كيف حكم "البعث" سوريا ولبنان؟

تاريخ الإضافة الخميس 1 آذار 2012 - 7:07 ص    عدد الزيارات 1471    التعليقات 0

        

 

 
كيف حكم "البعث" سوريا ولبنان؟: أول الكابوس البعثي حلّ الجيش الوطني واستبداله بآخر عقائدي طائفي
 كتب وسام سعادة في صحيفة "المستقبل":
لماذا لم ينتفض "الجيش العربيّ السوريّ" كمؤسّسة على نظام بشّار الأسد؟ ولماذا ظهر "الجيش السوريّ الحرّ" كمعطى أساسيّ في الثورة السوريّة بعد شهور من الإصرار السلميّ الجماهيريّ في مواجهة حمّام دمّ مستمرّ، وجرائم ضدّ الإنسانيّة متواصلة على مسمع ومرأى البشريّة جمعاء؟
هل "الجيش العربيّ السوريّ" من نسيج خاص، يختلف فيه عن المؤسستين العسكريتين المصريّة والتونسيّة، وأيضاً عن الحالة الليبية، التي انشق فيها النظام على نفسه، بشكل نصفيّ، منذ اليوم الأوّل للثورة؟
للإجابة على ذلك، لا بدّ من الرجوع إلى أوّل نكبة سوريا بالكابوس الذي اسمه "حزب البعث العربيّ الإشتراكيّ". أي يوم لم يتح للنظام البرلمانيّ فيها أن يعود بعد سقوط تجربة الوحدة مع مصر، فدخلت البلاد مرحلة من الإضطرابات، كادت تصل الى شفير حرب أهلية عام 1962، واستفاد البعثيّون العسكريّون من الوضع، ليفرضوا إرادتهم داخل حزبهم وعلى المجتمع في آن، بدءاً من انقلاب 8 آذار 1963. ثم ليكشفوا شيئاً بعد شيء، بدءاً من 23 شباط 1966، عن الطابع الفئويّ، الأقلويّ، لسياساتهم، الإستئثارية بالسلطة، التي ستتخذ طابع ديكتاتوريّة فرد واحد، حافظ الأسد، ومعه أشقاؤه ثم أبناؤه، ابتداء من انقلاب الحركة "التصحيحية" في 16 تشرين الثاني 1970.
في الستينيات من القرن الماضي، قامت مجموعة سريّة داخل الجيش السوريّ، تعتبره جيشاً انعزالياً، غير قوميّ، وبرجوازياً، غير اشتراكيّ، وتراتبياً، غير ثوريّ. وارتأت استبداله بجيش قوميّ، وتقدميّ، وثوريّ، يمكن أن يرفّع فيه المرء بشكل اعتباطيّ، وهو ما خبره حافظ الأسد عندما رفّع بسرعة قياسية عام 1963 من نقيب مسرّح إلى مقدّم إلى آمر قاعدة الضمير الجويّة، إلى أمر لسلاح الجوّ السوريّ، إلى لواء، ثم سيعود ويَخْبِرَه نجله بشّار الأسد بعد وفاة أبيه، عندما سيخلع عليه لقب "فريق".
1962: الحرب الأهليّة المؤجّلة
لم تفلح سوريا، بعد انفكاك دولة "الوحدة" مع مصر، في 28 أيلول 1961، وإعلان "الجمهوريّة العربية السوريّة" في اليوم التالي، في العودة مجدّداً إلى رحاب النظام الديموقراطيّ البرلمانيّ كما كان معمولاً فيه بين العامين 1954 (منذ سقوط ديكاتوريّة أديب الشيشكلي) و1958 (قيام "الجمهوريّة العربية المتحدة" على قاعدة إلغاء الحياة النيابية والتعدّدية الحزبية).
في أوّل الأمر، أعلن قادة "الإنفصال"، وفي طليعتهم "الكولونيل" عبد الكريم النحلاوي، عودة الجيش إلى الثكنات، على أنّ يتكفّل في الوقت نفسه بالسهر على إعادة النظام الديموقراطيّ، وكذلك الحيلولة دون وقوع الديموقراطيّة في الفوضى أو انقلابها إلى ديكتاتوريّة واستبداد، راجياً من الساسة المدنيين عدم توريط الجيش في الوقت نفسه بانقساماتهم وخلافاتهم. لكنّ النحلاوي لن يتأخّر بعد أشهر قليلة من انتخابات كانون الأوّل 1961 في القيام بانقلاب جديد، في 28 آذار 1962، مستبقاً موجة متصاعدة من مناشدات المدنيين للعسكر بعدم التدخّل في الحياة السياسية. هذا الإنقلاب افتُتِح ببلاغ حمل الرقم 26، للدلالة على أنّه تكملة للإنقلاب الأوّل (مذكرات أكرم الحوراني). وقضى الإنقلاب الجديد بـ"حلّ المجلس النيابي لأنّه عجز عن القيام بالمهمة الموكولة اليه وسعى لتأمين مصالح أعضائه ومنافعهم الشخصية"، وبإقالة حكومة معروف الدواليبي.
وخلافاً لتوقّعات النحلاوي، وضع الإنقلاب الجديد سوريا على شفير حرب أهلية، وهو ما فسّره الفرنسيّ برنار فرنييه في دراسة له حول "الدور السياسيّ للجيش السوريّ" عام 1964، بأنّه يعود الى عدم رغبة الأقاليم السوريّة، الأخرى، التي غذّت فترة الوحدة مع مصر نزعتها اللامركزيّة في الخضوع مجدّداً لسلطة دمشقية أحاديّة، علماً أنّ هناك كمّاً من التعليلات الأخرى تركّز على الدور المصريّ في دفع النحلاوي للقيام بخطوته، ثم في الإيقاع به.
وهكذا، أعلن العميد بدر الأعسر قائد المنطقة الوسطى في حمص، بعد ثلاثة أيام من الإنقلاب مقاومته له، مطالباً بإجبار جماعة النحلاوي على مغادرة البلاد. أما في حلب، فتمرّد الضباط البعثيّون والناصريوّن بقيادة جاسم علوان، ورفعوا علم "الجمهورية العربية المتحدة"، غير أنّ سلاح المدّرعات انحاز إلى سلطة دمشق، ما مكّن من قمع الحركة.
وفي ظروف كهذه، كانت الوحدة الوطنيّة مهدّدة، وكذلك وحدة الجيش، انعقد مؤتمر عسكري عام في حمص في نيسان 1962، وطالب بإعادة الضبّاط المسرّحين منذ "الإنفصال". إلى الجيش، أي، بمعنى ما، إعادة ضبّاط الأقليّات المذهبية، لأنّ هؤلاء كانوا سرّحوا أكثر من سواهم، سواء في مرحلة "الوحدة" أو في مرحلة "الإنفصال"، فكانت عودتهم، بعد مؤتمر حمص، بمثابة "رّدة عكسيّة"، أي الإنتقال من جيش تستبعد منه الأقليّات، إلى جيش بصبغة أقلويّة.
لكن ذلك، حدث تدريجياً. اتفق المؤتمر العسكري العام على ابعاد النحلاوي قائد الإنفصال وكتلة ضباطه الشاميين من سوريا. واللافت يومها أنّ العميد الدمشقي مطيع السمان خطب في مؤتمر حمص مطالباً بطرد ستة ضباط غير دمشقيين، لكي تتحقق المساواة، هذا بغض النظر عن تورّطهم أو عدم تورّطهم في أحداث 28 آذار 1962.
في مذكراته، يصف أكرم الحوراني (1911-1996) انقلاب 28 آذار 1962 الداميّ بأنّه "أحدث آثاره الطائفية المقيتة، فدمشق بأسرها حزنت على أبنائها من الضباط الذين أودى بهم عصيان حلب، وفي مقابل ذلك وصلتني رسائل من بعض القرى في شرقي حمص ومن منطقة اللاذقية تستنجد بي لانقاذ الموقوفين المتهمين بحوادث حلب". ويتابع "كان اعتقادي ان واجبي يقضي أول ما يقضي وضع حد للآثار الطائفية التي خلفتها أحداث حلب، ثم السعي فيما بعد الى عدم تنفيذ الأحكام أو التخفيف منها، ولا سيما أن مؤتمر الجيش في حمص قد قرر وجوب اصدار عفو عن المشاركين بحوادث العصيان".
أما الهولنديّ نيقولاوس فان دام، صاحب الكتاب المرجعيّ "الصراع على السلطة في سوريا، الطائفية والإقليميّة والعشائرية في السياسة 1961-1995" فيعلّق على انقلاب 28 آذار بالقول انه أدّى إلى الإنهيار السريع لـ"جماعة النحلاوي المكوّنة من ضباط دمشقيين، ويرجع ذلك جزئياً الى أن النحلاوي لم يتلقَّ الدعم الكامل من غير الدمشقيين" ويتابع "لقد حاول جاهداً دون جدوى في 28 آذار أن يقوي قبضته المتراخية على جهاز الجيش والحكومة عن طريق انقلاب عسكري، وبعد هذه المحاولة الفاشلة تم طرده من سوريا مع خمسة من أبرز زملائه العسكريين الدمشقيين".
ويستشهد فان دام بمذكّرات القائد الأعلى للقوّات المسلّحة السوريّة حينذاك. اللواء زهر الدين (درزي)، الذي يقول أنّه في الفترة اللاحقة على نفي النحلاوي وجماعته، تمّ استبدال الضباط الدمشقيين في العاصمة بـ"ضباط لا يضمرون لدمشق وأهلها إلا الحقد والكراهية".
وهناك من يحلّل الأمور، فيقول أنّ مسارها تطوّر سريعاً من الغاء الضبّاط الشاميين والحلبيين لبعضهم البعض، إلى ارتفاع سهم الضباط الريفيين من السنّة، إلى تسلّم الضبّاط الريفيين من غير السنّة للدفّة.
وإذا كان اقصاء النحلاوي في نيسان 1962 قد أضرّ بالمجموعة الدمشقية داخل هرم القيادة العسكرية السورية، فإنّ عودته بعد 7 أشهر على ابعاده، ومغامرته بتمرّد عسكريّ فاشل في 13 كانون الثاني 1963 ستتكفّل بتصفية شاملة لهذه المجموعة. ويشرح كمال خلف الطويل بأنّ النحلاوي الذي كان "دمشقياً بامتياز ومحافظاً متديناً لدرجة الارتباط غير المعلن مع جماعة الإخوان المسلمين، قد عاد متسللاً الى سوريا في 13 كانون الثاني 1963، ليحرض بقاياه في الجيش على الانقلاب". الا ان "ما فتك بالنحلاوي كانت الوعود المعطاة له من قبل أطراف وحدوية وبعثية بنصرته إن تحرّك، فهذه الأطراف أوقعته في الفخ، بل وتحرّكت ضده لدرجة إيصاله لليأس، والخروج القسريّ من البلاد ثانية.
