاّ أن القول بعروبة المساواة والتنوّع والحرية والأخوّة إنما يعبّر في عمق مدلولاته عمّا تختزنه الهوية المسيحية من خصوصية دينية وروحية وفكرية واجتماعية وسياسية. ذلك أن يقين المسيحيين العرب في الزمن الحاضر يقتضي منهم الانتصار لمثل هذه العروبة كحاضن للتنوّع الإنساني في العالم العربي وككافل حضاري صادق وفعّال لمثل هذه الخصوصية. وإذا ما أراد المرء أن يستطلع عناصر التمايز في هذه الخصوصية، تبيّن له أنها تستند إلى ضمّة من المضامين الفكرية والخلفيات الأنتروبولوجية لا بدّ من إيجازها في كلّ حقل من حقول ظهور الهوية المسيحية التاريخية.
فالخصوصية المسيحية في الحقل الديني تقتضي من المسيحيين الاعتراف بأن اختبارهم للكشف الإلهي تعبّر عنه في حدود اللغة البشرية مقولاتُ تجسّد الله واعتلانه التاريخي في صورة الثالوث المحبّ وافتداء البشرية في شخص المسيح الذي فيه يتجلّى سرّ الحبّ الإلهي. ومن عناصر الخصوصية في الحقل الديني أيضاً أن اختبار الإيمان المسيحي يعاين في الإنسان صورةً لله رسمها الخالق في هيئة الابن الوارث للملكوت الإلهي. فإذا بالإنسان تتصوّره المسيحية كائناً حرّاً مدعوّاً إلى استنباط شرائعه وأحكامه من صلب تفقّهه لأوضاع الاجتماع الإنساني المتطوّرة بتطوّر الوعي والأحوال والأزمنة. لذلك كانت القولة المسيحية بأنْ ما من شريعة تعلو شريعة المحبة الأخوية. ومن معين هذه الشريعة يبتكر الإنسان بقدرته الذاتية جميع أحكام المعية الإنسانية.
أمّا في الحقل الروحي، فالخصوصية المسيحية تتجلّى في إصرار الإيمان المسيحي على قيَم الحبّ والغفران والتضامن في آلام الناس والرقّة والوداعة والاتضاع الفردي والجماعي حتّى الإخلاء الذاتي الذي اعتلن في أبهى صوَره في آلام السيّد المسيح. بناءً على هذا التصوّر الإيماني، يعتمد الفكر المسيحي في صفاء مثاله المذهبَ الفكري الإنساني الذي يُفرد لحرية العقل المنفسحَ الأرحب للنظر في الموجودات. لذلك كانت الخصوصية الفكرية المنبثقة من التصوّر الإيماني المسيحي خصوصيةَ الانتصار لمقولة الشخص الإنساني الحرّ العاقل بذاته والساعي إلى الحقيقة من غير انضواء في أنظومات الإغلاق والتصلّب المعرفي. لذلك قالت المسيحية، في بهاء روحيّتها، بأن الرفق هو الذي يحرّك التاريخ ويهذّب الأخلاق ويحقّق الكينونة الإنسانية. وما العنف والشدّة والمقاومة المسلّحة سوى أشكال يائسة من التصلّب العلائقي بين الشعوب.
أما الخصوصية المسيحية في الحقلَين الاجتماعي والسياسي، فتستند إلى المقدّمات الإيمانية والفكرية التي تُنصّب الإنسان كائناً حرّاً حاملاً في كيانه دعوة الابن الوارث الذي عهد إليه الحبُّ الإلهي في أن يتصرّف بالوجود والكون تصرّفَ المشرِّع المسؤول عن الخلق في روحٍ من المحبّة الإلهية الشاملة لجميع الأفراد والشعوب والأكوان المنظورة وغير المنظورة. استناداً إلى مثل هذا التصوّر الأنتروبولوجي المسيحي، لا يُخضع المسيحيون وجودَهم لشريعة إلهيّة مفصّلة يستنزلونها من لدن الله في تدبير شؤون الاجتماع المدني والسياسي، بل يؤثِرون الوثوق بالعقل البشري القادر على استنباط الأحكام التي تناسب مقام الإنسان الشخص العاقل الحرّ المؤمن بأن المحبة هي أسمى شرائع الكون.
من ثمّ، يرفض المسيحيون، في نطاق التدبير الاجتماعي، كلّ ما يخالف هذا التصوّر الأنتروبولوجي في تدبّر مسائل وحدة الزواج ومقام المرأة المستقلّ وروحية الإنجاب والمساواة العلائقية بين أفراد العيلة. ويرفضون، في نطاق التدبير السياسي، كلّ ما يخالف هذا التصوّر الأنتروبولوجي في تناول مسائل الحرية الفردية والحرية الدينية والحرية الفكرية والحرية السياسية. ويرفضون رفضاً قاطعاً ما وقعت فيه المسيحية من تجارب التواطؤ بين السلطة الدينية والسلطة السياسية في الامبراطورية البيزنطية والممالك اللاتينية وسواها من محن إخضاع الإيمان المسيحي لمنطق السلطة السياسية.
ربّ معترض يخالف هذا التمايز الحادّ بين المسيحية العربية والإسلام العربي، فيربط المسلك الاجتماعي والسياسي للعرب بعوامل الطبيعة وأحوال الاقتصاد وأوضاع التخلّف الثقافي الذي ينتاب المجتمعات العربية المسيحية والإسلامية على السواء. وربّ معترض أيضاً يخالف انعقاد المسيحية على تصوّر أنتروبولوجي للابن الوارث يناقض التصوّر الأنتروبولوجي الإسلامي للإنسان الخليفة، في حين أن الأنظومتَين المسيحية والإسلامية خاضعتان للمشيئة الإلهية الواحدة. وربّ معترض أيضاً يخالف تصوير الإسلام كأنه دين الإكراه والتشريع القاهر والتصلّب المعرفي.
هذا كلّه فيه وجوهٌ خليقة بالتبصّر والتدقيق اللطيف. غير أن واقع المجتمعات العربية قبل الثورات العربية الملتبسة وبعد هذه الثورات، يُظهر أن المسلك العربي الإسلامي ما فتئ خاضعاً لأنظومة دينية متشدّدة ما اختبرت حتّى الآن الثورة التأويلية الجذرية التي تُعتق الإيمان الإسلامي من قوالب التفكير الوسيطية المنكفئة عن مواكبة تطوّر الوعي الإنساني الكوني. ينضاف إلى مثل هذا الانسداد المعرفي الإسلامي أن الأنظومة الإسلامية تنهض على اختبارات إيمانية تستنسب مواءمةَ الشريعة الإسلامية لما يصبو إليه الكائن الإنساني في عمق حاجته الوجودية إلى الانتعاش والاكتمال والسعادة. وهذا حقٌّ شرعي لصيق بالتصوّر الإسلامي للإنسان. فالقول بمواءمة الشريعة الإسلامية لجوهر الإنسان يفترض أن الناس سبقوا فأجمعوا على تعيين جوهر الإنسان بحسب ما تستنسبه الأنظومة الدينية الإسلامية. أما الموضوعية المعرفية، فتقتضي الإقرار بأن جوهر الإنسان تتناصر على تعيينه في كلّ زمن من الأزمنة مساهماتُ الحضارات الإنسانية المتنوّعة في تذوّقها لسرّ الوجود الإنساني. وليس لأنظومة دينية، مهما سمت مرتقياتُها اللاهوتية، أن تدّعي احتكار تعيين الهوية الإنسانية. فالأصل شرعيةُ التنوّع في مقاربة الهوية الإنسانية.