الخماسيّ الإنقلابيّ وانقلاب 8 آذار
وجد "حزب البعث العربيّ الإشتراكيّ" صعوبة بالغة في إحياء تنظيمه أو في تحديد رؤاه في تلك المرحلة. وجاء المؤتمر القوميّ الخامس الذي عقده الحزب في حمص في أيّار 1962، ليعكس حدّة الأزمة. فكانت القطيعة النهائية بين "البعث" وبين تيّار أكرم الحوراني، الذي دافع بقوّة عن خيار الإنفصال عن "الجمهوريّة العربيّة المتحدة" ولم يتراجع عن ذلك كما فعل صلاح الدّين البيطار. أمّا المؤسّس ميشيل عفلق، فطلع بصيغة أنّ "أخطاء الوحدة لا تبرّر الانفصال" لكنّه كان يواجَه من داخل "البعث"، وتحديداً من الجناح العسكريّ، بنصيبه من هذه الأخطاء، أي موافقته على حلّ الحزب، وهو الشرط الذي وضعه جمال عبد الناصر لإتمام الوحدة في شباط 1958.
عام 1962 إذاً، اعتبر عفلق ان "خطر الأخطاء التي سبّبت فشل تجربة الوحدة على القضية القومية ينتهي بمجرد ان يطلع الشعب على هذه الأخطاء ويعرف كيف يصحّهها ويتلافاها، أما خطر الوضع الانفصالي فلا ينتهي بمجرد الاطلاع على حقيقة مفضوحة، وانما يترتب على الشعب ان يستجمع كل طاقته النضالية ليقاوم المصالح الرجعية والاستعمارية التي يتكوّن منها الوضع الجديد".
إلا أنّ هذا الحكم السلبيّ على الإنفصال، الذي يتقاطع مع نظرة الضباط البعثيين الشبّان يومها، كان يمتزج عند هؤلاء مع حكم سلبيّ على عفلق والبيطار والحوراني كونهم قبلوا بحلّ الحزب، كما قبلوا بإبعادهم كضبّاط إلى مصر، ولم تقنعهم كلمات عفلق بأن "الحزب فوجىء في سوريا أثناء مباحثات الوحدة حين اشترط عبد الناصر حل الأحزاب في سوريا وحين أرجأ دراسة صيغة الوحدة الى ما بعد اعلانها. ولكنه لم يضع هذه العوائق بمستوى الوحدة نفسها ومضى في تنفيذ خطته وقبل بشروط عبد الناصر، لأنه كان يريدها وحدة يتقوى بها العرب جميعاً، ويتدعم بها نضالهم في كل مكان، يريدها ضمانة لانتصار ثورة الجزائر وبداية لتحرير فلسطين".
فمن جهتهم، استكمل هؤلاء الضباط البعثيّون الشباب الحكم السلبيّ على الإنفصال بحكم سلبيّ نهائيّ على "الأساتذة الثلاثة" (عفلق، البيطار، الحوراني)، وحكم سلبيّ آخر على من يرى العودة فوراً إلى الوحدة مع مصر. وبالنتيجة نشأت نواة عسكرية بعثية سرّية، لها مرمى واحد: اقامة نظام بعثيّ عسكريّ، يفرض من خلاله "البعث" إرادته في الجيش، ويفرض الجيش من خلاله إرادته في "البعث"، وهو ما كان يعني موضوعيّاً. صعوداً لأقليّة الأقليّة، الأقليّة العسكريّة في البعث، والأقليّة البعثيّة في العسكر. وإذا ما احتسبنا أنّ البعث كان حزباً يجتذب أبناء الأقليّات، فهذا يعني بداية العدّ العكسيّ لنظام حزبيّ أحاديّ وعسكريّ وأقلويّ في آن.
وبأسلوبه، يقول حازم صاغية في كتابه "البعث السوريّ" أنّه "ومن دون أن تكون الأمور مصمّمة على نحو تآمري مسبق، قضى تركيب الحزب أن يكون ثلاثة من قادة اللجنة العسكريّة علويّين، وهم أبرزهم محمد عمران، وثانيهم صلاح جديد، ثم حافظ الأسد. أما الإثنان الآخران، عبد الكريم الجندي وأحمد المير، فكانا اسماعيليين". ويتابع "بالطبع توسّعت تدريجياً اللجنة التي حافظت على سرّيتها لتضمّ الضبّاط البعثيين من سائر الطوائف، كأحمد سويداني ومصطفى طلاس من السنّة، وحمد عبيد وسليم حاطوم الدرزيين، إلا أن قيادتها الفعليّة بقيت في أيدي المؤسسين الخمسة".
ويشرح فان دام أن "القيادة العليا للجنة العسكرية البعثية" تأسّست عام 1959 في أيّام الوحدة، وتشكّلت من "الخمسة" الذين جرى تعدادهم خلال تواجدهم في مصر قسراً. ويقول أن "معظم أعضاء اللجنة العسكرية من أصول قروية وينتمون لعائلات فقيرة، ما عدا صلاح جديد وعبد الكريم الجندي فكانا ينتميان لعائلات بارزة من الطبقة المتوسطة"، ففي حين يعتبر جديد حفيداً لأحد زعماء اتحاد الحدادين للعشائر العلوية، ينتمي حافظ الأسد لشق "النميلاتية" من "المتاورة".
وجاء انقلاب 8 شباط 1963 على حكم عبد الكريم قاسم في العراق، الذي تشارك فيه الوحدويّون، من ناصريين وغير ناصريين، مع البعثيين من عسكريين وميليشيويين، ليدغدغ آمال "اللجنة العسكريّة" بظهور سريع لنظام بعثيّ صاف في سوريا.
وكان لـ"اللجنة" ما أرادت، بانقلاب نفّذه زياد الحريري، الذي لم يكن بعثيّاً، وإنما "وحدويّاً عربيّاً مستقلاً" غير ناصريّ. وزياد الحريري سنيّ من حماة، ويعتني برنار فرنييه باظهار صلة القربى التي تجمعه بالرئيس أديب الشيشكلي (اغتيل عام 1964 في منفاه البرازيلي على يد الشاب نواف غزالة)، فيما يصفه حازم صاغية بأنّه "ضابط مغامر كان مقرّباً من أكرم الحوراني قبل أن يبدأ العمل لحسابه الخاص" (هنا أيضاً ثمة علاقة قربى عائلية بين الحريري والحوراني تتيح للبعض التقدير بأنّ الأخير كان على علم بانقلاب 8 آذار 1963، والله أعلم).
ويستخدم كمال خلف الطويل صيغة أخرى فيصفه بأنّه "ضابط طموح انتهازي برتبة عقيد يتولى قيادة القطاع الشمالي للجبهة" (مع اسرائيل) وأنّه "لم يكن محسوباً لا على الوحدويين ولا على البعثيين بل قد عرف عنه إعجاب مكتوم بأكرم الحوراني". ويلفت الطويل إلى حيثيات تحلّق مجموعة من الضبّاط حول هذه الشخصية: "ففي الشهور الأخيرة من الانفصال وخصوصاً بعد دورة شتورا للجامعة العربية في آب 1962 والتي شهدت أعنف الحملات على عبد الناصر من قبل انفصاليي دمشق قام استقطاب داخل الجيش بين ضباط الانفصال والذين أضحى رمزهم العميد مطيع السمان قائد قوى الأمن الداخلي وبين الضباط المناهضين للانفصال والذين تكوكبوا حول العقيد زياد الحريري".
وكما أنّ انقلاب 8 شباط العراقي غّذى طموحات البعثيين، فإنّه استوجب تحسّباً زائداً من قبل حكام الإنفصال وقتها من مغبّة قيام انقلاب وحدويّ، بعثيّ أو ناصريّ أو بين بين، فقرّروا اخراج زياد الحريري ملحقاً عسكرياً في بغداد أو في عمّان، ثم غطوا القرار بابعاد العميد مطيع السمّان نفسه ملحقاً عسكرياً في دولة آسيوية. ويروي الطويل أيضاً أنّه "لوهلة وهنت أعصاب الحريري فهو ليس من زمرة المتآمرين المخضرمين الأشداء وقرّر الخضوع لقرار التسفير" الا أنّ ضغوط حلفائه، بعثيين وناصريين، أثنته عن ذلك ودفعته للإنقلاب، الذي لم يكن مفاجئاً لأحد من حيث توقيته.
ويصف عزو محمد عبد القادر ناجي في دراسة له تحت عنوان "العشائرية وخصوصية الشعب والعوامل الشخصية وصراع الأجيال وتأثيرها على عدم الاستقرار السياسي في سوريا" العناصر المكوّنة لإنقلاب 8 آذار 1963 فيقول أن "معظم قادة انقلاب زياد الحريري كانوا من جيل الشباب الذين تقل أعمارهم عن متوسط أعمار ضباط الجيوش النظامية الأجنبية، وكانوا متميّزين بانخفاض مستواهم التعليمي عن مستوى الصفوة السياسية المدنية، التي كانت سائدة قبل ذلك".
والحال أنّ زياد الحريري تمكّن صبيحة 8 آذار هذا، من مغادرة الجبهة على رأس لواء من الجيش، ودخل دمشق في انقلاب ميسّر، فسيطر على الدوائر الحكومية من دون أن يلقى مقاومة حقيقية، مع أنّ الوحدات العسكرية التي مرّ بها ما بين الجبهة ودمشق كانت تفوق في عددها خمسة أضعاف اللواء. بهذه السهولة المجانيّة ولد عهد "سيكون أحد أطول العهود السلطويّة في التاريخ العربيّ الحديث، كما سيكون واحداً من أقساها" (حازم صاغية).
ولا تعني هذه السهولة شعبية من أي نوع. بالعكس تماماً. فمن ناحية الجيش، نأى سلاح المدرّعات بنفسه عن الإنقلاب، ولو أنّه لم يبلّغ القيادة المركزيّة في دمشق بتحرّك اللواء الإنقلابيّ للزحف عليها. وكذلك فعل سلاح الطيران، في حين سجّلت مشاركة "المظليين" في الزحف على العاصمة. أما "البعث"، فكان أعضاؤه لا يزيدون إلا قليلاً عن 400 عضو، وسيفاخر حافظ الأسد "ما أن يحكم قبضته على مفاصل القوة العسكرية والمدنية أنّ عدد أعضاء الحزب كله سبعة أعضاء في مدينة حلب كلها، متباهياً بأن انقلابه هو الذي أحيا الحزب وأعاد إليه كيانه" (عدنان سعد الدين).
وأوّل ما سيقوم به الإنقلابيّون هو اعادة أعضاء اللجنة العسكرية البعثية الخمسة إلى الجيش، وقد تضمّن البيان التاسع الصادر عنهم ذلك اضافة إلى حوالي 30 ضابطاً آخرين، كما جرى ترفيع النقيب حافظ الأسد المعاد بدوره إلى الجيش إلى رتبة مقدّم، من دون أن يمرّ برتبة رائد.
وبشكل أعمّ، تلهّى الإنقلابيّون بترفيع بعضهم لبعضهم الآخر في الرتب العسكريّة، من دون أي معيّار غير الإعتباطية. فالعميد لؤي الأتاسي صار فريقاً ركن، والعقيد زياد الحريري سمي لواء، والعميد راشد القطيني كذلك، وكل ذلك في يوم الإنقلاب نفسه، في حين سيتم ترفيع العميد غسان حداد لواء، والعقيد محمد عمران لواء، والمقدم صلاح جديد لواء في 1 12 1963، وهكذا. كان ذلك بالطبع قبل أن تضرب هذه العادة الإنقلابيّة البعثية رقمها القياسيّ مع بشّار الأسد لاحقاً، يوم رفّع مقدّم ركن عام 1997، ثم إلى عقيد ركن عام 1999، ثم إلى رتبة فريق إثر وفاة والده.
ومع اعادة أعضاء اللجنة العسكرية إلى القوات المسلحة، صارت هذه اللجنة النواة الموجّهة الحقيقية لمجلس قيادة الثورة، في حين صار الأعضاء الآخرون واجهة تنتظر التصفية تدريجياً.
ولم يتأخّر البعثيّون في الإستئثار بالحكم الإنقلابيّ، فكانت أمورهم في سوريا أسهل نوعاً ما من حال العراق. استفادوا في مرحلة أولى من الغطاء الذي أعطاه جمال عبد الناصر لهم، ولزملائهم العراقيين، من خلال توقيع مشروع الإتحاد الثلاثيّ بين مصر وسوريا والعراق. فتمكّن البعثيّون في هذا الوقت الثمين من تثبيت دعائم حكمهم في وحدات الجيش والأجهزة الأمنية، ويومها كان عبد الناصر مندفعاً إلى طرح تصوّره لتنظيم حزبي على شاكلة الإتحاد الإشتراكي تندمج فيه القوى السياسية "الوحدوية" في البلدان الثلاثة، وفي هندسة دستور لجمهورية عربية متحدة ثلاثية. في هذا الوقت، كانت اللجنة العسكرية البعثية تعمل ميدانياً لعزل العناصر المريبة لها داخل الأجهزة الأمنية، ولم تتأخر في طرد اللواء زياد الحريري وزير الدفاع ورئيس الأركان.
فكان أن دعي الأخير إلى الجزائر "لإعادة توثيق العلاقات" بين البلدين، وما إن غادر حتى جرى تكليفه بوظيفة ملحق عسكريّ هناك، لكنه ركب رأسه وعاد إلى دمشق، متكلاً على تحرّك الضبّاط الـ25 الحمويين من خاصته، فاكتشف أنهم ابعدوا جميعاً، ولم يجد بدّاً من قبول وظيفة ديبلوماسية، لكن مدنية هذه المرّة. ومما يرويه هنا القيادي الإخواني الحموي عدنان سعد الدين أن الضابط عارف الجاجة من حماة أيضاً، رغب في تلك الأثناء بلقاء عدد من الإخوان مستنجداً بـ"المنظمات الحزبية والجماهير الشعبية لفك الحصار الذي ضربته الفئات الطائفية بالجيش حول الحريري، وطلب منا أن نخرج في مظاهرات صاخبة وداعمة، فسألناه: تحت أي لافتة أو شعار تتحرّك المظاهرات؟ فقال: تحت شعار الحرية والوحدة والإشتراكية". فيخلص سعد الدين الى القول "سرعان ما افترقنا مدركين ما كانت عليه هذه المجموعة من الغفلة والسذاجة".
قمع الإنتفاضات وحلّ الجيش
لكنّ تحكّم العناصر البعثية العسكريّة الأقلويّة بالسلطة على هذا النحو سرعان ما فجّر تململاً ثم احتقاناً ثم انفجاراً سنياً ناصريّاً، عبّرت عنه انتفاضة دمشق في 18 حزيران 1963، التي جاءت كانتفاضة شعبية مدعومة بانقلاب عسكريّ سيىء التحضير والتجهيز، خصوصاً وأنّ التنظيمات الناصرية في الجيش، كانت مشرذمة ومخترقة أكبر اختراق من قبل البعثيين، وكان العقيد جاسم علوان عرّاب المحاولة الإنقلابية الناصرية التي سحقها البعثيون سريعاً ببحر من دماء، ناهز 800 قتيل في يوم واحد في دمشق وحدها. وهنا سيبدأ الفصل الأكثر احتداماً من الحرب الكلامية بين جمال عبد الناصر والبعثيين الذين سيصفهم بـ"الفسقة والقتلة"، فسقط مشروع الوحدة الثلاثية.
وفي التصدّي للإنقلاب الناصريّ، سيضع البعثيّون الفريق أمين الحافظ في الواجهة، حيث سيخرج الأخير من مبنى الأركان ورشاشه بيده ليقود عملية المواجهة. وبعد دوره في إفشال الانقلاب الناصريّ، سيتولّى الحافظ عزل لؤي الأتاسيّ الذي شغل بعد 8 آذار منصب رئيس مجلس قيادة الثورة، وسيتولى الحافظ هذا المنصب ورئاسة الجمهورية، لكن كل ذلك لم يكن الا تمهيداً لإقصائه هو الآخر.
وبعد تصفية الناصريين في دمشق، سيواجه الحكم البعثيّ العسكريّ الأقلويّ انتفاضة إسلاميّة في مدينة حماة، ويتمكّن من إخمادها مرة أخرى بالحديد والنار، وبهدم المساجد. فجرى هدم جامع السلطان. وفي حمص اقتحمت المجنزرات مسجد خالد بن الوليد في صيف 1964. ويروي عدنان سعد الدين ان "نور الدين الأتاسي كان وزيراً للداخلية في حكومة أمين الحافظ، وقد أشرف بنفسه على عملية اقتحام المسجد واعتقال المصلّين، فقد شاهده المعتقلون عندما أخرجوا من المسجد، وهو واقف خارجه يقود أو يشرف على عملية الاقتحام".
ثم كانت تصفية جماعة أمين الحافظ، الذي سيقول حافظ الأسد عنه أنّه "ما كان يستطيع أن يحرك جنديأ من مكانه". حاول الحافظ التذاكي، مستدعياً اللواء محمد عمران، الذي كان نفاه رفيقاه صلاح جديد وحافظ الأسد إلى اسبانيا، تبرّؤاً من طائفيته العلنية. فكان الرد صبيحة 23 شباط 1966، بهجوم شنّه عساكر الصاعقة بقيادة سليم حاطوم، وسرايا الدفاع بقيادة رفعت الأسد على منزله. وبإسقاط الحافظ، كان الثنائيّ "البعثي العسكريّ الأقلويّ" جديد الأسد يُحكم قبضته تماماً على الحكم.
لكن أهمّ ما تضمّنته هذه المرحلة الممتدة من انقلاب 8 آذار إلى 23 شباط 1966، هو قرار "اللجنة العسكريّة" حلّ الجيش السوريّ النظاميّ، بالشكل الذي عرفته سوريا منذ استقلالها عن الفرنسيين، والسعي إلى تشكيل جيش جديد، دعي بـ"الجيش العقائديّ"، في شيفرة كلامية لا يجد أحد كبير صعوبة في ترجمتها "الجيش الفئويّ".
لقد أدى تسريح مئات الضباط بعد هذه الإيقاعات الإنقلابية المتتالية إلى مشكلة حقيقية. فبعد انقلاب حزيران 1963 الناصريّ لوحده، سرّح ألف ومئة ضابط وصف ضابط، كانوا في سوادهم الأعظم من اللون السنيّ. وما كان بمستطاع البعثيين وهم، بضع مئات من المدنيين والعسكريين، تعبئة هذا الفراغ، الأمر الذي استدعى تعويلهم أكثر فأكثر على البنى العشائرية والمذهبية التي ينتمون إليها، إلى حدّ استغاثة مشايخ عشائرهم وطوائفهم الدفع في هذا الإتجاه، أي حثّ أبناء عشيرتهم وطائفتهم للإنخراط في الجيش، وفي المقابل تسهيل شروط قبولهم في الكليات العسكرية، والبحرية، والجوية.
هذا عموماً الخط التحليلي الذي يترصّد نيقولاوس فان دام في دراسته حول "الطائفية والإقليمية والعشائرية"، في المقابل، فإن العودة إلى الدراسة القيمة لبرنار فرنييه في منتصف الستينيات، تشير الى أنّ هذه المعادلات الطائفية كانت تسوّغ نفسها بتخريجة خاصة، وهي تحويل معلّمي المدارس من البعثيين وأقربائهم إلى ضبّاط وصف ضبّاط، بل أنّ ذلك كان ركيزة من ركائز بناء هذا "الجيش العقائديّ".
 
كيف حكم "البعث" سوريا ولبنان؟... الاغتيال بقرار رئاسي... المهنة الأساسية للعائلة الأسديّة
 كتب وسام سعادة في صحيفة "المستقبل":
في صبيحة الإثنين 21 حزيران 1980 اغتيل صلاح الدين البيطار، أحد المؤسّسين التاريخيين لـ"البعث" في باريس، على باب صحيفته "الإحياء العربي"، التي لم يغفر لها الرئيس حافظ الأسد أنّها تحمل الاسم الأوّل لما سيُعرَف لاحقاً بـ"البعث"، وأنّها تنكر عليه بعثيّته وقوميّته العربية، وأنّها تفضح الطابع الفئويّ والإجراميّ لنظامه. مثلما لم يغفر للبيطار، بما يمثله من ثقل رمزيّ، حيث أنّه بالإضافة إلى كونه المؤسّس التاريخيّ الثاني إلى جانب ميشال عفلق، تميّز بأنّه ابن عائلة دمشقية برجوازية سنيّة عريقة، وكان على رأس حكومات متتالية بين العامين 1963 و1966، أي قبل أن يأخذ "البعث" وبشكل نهائيّ الطابع الفئويّ الشموليّ الذي لا رجعة فيه. علماً أنّها كانت الفترة نفسها التي مهّدت للكارثة، من خلال تفكيك بنية الجيش السوريّ وصولاً إلى "حلّه" واستبداله بجيش "عقائديّ" لا تحترم فيه تقاليد الجيوش النظاميّة، ويرفّع الإنقلابيّون رتبهم فيه على هواهم، بقوّة العسف والبطش، وهو في الحقيقة جيش فئويّ، استفاد في مرحلة أولى من التناقضات التي كانت تعتمل في المؤسسة العسكرية بعد التجارب المريرة للديكتاتوريّات العسكرية (1949-1954، أي مرحلة حسني الزعيم، وسامي الحناوي، وأديب الشيشكلي) ثم الديموقراطيّة البرلمانية غير المستقرّة (1954-1958) ثم الوحدة "التمصيريّة" مع جمال عبدالناصر وصولاً إلى حكم الانفصال (1961-1963). وكانت نتيجة هذه التناقضات، تمكّن الضباط البعثيين من فرض إرادتهم على البعثيين المدنيين من جهة، وعلى العسكريين من غير البعثيين من جهة ثانية، أي بمعنى آخر تمكّن خمسة إلى ثمانية ضبّاط من فرض إرادتهم على الأقليّة البعثية الضحلة في المجتمع السوريّ آنذاك (بضع مئات)، ثم فرض هؤلاء إرادتهم على نصف القرن الآتي من عمر السوريين، وكذلك اللبنانيين والفلسطينيين.