لذلك كانت معضلة المسيحيين العرب تكمن في عجز الأنظومة الدينية الكلامية الإسلامية الراهنة عن الاعتراف الصريح بأن التنوّع الإنساني في المدينة العربية يقتضي لهذه المدينة تصوّراً ثقافياً ونظاماً اجتماعياً وسياسياً يتيح لجميع الناس، أفراداً ومجموعات، أن يُفصحوا عن هويتهم الثقافية إفصاحاً حرّاً يبلغ حدود النقد البنّاء للأنظومة الدينية السائدة، وينتظم في التئامات سياسية حرّة معارضة تُدخل إلى التشريع الاجتماعي العربي من الأحكام والتدابير ما يحقّق حرية الناس في التعبير الحرّ الفاعل عن صميم اقتناعاتهم الفكرية. فإذا كانت هوية المسيحيين العرب الثقافية هي العروبة، فالأحرى بالمسلمين العرب أن يشاطروهم مقتضيات هذه الهوية الثقافية حتّى تستقيم المعيّة العربية. أمّا إذا أصرّ المسلمون العرب على ربط العروبة بتصوّرات الأنظومة الدينية الإسلامية، فالمسيحيون العرب سيظلّون غرباء عن هذه الثقافة العربية الخاضعة للأنظومة الدينية الإسلامية.
من أشدّ المفاهيم السياسية التواءً القولُ بأن الديموقراطية التي يستعذبها الغرب هي التي تفرض على الأقلية المسيحية العربية أن تخضع لأحكام الغالبية الإسلامية العربية. في هذا القول أغرب الالتباسات الفكرية. فالديموقراطية الغربية لا تستحسن على الإطلاق استبداد الغالبية، بل تعتمد مبدأ الكينونة الفردية الشخصية العاقلة الحرّة المستقلّة. فتُفرد لها مقام الصدارة في مناقشة مسائل الاجتماع الإنساني وتنوّع التصوّرات الحاكمة لهذا الاجتماع. وهذا ما تعجز عنه حتّى الآن التأويلاتُ المتعاقبة للشريعة الإسلامية التي تمنح مقام الصدارة إمّا للشرع الإلهيّ، وأمّا لمصلحة الدين، وإمّا لمصلحة الأمّة.
ممّا يوازي هذا الالتواء إرباكٌ آخر في المفاهيم ينجم من القول الإسلامي بأنّ الشريعة الإسلامية تراعي التنوّع الاجتماعي والديني في حدود أحكامها الإلهية. في هذا السياق، ما انفكّ المسيحيون العرب يردّدون أنهم أحرارٌ في كيانهم الإنسانيّ لا بمقتضى الحماية التي تضمنها لهم الشريعة الإسلامية، بل بقوّة الكرامة الإنسانية التي ينفطر عليها كلُّ كائن بشري. ذلك أن الأنظومات الدينية، على تنوّعها، لا يمكنها أن تساوي بين المنتمي إليها وغير المنتمي إليها. ومن ثمّ، فهي لا تضمن إلاّ لأتباعها كامل الحقوق الإنسانية. ومن أظلم الأنظومات الدينية تمييزاً بين الناس تلك التي ينبثق من رؤيتها اللاهوتية نظامٌ سياسي واحد وتشريع فقهي ضابط وتدبير اجتماعي شامل للمسلك الإنساني الفردي والجماعي.
من بين الأقوال الإسلامية المربكة للوعي المسيحي، التصريحُ بأن حماية المسيحيين العرب في ظلّ الشريعة القرآنية أفضل من حمايتهم في ظلّ الاستبداد السياسي العربي. والحال أن المسيحيين العرب ما استعذبوا على الإطلاق الاستبداد العربي، لا في سياقه السياسي الانتهازي ولا في نظامه الديني المتشدّد. وتبلغ بهم حدّةُ التطلّب العقلي الصارم إلى مجانبة الحماية الدينية التي تضمنها لهم الشريعة الإسلامية، وفي يقينهم أن منطق الأنظومة الدينية أشدّ إطباقاً على حرية الإنسان من أنظمة الانتهاز السياسي.