إذاً، في صبيحة 21 حزيران 1980، كان "حزب البعث العربي الاشتراكي" بقيادة "الرفيق المناضل" حافظ الأسد، يقتل ثاني مؤسّسي الحزب صلاح الدين البيطار، في باريس، بعد سنوات من فشل الجهود التي بذلها الأسد لإقناع البيطار بتأمين تغطية رمزية عقائدية لنظامه، بما يمثّله البيطار سواء على صعيد التاريخ الحزبي، أو على صعيد الانتماء المناطقيّ والمذهبيّ، أو على صعيد التاريخ الوطنيّ السوريّ، وذلك في مقابل تلطّيّ النظام البعثيّ العراقيّ بمرجعيّة ميشيل عفلق، التي لم يكن لها تلك الصفات التي اجتمعت في البيطار.
والبيطار، مولود عام 1912 في حي الميدان بالعاصمة السوريّة، حفيد الشيخ سليم البيطار الفرضي. وقد شارك عفلق عام 1939 في تأسيس منظمة "الإحياء العربي"، التي ستتخذ لاحقاً اسم "البعث العربي" قبل أن تتحد مع جماعة أكرم حوراني في بداية الخمسينات لتأسيس "حزب البعث العربي الاشتراكيّ". إلا أنّ تاريخ البعث، كما أعاد حافظ الأسد وعائلته كتابته سوف ينحّي كلّ هذه الأسماء، لصالح "فرض" مؤسّس من نوع آخر، هو زكي الأرسوزي العلويّ من لواء الإسكندرون.
وعندما قامت الوحدة مع جمال عبدالناصر، عُيّن البيطار نائباً لرئيس "الجمهورية العربية المتحدة"، ليستقيل من منصبه لاحقاً في كانون الأوّل 1959 احتجاجاً، ويوقّع على وثيقة الانفصام عام 1961، إنما ليتراجع بعد ذلك، وليسبّب نقمة دفينة في نفوس المنتظمين ضمن "اللجنة العسكرية السريّة"، أي أساساً، الثلاثي محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد.
"الحكم الأقلوي" واستغلال التناقضات
ومع ذلك تولّى البيطار رئاسة الوزراء أربع مرّات بعد أنّ نفّذت هذه اللجنة مرادها بالاستيلاء الانقلابيّ على السلطة، إلى أن كان انقلاب 23 شباط 1966 على أمين الحافظ، وهو الانقلاب الذي أرسى بوضوح "الحكم الأقلويّ"، فتمكّن البيطار من الفرار إلى لبنان، وصدر حكم غيابي بإعدامه عام 1969.
وفي السبعينات، سيحاول حافظ الأسد استغلال التناقضات بين البيطار وعفلق، فيستدعي على هذا الأساس صلاح الدين البيطار إلى خمس ساعات من المحادثات، يوم 25 أيار 1978، يسجّلها البيطار في مقالة له بعنوان "سورية مريضة مريضة وتعيش محنة ومأساة".
ويصل البيطار في سرده للمحادثات إلى لحظة التطرّق إلى الوضع الداخلي في سوريا، فيقول "حدثته عن أعباء سوريا القومية، وأن هذه الأعباء لا تستطيع سوريا أن تتحملها إلا إذا جرى داخلياً خلق مناخ ديموقراطي وانفتاح سياسي على الشعب"، فأجاب الأسد: "لسنا كإنكلترا ولا كالكونغو، والديموقراطية تحتاج الى مستوى ثقافي معيّن". قلت هذا صحيح، ولكن كيف نبلغ هذا المستوى الثقافي إذا لم تكن هناك حرية فكر وإبداء رأي وحريّة صحافة ومعارضة ديموقراطية. قال الأسد: هل تقرأ الصحف هنا؟ إنها تنتقد وتكتب بحرية لا تتمتع بها الصحف اللبنانية، صحيح أن هناك بعض القصور ولكن يمكن تفاديه. أجبت: قليلاً ما أقرأها، ولكن الموضوع الذي أطرحه هنا، يتعلق بمبادئ وباتجاه، فأنا انطلق من أن جانباً واحداً لا يملك الحقيقة حتى يفرضها على الجميع، وهناك حقيقة في سوريا وهي أن فيها تيارات فكرية وسياسية واجتماعية لا يجوز إغفالها. فالرأي الواحد، والحزب الواحد، وحكم الفرد، لا يمثل الواقع في شيء. بل هناك تيارات في هذا الواقع تريد أن تبرز لحيز الوجود عبر تنظيمات سياسية مستقلة وصحافة حرة، ومعارضة ديموقراطية لها شرعيتها".
وحاول البيطار الاستدلال على موقفه بما عرفته سوريا من فترة حريّات برلمانية وصحافية وجيزة في الخمسينات، فردّ عليه الأسد "إن سوريا بالعكس، كانت منقسمة، وفي حالة صراع مع الدول العربية والأجنبية، واليوم لأول مرة قضينا على هذه الصراعات وحققنا الوحدة الوطنية". ومضى الأسد ليزعم أن ما هو قائم في سوريا في ظل حكمه هو الديموقراطية، "فهناك الحزب الذي يعد 550 ألف عضو، كل عضو منهم يقضي سنتين كنصير، وهناك الى جانبه المنظمات الشعبية والجبهة الوطنية ومجالس المحافظات".
يقول البيطار "لقد أحسست بعقم الاسترسال في طرح النقطة الأساسية التي أردت أن تكون محور البحث في هذا اللقاء، أي محاولة النظام إجراء انفتاح شعبي صادر عن قناعة تامة بخطورة الظروف، وضرورة خلق مناخ ديموقراطي كمرحلة انتقالية يجري خلالها التحول بصورة سلمية من الحكم البوليسي العسكري الى حكم شعبي ديموقراطي". كما يخلص الى أنه "منذ ذلك الوقت قدّرت أن سوريا سائرة الى أزمة نظام، لن تحل إلا بالعنف ما دام النظام لم يرد حل الخلاف بينه وبين الشعب بصورة سلمية".
كانت كلمات البيطار هذه استشرافية للغاية، لما سيحدث لاحقاً في شباط 1982، في مجازر حماه الرهيبة، ثم مع الجرائم ضدّ الإنسانية التي تنفّذها كتائب النظام ضدّ الشعب الثائر منذ 15 آذار 2011 وإلى اليوم بوتيرة لا تلين، بل تتصاعد، سواء من جهة الخروج على الطغاة، أو من جهة الدم الذي يسفكه الطغاة.
مسلسل الاغتيالات... المتوارثة
وفي المقابل، لم تكن كذلك كلمات ميشيل عفلق، في الحفل التأبيني الذي أقيم بعد اغتيال البيطار، وحيث توقّع أن يولّد اغتياله بداية "تاريخ جديد بالنسبة الى نضال الشعب في القطر السوري وبالنسبة الى موقف الرأي العام العربي والعالمي من قضية سوريا ونكبة شعبها بحكامها المتسلّطين". فقد بدا اغتيال البيطار حلقة من سلسلة طويلة من الاغتيالات الأسدية، سيورثها الطاغية الأب لأبنائه لاحقاً.
فقبل البيطار، جرى اغتيال محمد عمران، أحد أفراد اللجنة العسكرية الانقلابية، التي كانت تضم حافظ الأسد وصلاح جديد، وكان وزيراً للدفاع عام 1963. وعلى الرغم من طائفيته الفصيحة، ودعوته إلى "تحالف فاطميّ" بين الأقليات في الجيش بوجه الأكثرية، إلا أنه كان معارضاً للتنكيل بأبناء حماه بالشكل الذي جرى عام 1964، وقد أبعد الى إسبانيا، ثم لم يغفر لأمين الحافظ استدعاءه منها، وأطيح بكل منهما في 23 شباط 1966، ليتم اعتقاله، ثم يفرج عنه ويقيم في طرابلس، إلى أن تمتد إليه أصابع الغدر الأسدية في 14 آذار 1972، حيث هو في طرابلس. وبعد البيطار، جرى اغتيال بنان الطنطاوي، ابنة الشيخ علي الطنطاوي وزوجة عصام العطار الذي كان مراقباً عاماً لجماعة الإخوان، وجرى ذلك في مدينة آخن في ألمانيا.
الاغتيال السياسيّ شكّل عموداً أساسيّاً من أعمدة استمرار النظام البعثيّ، بصيغته الأسديّة. لم يردعه في ذلك حاجز "جغرافي"، فمورس الاغتيال ضدّ معارضين سوريين سواء في لبنان أو في فرنسا أو في ألمانيا أو غيرها. كما لم يردعه في ذلك حاجز "ديبلوماسيّ"، حيث أنّ باريس عبّرت صراحة عن اتهامها للنظام السوريّ بحادثة اغتيال سفيرها لدى لبنان لوي ديلامار في 4 أيلول 1981. هذا، وقد أثيرت المسألة مجدّداً قبل سنوات، عندما دعا الرئيس الفرنسيّ نيكولا ساركوزي الرئيس بشّار الأسد لمشاركته في ذكرى الثورة الفرنسية، في 14 تموّز، تلك الثورة التي رفعت شعارات "الحرية، والإخاء، والمساواة".
والدافع إلى اغتيال ديلامار وقتها كان محاولة الأخير ترتيب عقد اجتماع بين رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات ووزير الخارجية الفرنسية، بدون حضور ممثّل عن النظام السوريّ.
كل هذه المسيرة الدموية من الاغتيالات عرفها اللبنانيّون أكثر من سواهم طبعاً، سواء باغتيال المعلم كمال جنبلاط، أو الرئيس بشير الجميل، أو المفتي حسن خالد، أو الرئيس رفيق الحريري، وعشرات الأسماء الأخرى من المفكرين والمثقفين والصحافيين والمناضلين.
ويضاف الى كل ذلك ملف قائم بذاته، يتصل بالترجمة "العنفية" للتوتّر السوريّ الأردنيّ في الثمانينات.
هذه المسيرة الاغتيالية تستند إلى "فلسفة أسدية" كاملة، قوامها أنّ الاغتيال هو الحل الأبسط لأي "عقدة"، وأنّه رسالة رادعة، وأنّ لا عواقب حقيقية له، وأنّ الذاكرة تبقى في هذا المجال قصيرة، بحيث يمكن لأي تبدّل في التوازنات والمصالح أن يجعل أهل الضحية في مقلب آخر، وأن يجعل قضيّتهم محفوظة، أو مبتلعة، في الأرشيف البعثيّ الأسديّ. لكن الأمر الأساسيّ في لعبة الاغتيال الأسديّة، وهو ما يغفله كثيرون في تحليلاتهم، لكن تؤكّده شهادات كثيرة، هو أنّ قرار الاغتيال في النظام السوريّ هو "قرار سياديّ" بمعنى أنّ الرئيس هو الذي يصدره، بشكل مباشر، ولا لبس فيه، وليس فقط بشكل "إيعازي" أو "إيحائيّ". ليس هناك من قرار اغتيال يمكن أن يمرّر في سوريا إلا بقرار مباشر من الرئاسة. أكثر من ذلك، يمكن تعريف "رئيس الجمهورية" في النظام البعثيّ الأسديّ على أنّه صاحب القرار بالاغتيالات.
طبعاً، لم يعترف هذا النظام بأي من "الاغتيالات" في أي يوم، مع أنّ الأب والابن كانا يعترفان في أي مقابلة إعلامية بحصول "أخطاء"، لكنها بقيت أخطاء مبهمة، وأخطاء يشيرون دائماً إلى مكان غامض لها، لا نعرف في أي جهاز، ولا تحت أي أرض. في المقابل، كانت بعض هذه الاغتيالات تسمّى "انتحارات"، وحتى لو بخمس رصاصات من الخلف.
لماذا اغتيل محمد سليمان... العلوي؟
لكن يبقى اغتيال محمد سليمان في 2 آب 2008، المستشار الأمني للرئيس بشار الأسد (أبو حافظ)، هو أكثر الاغتيالات غموضاً. وسليمان من الطائفة العلوية أيضاً، ومن مواليد بلدة الدريكيش شرق طرطوس، والمسؤول عن برامج تحديثية عديدة للتسليح وشراء الأسلحة وتطويرها. كان تسلّم منصب مدير مكتب بشّار الأسد الخاص، ويدير غرفة العمليات الخاصة لبشّار، وكان المسؤول بعد وفاة حافظ الأسد عن تأمين الغطاء الأمنيّ لعملية التوريث. سادت تكهّنات، وراجت تحليلات كثيرة بصدد مقتله، منها ما يربط الأمر بعملية نوعية لـ"الموساد" الإسرائيليّ، ومنها ما يربطه بالحاجة إلى تنظيف أرشيف النظام في ما يتعلّق بجرائم ارتكبت في لبنان، ومنها ما يربطه بمتاهات البرنامج النووي السوريّ، أو بالتعاون العسكري والأمني السوريّ الإيرانيّ، خصوصاً وأنّ بشّار الأسد كان يقوم يومها بزيارة إلى طهران، ومنها ما يربطه بتناقضات بين "أجنحة السلطة"، لكن المعطى المغيّب في كل هذا، هو أنّ الذي جرت إزاحته يومها كان الرقم 2 داخله، الذي ينتمي إلى جميع الصفات المفترضة، حزبياً ومذهبياً وأمنياً، إلا صفة واحدة: وهو أنّه من خارج العائلة الأسديّة. وهذا المعطى يمكن أن يفسّر لاحقاً مساحة أساسية لا تزال ملتبسة تتعلّق بهذا الاغتيال، علماً أن اغتيال سليمان هو من الأسرار التي لا يمكن فكّ شيفرتها بشكل حقيقيّ قبل سقوط النظام البعثيّ، وقد يكون سقوط النظام حتمياً، إلا أنّ معرفة جرائم اغتياله، ودوافعها، والتقنيات التي استخدمت، والوسائل السياسية التي جرت التغطية بها، كلّ ذلك يحتاج إلى جهد واسع النطاق، ولعلّه لن يصيب إلا جزءاً يسيراً من هذا المسار الذي عمل على تأبيد حكم العائلة الأسديّة بواسطة الحرفة المثلى لهذه العائلة: الاغتيال السياسيّ.
 
 
المسيحيون و"البعث".. مشروع "تأميم" الطائفة يقف عند أسوار بكركي
 قد يكون حكم "البعث السوري" للبنان ما بعد العام 1990، أي زمن السلم بعد سنوات مديدة من الحرب، هو المفصل الأساسي في الحياة السياسية اللبنانية قبل خروجه العسكري عام 2005. أما كيفية الحكم، فهي قامت أساساً على عنصر تخويف الطوائف من بعضها البعض، للقول إن مرجع الجميع في دمشق، وهي الوحيدة القادرة على طمأنة هؤلاء المهجوسين والخائفين من الآخر.
وبالطبع، فإن سياسة "البعث" قامت بصلبها على تخويف المسيحيين من المسلمين، بالتالي، جعل القيادات المسيحية من قبيل الخوف على الوجود، مرتبطة عضوياً بالقيادة السورية، التي تطمئنها إلى مستقبل وجودها هذا، وتعطيها بـ"المفرّق" كي تقبض منها بالجملة. الأمثلة على تلك السياسة كثيرة، لا تبدأ ببسط اليد على قيادة الجيش آنذاك، ولا تنتهي على أسوار القصر الجمهوري، وبين اليرزة وبعبدا، آلاف المواقع المؤثرة والمتأثرة بالهاجس الوجودي.
يروي أحد السياسيين البارزين على الساحة المسيحية أن "الرئيس حافظ الأسد، عرف كيف يستغلّ نقطة الضعف عند مسيحيي لبنان بعد اتفاق الطائف، فهو مهّد للقبض على الطائفة من خلال نفي قائد الجيش آنذاك ميشال عون، ومن ثمّ، وكي يستتبّ له الأمر، زجّ بقائد القوات اللبنانية سمير جعجع في السجن. فخلت له الساحة، كون ما تبقى من قيادات هي أقل تأثيراً، وفي مجملها لا مانع لديها من احتلال سلطة عن طريق سوريا، أي مستعدة للانغماس في لعبة المصالح المتبادلة".
يقول السياسي: منذ ما بعد الطائف، بدأ السوري سياسة ممنهجة مع المسيحيين كما مع المسلمين، ففرض سيطرته على كل المواقع، وتحديداً الأمنية. عند المسيحيين، أخذ منهم موقع المدير العام للأمن العام وأمن المطار، والأخطر من ذلك أنّه حوّر مواقع الفئة الثالثة بشكل مخيف، فجعل من المسيحيين غير الموالين موظفين في مديريات هامشية لا تأثير لها. ثمّ عزّز سيطرته بإقصاء المسيحيين عن وزارة الخارجية، وإعادتهم إليها من بوابة من ينتهج سياسته بحذافيرها. فضلاً عن ربط رئاسة الجمهورية بقرار دمشق، ثمّ استغلال قيادة الجيش التي وضعت نفسها عبر إميل لحود في الحضن السوري تماماً، لكي يُنشئوا سلطة جديدة مستقلّة عن السلطة السياسية ولا تخضع بالعمق لقرار قد يأتي ولا يناسب البعث".
يضيف: "سليمان فرنجية كان من أكثر السياسيين التصاقاً بالنظام السوري. أصبح لديه كتلة نيابية وازنة، فتحوّل من منظار سوري إلى رمز مسيحي أساسي، وعليه، قالوا إنهم يُعطون الطائفة الكثير. ثم على هامش صعود فرنجية، فرّخوا زعامات مناطقية في المتن والبقاع والشمال وجبل لبنان. تقصّدوا أن تكون هذه الوجوه منتمية إلى منطقة معيّنة ولها طموح زعامة منطقة ليس أكثر، وهذا الأمر أتى لتعزيز الحضور السوري في موازاة عدم السماح لهؤلاء النصف زعامات أن يتخطوا بسياستهم الحدود المرسومة لهم".
أمّا من بقوا على ولائهم لجعجع أو لعون، فقد عرف السوري كيف يتعامل معهم، وعرفت الأجهزة الأمنية كيف تلاحقهم من "زنغة" إلى "زنغة". يقول أحد الذين استُهدفوا في تلك الفترة، "في مرّة من المرّات وصلت المخابرات إلى منزل فوزي الراسي وهو كان قواتياً أيام الحرب. اعتقلوه واقتادوه إلى وزارة الدفاع، وصل إليها وهو مفارق للحياة. هذا التذكير بحسب القواتي، هو من قبيل التذكير لمن نسي أو تناسى، كيف تعاطت سلطة الوصاية مع كل من يخالفها الرأي وتحديداً على الساحة المسيحية".
إذاً، استطاع "البعث" بشقيه السوري الأصلي واللبناني "المستزلم" أن يُخضع الطائفة عبر احتكار كل مراكز قرارها داخل الدولة وخارجها. وصل الأمر إلى أن بعض المسيحيين ممّن أعطي الكثير في تلك الحقبة، أن يزايد على السوريين بانتمائه وتمسّكه بنهجهم. يقول السياسي، ويضيف: "الاتفاق الثلاثي عام 1986 الذي أبرمته الميليشيات المتقاتلة آنذاك برعايةٍ سورية مباشرة، نظر الى لبنان من منظار الطوائف المتقاتلة والأحزاب المتناحرة، وأن نهاية الاقتتال في لبنان يجب أن تُفضي الى انتقال اللبنانيين من حالة فيديرالية متقاتلة الى حالة فيديرالية متهادنة تؤمّن العيش جنباً الى جنب لطوائف مسيحية وسنية ودرزية وشيعية. وفي حال نشوء خلاف لسببٍ ما، يعود الى الراعي السوري تأمين المصالحة والتفاهم في انتظار خلافٍ آخر ووساطة سورية أخرى".
هذه المعادلة، تقول بأن "لا ملجأ للجميع كون هذا الجميع خائف من بعضه البعض، إلا بالعودة إلى السوري ليُطمئنه". يقول السياسي: "إذا سلّمنا بهذه النظرة الفيديرالية نكون ساهمنا في ترسيخ فكرة المثالثة بدلاً من المناصفة في التوازنات الداخلية وأفسحنا المجال أمام اتفاق أي ثلثين من ثلاثة لإخراج الثلث الثالث من المعادلة، وهذا واردٌ في أي لحظة وأي ظرف وطني أو إقليمي أو حتى دولي".