 

معاني الالتزام المسيحي السياسي المعاصر في العالم العربي

إذا وافقني أهلُ المعرفة من المسيحيين والمسلمين والعَلمانيين على تصوّر العروبة في هذا السموّ الحضاري وعلى تصوّر الخصوصية المسيحيّة في هذا الجوهر المتمايز، وإذا أدرك الجميع أن اختصار الأنظومة اللاهوتية والأنتروبولوجية المسيحية لا يني يخضع لأنماط معرفية من التأويل قد تتبدّل وتتطوّر بتبدّل الوعي المعرفي الإنساني وتطوّر القدرات التعبيرية للغة اللاهوتية المسيحية، كان على المجتمعات العربية أن تتحرّى عن الأشكال الملتبسة التي أفضت إليها الثوراتُ العربية المعاصرة في مجتمعات التنوّع الديني التي ينتمي إليها المسيحيون العرب. وهي أشكال لا يركن إليها هؤلاء المسيحيون لأنها تستند حصراً إلى أحكام الشريعة الإسلامية.
الثابت أن المسيحيين العرب لا يستطيعون على الإطلاق أن يحيوا قيَمهم في نطاق مجتمع عربي تهيمن عليه رؤيةٌ دينية قاهرة تصنّف مقادير مساهمة الناس في القرار السياسي بالاستناد إلى درجات إقرارهم بشمولية الأنظومة الدينية الإسلامية. ومع أنهم، على مقتضى روحيتهم الإنجيلية، مستعدّون للشهادة القصوى في أرض العرب، غير أنهم يدركون إدراكاً صائباً أن من  يمارس الإخلاء الذاتي الجماعي في مجتمع الهيمنة العددية، ينتهي به المطاف إلى الزوال الجسدي. وقد يكون مصيرهم الآتي منعقداً على مثل هذه الشهادة. غير أن منطق المعيّة الإنسانية الذي يشاركهم فيه كثيرٌ من المسلمين العرب والعَلمانيين العرب يرفض رفضاً قاطعاً حلول النزوح الجماعي والانتحار الجماعي. لذلك كانت شرعة حقوق الإنسان الكونية هي مثال المجتمع الذي فيه يهنأ الإنسان المسيحي العربي بممارسة إيمانه وقيَمه الروحية ومبادئه الاجتماعية والسياسية حتّى غاية الأمانة من دون أن تنقلب هذه الممارسة انتحاراً جماعيّاً للذات المسيحية. ومن أرقى مبادئ هذه الشرعة الكونية مناداتها بالمساواة المطلقة بين الناس بمعزل عن انتماءاتهم الدينية والعرقية، وإصرارها على احترام حيادية الحقل العامّ الذي فيه تنتظم شؤون الاجتماع الإنساني المشتركة بين أهل المدينة الواحدة.
قبل أن يستطلع المرء آفاق الالتزام المسيحي الفاعل في المجتمعات العربية المقبلة، ينبغي له أن يتّعظ بأمثولات المسلك المسيحي العربي المتعاقبة على توالي العصور. ففي الزمن الأوّل للدعوة الإسلامية، كان المسيحيون العرب في وضعية الشهادة الخفرة والولاء الصادق للعروبة. فآثر معظمهم مناصرة الإسلام الفاتح على مواطأة المسيحية البيزنطية المهيمنة على الشرق العربي. وتكرّرت وضعية الشهادة الخفرة والولاء الصادق للعروبة في سياق الصراع الناشب بين الإسلام المنتفض لعنفوانه والممالك الغربية اللاتينية المحتشدة في حملات الإفرنجة لتحرير الأرض المقدّسة. في هذا الصراع أيضاً آثر معظم المسيحيين العرب مناصرة الإسلام المنتفض على العدوان الغربي. وفي مناصرتهم للإسلام ناصر المسيحيون العرب آنذاك قيَم الحقّ والعدل والشراكة الحضارية الصادقة.
في الزمن الحديث، زمن الصراع بين العثمانيين والعروبيين، وزمن الصراع بين الاستعمار الغربي وقوى الاستقلال الوطني العربي، وزمن الصراع بين العرب والصهيونية العدوانية، وزمن الصراع بين اليمين الأميركي واليسار السوفياتي، آثر المسيحيون العرب، في معظمهم، الولاء لأرض العرب ولقضايا العرب وللإنسان العربي. ومع أن ولاء المسيحيين العرب، في عمق وعيهم الوجودي، ظلّ ثابتاً لعروبتهم ووطنيتهم وثقافتهم، إلاّ أن مخاوف المسيحيين من هيمنة الأنظومة الدينية الإسلامية على الأرض العربية وعلى الثقافة العربية دفع ببعضهم إلى الانكفاء وطلب الحماية الأجنبية. وهذا مسلكٌ لا تبرّره مطامح التفرّد السياسي في الأنظومة المسيحية، بل مظالم الأكثرية الإسلامية المهيمنة في الشرق العربي.