حصيلة هذا التسلسل، تفيد أن السوري رهن المسيحيين، ولكن ماذا عن بكركي؟
يجيب السياسي: "الكنيسة المسيحية على مرّ التاريخ، وضعت نفسها في مكان محايد عن سلطة الدولة، بمعنى أنها أوجدت لنفسها كياناً مستقلاً بعكس المؤسسات الدينيّة الأخرى، فلا وجود لكاهن موظف لدى الدولة، بل يتبع مباشرة إلى الكنيسة، وهذه الكنيسة تتعامل مع الدولة باستقلالية تامة. وهذا ما أعطى لهذه الكنيسة على مرّ التاريخ، هذا التمايز عن باقي المؤسسات الدينية".
هذا في المبدأ الكنسي، أمّا في النهج، فيقول السياسي: في زمن الوصاية، كان البطريرك نصرالله صفير هو رأس الكنيسة. وهو عايش لبنان في الاستقلال الأوّل ومن ثم عام 1958 وفي الحرب. ولديه قناعة ثابتة، بأن لا مجال لتقدّم البلد من الجوانب كافة إلا بوحدة إسلامية - مسيحية تتلازم مع المطالبة بسيادة لبنان واستقلاله، وهذا الإيمان الراسخ لديه، شكّل عائقاً أمام السوري في التمدد إلى أسوار الصرح".
نجح السوري في فرض سلطته. لم يستطع مع بكركي. عاد البطريرك صفير والكنيسة ليردا عليه في العام 2000 من خلال نداء المطارنة. كرّس الأوّل نظريته بتلازم مسارات السيادة والاستقلال مع الوحدة مع المسلمين. كان لقاء قرنة شهوان. انضم النائب وليد جنبلاط علناً والرئيس الشهيد رفيق الحريري بشكل غير معلن. بدأت معركة إخراج السوري. طبقّت الكنيسة قناعاتها، لتقضي على قناعات لبنانيين "تسورنوا" وسوريين حاولوا "سورنة" المسيحيين، بل كل اللبنانيين.
 
كيف حكم "البعث" سوريا ولبنان؟... حكم النظام الأسدي يقوّض الأقليات مثلما يضطهد الأكثرية
 كتب وسام سعادة في صحيفة "المستقبل":
يتحيّر المرء تجاه الدعاية الترويجية للنظام البعثيّ، خصوصاً في هذه المرحلة، مرحلة احتضاره الدمويّ، التي تشكّل فضيحة أخلاقية كبرى للضمير العالميّ، وتظهر تعطّلاً مريعاً في آليات تطبيق القانون الدوليّ. ولئن كانت هناك إبادات جماعية تتجاوز أضعاف أضعاف ما تقترفه كتائب بشّار الأسد حاليّاً، فإنّ الجرائم الحالية تتميّز بأنّها الجرائم التي تتم بشكل متواصل لأطول فترة ممكنة على مسمع ومرأى من كوكب الأرض برمّته، بعد التطوّر الحاصل في ثورة الإتصالات والمعلومات.
أما سبب التحيّر، فهو أنّ أذناب هذا النظام، سواء في سوريا أو في لبنان، يروّجون له مرة بحجّة أنّه نظام علمانيّ مستهدَف من رجعيين وسلفيين، ومرّة بحجّة أنّه نظام أقليّات تريد الأكثرية المذهبية الغاءه، ومرة بأنّه نظام مقاوم ضدّ الإمبريالية الغربية.
وفي ما عنى مزعمه كنظام "مقاوم"، يتبيّن بمجرّد متابعة مسيرته، أنّه قام بضرب حركات المقاومة العلمانية أو التقدّمية سواء في لبنان أو في فلسطين، لمصلحة تزكية حركات مقاومة متشدّدة دينياً مثل "حزب الله" و"حماس" وحركة الجهاد الإسلاميّ. وتمثّل ذلك بشكل أساسي في التحريض البعثيّ الأسديّ، على مقولة ياسر عرفات حول "القرار الوطنيّ الفلسطينيّ المستقلّ"، ومحاربة أي تطوّر كيانيّ للذات الكفاحية الفلسطينيّة، وصولاً إلى التدخّل العسكريّ المباشر ضدّ المقاومة الفلسطينية، سواء في مشاركة الجيش السوريّ الواضحة في ضرب مخيم تلّ الزعتر، أو في الحرب التي خيضت ضد مرجعية أبو عمّار الفلسطينية بتزكية الانشقاقات بعد اجتياح بيروت وبعد عودة أبو عمّار الى لبنان من طريق طرابلس، أو بالإشراف السوريّ على حرب المخيّمات.
لكن الأكثر إثارة للدهشة، هي مناداة هذا النظام بحماية الأقليّات، وأنّه الوحيد الذي يمكنه أن يؤمّن وحدة وطنيّة بين هذه الأقليّات وبين الأكثريّة، فيمنع الأخيرة من التطرّف الدينيّ، ويمنع الأقليّات من الانفصال والانعزال ومن التحوّل إلى بؤر للمدّ الاستعماريّ الغربيّ أو لتدخّلات الدول المتربّصة شّراً بالأمّة العربية.
سبب الدهشة هنا نتبيّنه لو استفهمنا عن نسبة المسيحيين في سوريا مثلاً.
فقد أجرى الباحث الديموغرافي يوسف كرباج دراسة مرجعية حول النسب الديموغرافية السورية في منتصف التسعينات، وهي الدراسة الأهم التي يُحتكم اليها حتى الآن. واستند في دراسته لأرقام عام 1953، ولمعدّلات الزيادة المختلفة بحسب المناطق من يومها، لينتهي الى النسب التالية، في ما عنى التسعينات: 70% من السكان من السنة، 10.4% من العلويين، 2% دروز، 1% اسماعيليون، أما المسيحيون والذين كانت نسبتهم 13.1% في الخمسينات، فقد صارت نسبتهم في ظلّ الحكم البعثيّ، العلمانيّ، والأقلويّ، 5.4%، وهي نسبة يخفّضها الباحث سلام كواكبيّ في دراسة له عام 2006 إلى 4,7%.
وطبعاً، لا يحتاج المرء الى دراسات كثيرة، ليعرف أنّ السياسة التي اتبعتها سوريا، في عهد حافظ الأسد ثم نجله بشّار في لبنان، والتي خاضت معظم مواجهاتها العسكرية مع الميليشيات المسيحية، تسبّبت أيضاً في تناقص عددهم في لبنان.
وفي الداخل السوريّ، فإنّ السياسات "الاشتراكيّة" البعثيّة، وقمع الحريّات العامّة والخاصّة، وحرمان المسيحيين من حقوقهم الثقافية، وتصويرهم بمظهر أنّهم مهدّدون إذا ما سقط النظام، وأنّهم أوّل المهدّدين من النظام ما لم يعبّروا عن إسنادهم له، كلّ ذلك يفسّر تراجع هذه النسبة.
وهناك من يرغب في توسيع الدائرة، ويبحث عن مسؤولية السياسة الأمنية السوريّة في دعم مجموعات التطرّف والتكفير التي كانت تفتح لها الحدود للقتال في العراق، والتي لعبت أيضاً دوراً أساسيّاً في استهداف الوجود المسيحيّ في بلاد الرافدين أيضاً.
يكفي هذا لإظهار أنّ الطبيعة "الأقلويّة" للحكم الأسديّ لا تجعل منه "حكم أقليّات متشاركة في مواجهة الأكثريّة"، وإنّما حكم يقوّض الأقليّات الأخرى، مثلما يضطهد الأكثريّة.
أما على الصعيد السياسيّ، فهذه الأقليّات بعيدة كل البعد عن القرار. ففي ما يتعلّق بالدروز، فإن النادي المغلق للنظام أوصد الباب أمام ضبّاطهم، منذ محاولة سليم حاطوم الانقلابية الفاشلة، وجرى إبعادهم تماماً في هذا الشأن بين العامين 1966 و1970.
ولعلّ أكثر من فهم طبيعة هذا النظام من الناحية الطائفية هو أولاً الفرنسي ميشال سورا، ثم الهولندي نيقولاوس فان دام.
فالعالم الاجتماعي الفرنسي ميشال سورا، المغدور به عام 1986، فهم باكراً الكيفية التي يربط فيها هذا النظام بين شعاراته المختلفة، ليوجد شرعية زائفة. هذا النظام يتغنّى مثلاً بـ"الإصلاح الزراعيّ". لكن ذلك لا يعني أنّه يمثّل "صعوداً اجتماعياً للفلاحين" في المجتمع السوريّ، إنّما "صعوداً سياسيّاً لهم"، وبالإنابة، من خلال "صعود الضبّاط الريفيين"، أي من خلال إلغاء السياسة.
لقد بيّن سورا، أن النظام البعثيّ الفئويّ يستند على هذا النوع الملفّق من "الصراع الطبقيّ" مثلاً: بدلاً من خوضه في المجتمع، يجري خوضه داخل الأجهزة الأمنية، ثم تخوضه العصبية الغالبة ضمن الأجهزة الأمنية ضد المجتمع، تحت شعار الوحدة الوطنية. لكن هذه الوحدة الوطنية تستلزم إلغاء وحدة المجتمع في الوقت نفسه. وحدة النظام هي الوحدة الوطنية المطلوبة، وهذه تتأمن ببعثرة وحدة المجتمع!
فالعسكري البعثيّ الفئويّ يقول التالي: نحن نمثّل صعود الفلاحين في المجتمع السوريّ. إذاً، الصراع ضدّنا هو لإعادة المجتمع إلى خلف، إعادته إلى الإقطاع والرجعية. لكنه يقول أيضاً: نحن ضبّاط من أصل ريفيّ أو فلاحّي، وكل من يفكّر بإقصائنا عن مناصبنا يريد إرجاعنا إلى الريف والفلاحة، ولأجل ذلك لا بدّ من سفك الدماء، وبالتالي سفكنا للدماء هو من موقع وطنيّ، وتقدّمي، وقوميّ!
ذات يوم وقف حافظ الأسد أمام "اتحاد شبيبة الثورة" ليقول: "ما زلت أذكر أيّها الطلاب الأعزاء أني في المدينة التي كنت أدرس فيها سيّرنا تظاهرة كبيرة حين علمنا أن أحد الإقطاعيين الأوغاد قتل فلاحاً وهو يجرّب بندقية الصيد". هذا هو المنطق البعثيّ الفئويّ بتمامه. الأسلحة "الاشتراكية" ثم "الممانعة" التي جرّبها "الأب" ثم "الابن" لاضطهاد الشعوب السورية والفلسطينية واللبنانية لم تكن إلا للرّد على هذا "الإقطاعيّ الوغد".
وهذا يترافق مع الطبيعة "الأقلويّة" للنظام. لكنها لا تعني أبداً "تحالف أقليّات"، ففي هذا "فساد الطبخة". إنما تعني: التقسيم الفئوي للمجتمع السوريّ من ناحية، أي الحؤول دون التبادل الحقيقيّ، والمشاركة الحقيقية بين مجموعاته المختلفة، وجعلها تخاف بعضها بعضاً، ليس فقط على الصعيد المذهبيّ أو الإثنيّ، بل أيضاً، وبشكل أساسيّ على الصعيدين المناطقيّ والعشائريّ. تحكّم النظام الأقلويّ بالحسابات المناطقية كما بالحسابات العشائرية هو الذي مكّنه من البقاء مطوّلاً، رغم الانتفاضات العديدة للشعب السوريّ، سواء عام 1964، أو في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات، أو في الثورة الوطنية الكبرى التي تعيشها سوريا الآن، والتي تشكّل ذروة الربيع العربيّ.
الهدف الأساسيّ من كل هذه السياسات "التفتيتية" هو إذن منع تحقّق النسيج الأكثريّ السوريّ في "جسم سياسيّ منظّم أو واعٍ"، وجعل حنق الأكثرية الشعبية على النظام سبباً من أسباب استمرار النظام، والخوف منه، وليس سبباً من أسباب تحلّله أو سقوطه.
أمّا الأقليّات فلا يخطب هذا النظام ودّها، إلا في "الملمّات". فهذه الأقليّات عليها أن تبقى خائفة، وخائفة أكثر من سواها.
عليها أن تخاف أوّلاً من العصبية الفئوية الغالبة.
وعليها أن تخاف ثانياً من تحقّق النسيج الأكثريّ للمجتمع السوريّ في جسم سياسيّ موحّد.
إذاً، اضطرار النظام البعثيّ في لحظة تخلّعه واحتضاره الدمويّ اليوم إلى الاستعانة بـ"تحالف الأقليّات" يأتي ليكشف طبيعته لا كنظام مبني على هكذا تحالف، بل كنظام أقلويّ، يمارس اضطهاده على الأكثرية كما على الأقليّات الأخرى، ويتفرّد حتى ضمن الأقليّة المهيمنة بإيثار نظام له طابع عائليّ، أكثر منه طابعاً مذهبيّاً، وضمن العائلة نفسها، نظام له طابع فرديّ أكثر منه طابعاً عائليّاً.
هذا النظام شبيه إذاً بالدمية الروسيّة التي تخفي دمية صغرى فأصغر منها وهكذا. هو أولاً نظام شموليّ، لحزب يقود المجتمع والدولة على رأس جبهة من الأحزاب التي يحلم كل منها بالشمولية على طريقته (حزبان شيوعيّان ستالينيان في هذه الجبهة، وحزب شيوعيّ ستالينيّ ثالث موكل تمثيل المعارضة الوطنية "الشريفة" من خارج الجبهة!!). لكن هذه الدمية تخفي دمية أخرى وهو أنّه نظام عسكريّ. البعث "العسكريّ" ألغى تماماً البعث "المدنيّ" منذ انقلاب 1963، وبشكل تام منذ 1966. ثم تأتي هذه الدميّة لتخفي دمية أخرى، وهو أنّه نظام غير قائم على تحكيم الجيش بمصائر الناس، بل على حلّ الجيش. إلغاء الجيش النظاميّ، واستبداله بعصبية مسلّحة على رأس جيش "عقائديّ". وهذه أيضاً دمية تغلّف دمية أخرى: أي أنّه نظام طائفيّ، أقلويّ. وهنا أيضاً دمية أخرى: ليست كل الأقليّات مشاركة في هذه الطبيعة الأقلويّة للنظام، بل أقلية واحدة، هي الطائفة العلويّة. لكن، وبما أنّ النظام لا يعترف بطائفيته، بل يحظّر الحديث بالطائفية، فقد جاءت هذه الطائفية ذات طبيعة سريّة أو باطنيّة، وفي المقابل فرض على الطائفة العلويّة أن تبدّل من طقوسها وشعائرها، أي أن تلغي تمايزها الدينيّ بإزاء الأكثرية كي يكون من الممكن للعائلة الأسدية أن تحكم بأفضل وضع ممكن. ووراء هذه الدمية لا يطول الأمر حتى نكتشف أنّ هناك عشيرة واحدة تحكم وليس كل الطائفة العلويّة، ثم لا يطول الأمر حتى نكتشف أنّه نظام عائلتي الأسد ومخلوف، وفي النهاية تبرز الطبيعة الفردية لرأس النظام، وهذه الطبيعة الفردية، يجري تمييعها بتحليلات كثيرة حول الأجهزة، وصراعات الأجهزة، وما الى ذلك.
وفي كتابه "الصراع على السلطة في سوريا. الطائفية والإقليمية والعشائرية في السياسة 1961 1995"، يستعرض الهولندي نيقولاوس فان دام، الذي عمل سفيراً لبلاده في مصر، كيف كان للأقليّات الثلاث، العلوية والدرزية والإسماعيلية، دور بارز في الصراعات داخل العسكر في الستينات، وكيف حُسِمَ هذا الصراع تدريجيّاً لمصلحة الاحتكار العلويّ للسلطة ثم لمصلحة الاستئثار الأسديّ، ويشير فان دام إلى أن التمييز ضد الضباط السنّة في الجيش كان تمييزاً واعياً، ومنهجياً، وبالأخص، في مرحلة الثنائيّ صلاح جديد وحافظ الأسد، أي ابتداء من سنة 1966، ثم في مرحلة استئثار حافظ الأسد ابتداء من حكم التصحيح.
وفي تحليل فان دام، أنّ الطائفية التي فشلت كانت تلك التي فضحت نفسها بشكل علني. وهذه حال محمد عمران. يقول فان دام إنه رغم "أن جديد والأسد، شأنهما شأن عمران، قد اعتمدا بصورة واسعة على أنصارهما الشخصيين من العسكريين العلويين للاحتفاظ بمراكز سلطتهما، ومن المحتمل أنهما استفادا من الولاءات الطائفية والإقليمية والعشائرية لتقوية مراكزهما، إلا أنهما تمتعا بقدر من الحكمة بحيث لم يعلنا عن ذلك صراحة مثلما فعل عمران".
فقد صرّح عمران "أن الفاطمية يجب أن تأخذ دورها" داعياً بصراحة الى تكتل مذهبي بين العلويين والدروز والإسماعيليين داخل الجيش، لكنه في الوقت نفسه، وربّما للسبب نفسه، أي الطائفية الصريحة أو البواحة، أي تنكيل واسع ضدّ السكّان على أساس طائفيّ. لكن هذا لم يؤّهل التعاون بينه وبين المجموعة العسكرية البعثية السنية بالجيش في الستينات والتي كان يقودها أمين الحافظ قبل إطاحة جديد والأسد به في 23 شباط 1966 من أن يكون تعاوناً ديناميكياً فعالاً، حيث يشير فان دام الى عنصر فقدان الثقة بشدّة بين عمران والحافظ، ما جعل "أي نوع من التعاون المثمر بينهما أمراً مستبعداً للغاية".
في المقابل، كان جديد والأسد بحاجة إلى التنكيل على أوسع مدى، بغية بثّ روح التفوّق لدى العصبية التي يؤسّسون لنظامها الفئويّ الشموليّ، ولأجل ذلك كان على طائفيتهم أن تكون باطنيّة. فإذا كان تصريح عمران يعادل "الطائفية العلنية يجب أن تأخذ دورها"، فإن فلسفة النظام الأسديّ تقوم على مبدأ أنّ "الأمر للطائفية الباطنيّة" التي من شروطها تحريم تسميتها كذلك، ورمي أخصامها في الوقت نفسه بأنّهم رجعيون وطائفيون.
ففي العرف البعثيّ، الأسديّ، ليس الطائفيّ هو الذي يحتكر السلطة في فئة دون غيرها، والذي يغلّب الإنماء في مناطق دون غيرها، والذي يمنع الناس من التواصل من دون خوف ومن دون علاقات تخويف وترهيب في ما بينهم، إنما الطائفيّ في هذا العرف هو من يسميّ هذه الأمور بأسمائها، ويحتجّ على ذلك، ويقول بأنّ الوحدة الوطنيّة غير محقّقة، وأنّ عليها أن تكون هدفاً للسوريين يصبون إليه.
وكان آخر حاجز يحول دون الاحتكار الأقلويّ للمجموعة العسكريّة العلويّة على الجيش، بعد انقلاب 23 شباط 1966 هو التصدّي للضباط الدروز الفاعلين فيه، وهو ما اتخذ عنوان "وضع حد للمناورات الطائفية" كما جاء في وثائق المؤتمر القطري لحزب البعث بعد هذا الانقلاب، وقصد به استهداف وتصفية الضباط الدروز الفاعلين. وهكذا كانت نتيجة المؤتمر استبعاد حمد عبيد وسليم حاطوم الدرزيين من القيادة القطرية الجديدة، مع أنهما لعبا، لا سيما حاطوم، دوراً تقنياً بارزاً في انقلاب 23 شباط، ويقول فان دام في هذا الصدد إنه "رغم أن سليم حاطوم كان له نصيب الأسد في تنفيذ انقلاب 23 شباط 1966، إلا أنه لم يُكافأ على دوره الفعال والحاسم، بل أيضاً فقد اعتباره في الحزب" وهو ما دفع به الى تنظيم تكتّل انقلابيّ لم يكن صعباً على الثنائيّ جديد والأسد الإيقاع به في آب 1966. وبعد فراره إلى عمّان، سيعقد حاطوم مؤتمراً صحافياً يصرّح فيه أن "الوضع في سوريا مهدّد بوقوع حرب أهلية نتيجة لتنمية الروح الطائفية والعشائرية التي يحكم من خلالها اللواء صلاح جديد واللواء حافظ الأسد والفئات الموجودة حولهما".
وأدّت الممارسات "العقابية" لجديد والأسد بحقّ أبناء جبل العرب إلى تدخل قائد الثورة السورية الكبرى لعام 1925، سلطان باشا الأطرش، الذي أرسل برقية مفتوحة لرئيس الأركان السوري في كانون الأول 1966، يورد فان دام نصّها: "لقد اعتاد الجبل وما يزال أن يقوم بالثورات لطرد الخائن والمستعمر، ولكن شهامته تأبى عليه أن يثور ضد أخيه ويغدر ببني قومه. لهذا الرادع الوحيد نقتصر مبدئياً على المفاوضات".
وبعد استبعاد الضباط السنة، والدروز (سليم حاطوم وفهد الشاعر)، والإسماعيليين (عبد الكريم الجندي الذي أجبر على الانتحار) عن مركز القرار، لم يطل الأمر حتى حُسِمَ الصراع داخل المجموعة العلويّة، لمصلحة حافظ الأسد. وهكذا تمكّن الأسد، بما يمثّله من عشيرة متواضعة، من إقصاء كل من محمّد عمران، الذي ينتمي الى اتحاد الخياطين العشائري ضمن الطائفة النصيرية، وصلاح جديد الذي ينتمي الى اتحاد الحدادين ضمن هذه الطائفة.