أما في الزمن المعاصر، فالصراع مستفحل بين الاستبداد العربي في جميع أشكاله والديموقراطية العربية المتعثّرة في إقبالها إلى العالم العربي، وبين الإسلام المنفتح والأصوليات الإسلامية المتشدّدة، وبين المذاهب الإسلامية السنّية والشيعية، وبين ما يُدعى بالإسلام العربي والإسلام الفارسي. ومن الواضح أن جميع أشكال الصراع هذه تتناصر على استثارتها أسقامُ الوعي الإسلامي المتوارثة وحملاتُ الإفساد والتشويه التي تشنّها الصهيونية العالمية على المجتمعات العربية المضطربة. أما المسيحيون العرب، فإنهم في الزمن الحاضر أضحوا من أشدّ المدافعين عن العَلمانية الهنيّة التي تميّز حقل الاقتناعات الدينية من حقل التدبير السياسي، لكنها ترضى بالاختبار الإيماني موضعاً سنيّاً للإلهام الخفر في تشريع أحكام المعيّة الإنسانية العربية. وهم في دفاعهم عن هذه العَلمانية الهنيّة يعتبرون أن صحوة الإسلام السياسي إنْ هي إلاّ التعبير الظرفي الأمين عن التشبّث بالهوية الثقافية للمجتمعات العربية من بعد أن تسلّطت على العرب مخاوف الضمور والتلاشي التي نشأت من هيمنة النمط الثقافي الغربي المواكب للعولمة المستفحلة.
لذلك يروم المسيحيون العرب في زمن الثورات العربية أن ينقذوا شركاءهم المسلمين من محنة التصلّب في هذا التعبير الأصولي الظرفي. وفي يقينهم أن الإسلام حاملٌ لضمّة من القيَم الرفيعة التي يحتاج إليها الناس في المجتمعات العربية حاجتَهم إلى سبيل روحي يرتقي بهم إلى مُثُل التضامن والتآخي والتراحم. وإذا ما أفلح المسلمون العرب في تعزيز هذه القيم الروحية، تبيّن للناس أن في الشريعة الإسلامية بعضاً ممّا يلائم تطوّر الوعي الإنساني الكوني. ومن المتّفق عليه في جميع الأقطار والأمم أن الناس يرومون اليوم أن يحيوا في مجتمعات إنسانية راقية ترعى التنوّع وتصون الخصوصيات وتعزّز التقابس المغني. فإذا كان الغرب يحرص اليوم على تدبّر مسائل التنوّع المستجدّة عليه باستضافة المسلمين في أرضه، فإن الشرق العربي خبيرٌ بهذه المسائل منذ استضافة المسيحيين العرب لأخوانهم المسلمين على الأرض العربية.
بيد أنّ المشكلة الكأداء في الاختبار العربي أن العرب ما تعوّدوا الجرأة على مواجهة معاثر الاختلاف الثقافي على الأرض العربية، وذلك لشدّة امتداحهم للوحدة الضامنة لأمن الجماعة. فإذا تجرّأ المسلمون العرب على مصارحة شركائهم المسيحيين والعَلمانيين واستشارتهم الصادقة في مسائل تدبّر التنوّع والاختلاف، تهيّأ للجميع في العالم العربي أن يشاركوا في بناء مجتمعات عربية إنسانية تصون حرية الفرد وتعزّز مسؤولية المشاركة الخلاّقة في ابتكار صيَغ المعيّة الإنسانية الراقية. في هذا السياق، لا يسعني إلاّ أن أقترح على المجالس التشريعية العربية المنبثقة من الثورات الدينية الهوى والمنزع أن تسارع إلى إنشاء مجالس من الحكماء العرب المسلمين والمسيحيين والعَلمانيين يضطلعون بالنظر الموضوعي في نظُم المعيّة العربية المقبلة، فيستصوبون من الشريعة الإسلامية ما يناسب مكتسبات الوعي الكوني المقترنة بصون الاختلاف والتنوّع في تدبّر شؤون المدينة العربية، ويُسقطون منها ما يخالف هذا الوعي.
وحدها مثلُ هذه المجالس تعزّز في الوعي العربي المسيحي مسؤولية المشاركة الحضارية الفاعلة في ابتكار صورة العالم العربي المقبل. فالمسيحيون العرب هم خميرة المجتمعات العربية لأنّهم قادرون على إعانة المسلمين العرب على الدخول الهنيّ في الوعي الإنساني الكوني المتقدّم ومشاركة الحضارات الأخرى مكتسبات المعرفة والأخلاق. وإذا كان بعض العرب يظنّون أنهم، بفضل ثرواتهم الطبيعية، قائمون في شركة حقيقية مع أهل الغرب، فإن أصول الانفتاح الحضاري لا تُبنى على تواطؤ المنافع الاقتصادية. فالنفط لا يُنشئ التشارك الحقيقي بين الشعوب. هم المسيحيون العرب القادرون على بناء هذه الشركة الحضارية بين أهل العرب وأهل الغرب. وليس في هذا القول أيّ ضرب من ضروب التنميق الشعري. ذلك أن الإسلاميين المقبلين إلى السلطة في العالم العربي لا يمكنهم أن يتفكّروا وحدهم في تجديد فقه التنوّع والاختلاف، بل تعوزهم إلهاماتُ المساهمة الفكرية المسيحية. والمسيحيون العرب مؤهّلون للبحث المشترك في تجديد أحكام المعيّة الإنسانية في نطاق المدينة العربية المعاصرة. وفي هذا أبلغُ تعبير عن مسؤوليتهم الحضارية. فإذا أراد المسيحيون العرب البقاء في أرضهم العربية، كان عليهم أن يثوروا ثورتهم الإنجيلية حتّى يفوزوا بمثل هذا المشاركة العربية الخلاصية.

 

..How Iran Seeks to Exploit the Gaza War in Syria’s Volatile East..

 السبت 11 أيار 2024 - 6:24 ص

..How Iran Seeks to Exploit the Gaza War in Syria’s Volatile East.. Armed groups aligned with Teh… تتمة »

عدد الزيارات: 157,293,092

عدد الزوار: 7,062,836

المتواجدون الآن: 69