ولمن يرغب في تصديق أكذوبة تقدميّة النظام البعثيّ، عليه أن يقرأ كيف تقدّم مواقع الكترونية عديدة نسب الرئيس بشّار الأسد فتقول "هو الرئيس الدكتور بشار الأسد ابن القائد الخالد حافظ الأسد، بن علي بن سليمان الأسد، بن أحمد بن ابراهيم تسيّد جبال الكلبية في حينه". ثم يعاد النسب الى "شيخ التنوخيين الأمير الشيخ علي بالعامود، ابن شمس الدنيا والدين صاحب الرايات الأمير المرسل الذي استشهد في جمرزل، واسمه القاسم الكلبي الكناني المدرسي الصوفي الأمير التنوخي ابن صاحب السرايا والسجايا". ثم الى "قضاعة بن مالك بن عمرو بن مرّة بن زيد بن مالك ابن الملك حمير بن سبأ مؤسس الدولة السبئية باسم مملكة سبأ "إذ جاء الهدهد من سبأ بنبأ يقين" وسبأ ابن يشجب ابن يعرب ابن قحطان".
هذا ليس بتفصيل لناحية عبادة العائلة الأبدية لنفسها، ولناحية فشلها طيلة العقود الماضية، في فرض عبادة أفرادها على الشعب السوريّ المؤمن والطيّب، الذي يواجه آلة الموت البعثية بصوت واحد: "يا الله ما لنا غيرك يا الله".
 
كيف حكم "البعث" سوريا ولبنان؟... "التوريث" في سوريا أنضجه النظام الأمني المشترك في لبنان
كتب وسام سعادة في صحيفة "المستقبل":
من دون تظاهرات ولا تصادمات في الشوارع هبط بشار الأسد على كرسي الرئاسة في عاصمة الأمويين بتوريث "بيولوجي" وعملية إستثنائية أمنية لوجستية، غطّاها نظام البعث وأدارها محمد سليمان وآل مخلوف، ذلك النظام الذي استطاع أن يحكم سوريا في ظلّ حافظ الأسد من وراء القبر الى حين اندلاع الثورة في 15 آذار 2011. ومن لبنان شكّلت التركيبة الأمنية، التي أوجدها النظام الأمني اللبناني- السوري المشترك، سنداً للانتقال الذي بقيت المؤسسات الحزبية بعيدة منه وتحقّق بسوريا وحدها "بقرار جمهوري" وتعديل للدستور لم يحتَج الى أكثر من خمس دقائق. تركيبة كانت المحور والمبادر في التحرك لدعم التوريث وشكلت منظومة الوصاية التي لطالما خنقت اللبنانيين منذ ما بعد الحرب وانتكاسة اللعبة الديموقراطية البرلمانية مع وصول إميل لحود الى سدّة الرئاسة، ومن ثم التمديد له بالتوازي مع التوريث ضمن معادلة أن من يعارض الأول فهو متآمر ضد الثاني ومصيره القتل. المعادلة وضعت في وجه "الحريرية" التي كان العداء لها يومها حاضراً بشكل منهجي، وكان الاسد الابن منذ البدء يرى في هالتها وحضورها في السياسة والاقتصاد خطراً حيوياً عليه.
لخدمة التوريث قُدّم الرئيس "العتيد" على أنه علماني وداعية المعلوماتية. النخب طالبته بان يظهر اختلافه عن والده وانتمائه الى جيل آخر، ذلك الاختلاف الذي حاول اثباته بتسامح أبداه مع "المضافات المدنية" ثم ما لبث ان بدده بسياسة القمع الاولى ضد "ربيع دمشق" على ما وُصف. كثر اعتقدوا أنه سيكون أقلّ جوراً ودموية وهو الآتي من "المدنية" والبعيد من الجيش والعسكر، إلا أنهم ما لبثوا أن اكتشفوا أنهم مخطئون بعدما أظهرت مواقفه أنه ما زال يحافظ على شوكة العصبية الفئوية. عصبية تجلّت بقوة باستخدامه التصفية الجسدية حتى داخل النظام العلوي الحاكم وداخل عائلة الأسد نفسها، ومن ثم بانتهائه بدخول الموقع التبعي في تحالفه مع منظومة "ولاية الفقيه" التي لطالما حرص الأسد الأب على عدم انزلاقه فيه.
نجح "البعث السوريّ" في ما عجزت عنه جميع الأنظمة التسلّطية في الجمهوريّات العربيّة: التوريث. بقي التوريث حلماً لم يتحقّق في العائلات الرئاسية الأخرى. عُدي وقصيّ قُتِلا قبل والدهما. علاء وجمال اعتُقلا مع والدهما. زين العابدين بن علي هرب مع زوجته. مصير "القذاذفة" كان دمويّاً مثلهم. ضاعت جهود علي عبد الله صالح التوريثيّة لنجله أحمد. باختصار شديد، كان "التوريث بقرار جمهوريّ" حديث الساعة في السنوات الماضية، في بغداد أو في القاهرة، في صنعاء أو في ليبيا أو في تونس، إلا أنّ الحالة السوريّة بقيت الإستثناء: في دمشق وحدها استطاع النظام، المتمسّك بأيديولوجيا تصف نفسها بأنّها تقدمية وعلمانية وديموقراطيّة شعبية، أن يؤمّن الغطاء للتوريث، الذي استطاع أن يحكم سوريا، في ظلّ حافظ الأسد من وراء القبر، إلى حين اندلاع شرارة الثورة السوريّة في 15 آذار 2011.
"التوريث"... وتعديل الخمس دقائق
في الوقت نفسه، شكّل الإستثناء السوريّ حافزاً لجميع الأنظمة التسلّطية الأخرى في المنطقة، فالنغمة لم تزحف على البلدان الأخرى بهذا الشكل، إلا بعد أن كان رؤساء الجمهوريّة العرب ينصتون لمحاضرات بشّار الأسد في القمم العربية المتعاقبة، فيستحضر كل واحد منهم صورة نجله أو زوجته، ويقول لنفسه انّه كما ورّث حافظ لإبنه، فلإبني أو لزوجتي الحقّ كذلك، والقمم العربية يمكن أن تتسع لشتى أنواع المحاضرات.
بشّار الأسد كان استثناء من ناحية أنّ التوريث انتقل إليه، ليس بشكل تلقائيّ كما يخيّل للإعتقاد لكن من دون مصادمات في الشارع، ولا تظاهرات رافضة، كتلك التي واجهت بها بعض المجموعات السوريّة الإنقلاب "التصحيحيّ" الذي أوصل والده الى السلطة في تشرين الثاني 1970. بيدَ أنّ التوريث في سوريا لم يحصل مع ذلك إلا بفضل نجاح كوكبة من ضبّاط العصبية الغالبة في النظام، في تأمين غطاء أمنيّ لازم لذلك فور وفاة حافظ الأسد في 10 حزيران 2000، الأمر الذي تعيده مصادر أساسية إلى غرفة عمليات كان يقودها العميد محمد سليمان، وتكفّلت بمراقبة ومنع التقاء أي من العناصر التي كان يمكنها أن تغامر سواء داخل الأجهزة الأمنيّة أو ضمن من يوصفون بأنّهم أهل العصبية الواحدة، وبشكل مركّز "ذوي القربى"، في إفساد الطبخة، طبخة توريث رئاسة الجمهورية العربية السوريّة إلى بشّار الأسد. بفضل هذه التغطية الأمنيّة المتقنة كان ممكناً، في هذا البلد الذي عرف الحيوية السياسية، سلمية أو عنفية، أكثر من سواه، أن يشهد على توريث رئاسة الجمهوريّة للإبن، بعد وفاة الأب، من خلال تعديل الدستور في خمس دقائق، ودون أن يكون النجل وقتها قد احتلّ منصباً أساسيّاً في الدولة أو في الحزب.
وحيث "لا مكان لعفويّة الجماهير" (وهذا لا ينفي أنّ للنظام جمهوره لكنّه تحديداً جمهور لا عفويّة لديه)، أخذ التلفزيون الرسميّ يذيع جلسة طارئة للبرلمان تلا فيها رئيسه آنذاك عبد القادر قدورة نعياً للأسد، وعرض اقتراحاً بتغيير الدستور لتعديل السنّ القانونية للمرشح لرئاسة الجمهورية من أربعين عاماً إلى أربعة وثلاثين عاماً، في حين كان التلفزيون يواصل بثّ مشاهد لجموع تبايع بشّار الأسد.
وفي 11 حزيران 2000، أصدر السيد عبد الحليم خدّام، نائب الرئيس السوري، مرسومين تشريعيين، "بترقية الدكتور العقيد الركن بشّار الأسد إلى رتبة فريق، وتعيينه قائداً عاماً للجيش والقوات المسلّحة".
"عبادة الفرد"... والرواية اللحودية
وهنا، يظهر فارق كبير بين "الحالة" بشّار الأسد، التي نجح نظام العصبية الفئوية والتركيبة الشموليّة في توريثها الحكم، وبين المشاريع التوريثيّة المجهضة في العالم العربيّ. فإذا قارنا مثلاً بحالة جمال مبارك، نجد أنّ مشروع توريث الأخير، اتخذ مساراً انتقالياً، اسمه "لجنة السياسات في الحزب الوطني"، أمّا في حالة الأسد الإبن فبدا الأمر أشبه بهبوط مظليّ على كرسي الرئاسة الأوّلى في عاصمة الأمويين.
بيد أنّ النظام البعثيّ، كان استقرّ على "عبادة الفرد" المطلقة لحافظ الأسد وحده، خصوصاً بعد تخلّص الأخير من مغبّة الوقوع في ثالوث الأخوة، الموقعين ببعضهم البعض، حافظ وجميل ورفعت. و"عبادة الفرد" هذه ليس من السهل توريثها داخل النظام، إن لم يكن هناك "وصيّة" أو "نصّ" من حافظ الأسد يقضي بتوريث بشّار الأسد.
وهنا، ولو كان الأمر رمزيّاً، إلا أنّ من تكفّل بالمهمّة كان الرئيس اللبنانيّ، البشّاريّ جدّاً، إميل لحّود. سيكرّس لحّود، ومعه النظام البعثيّ، الرواية التالية: انّ وفاة الرئيس حافظ الأسد حدثت في أثناء مكالمة هاتفية مع لحّود، وأنّ آخر جملة قالها الأسد للحود قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة كانت: "قدرنا أن نبني لأولادنا مستقبلاً يطمئنون اليه، وواجبنا أن نورثهم أفضل مما ورثنا".
على الأقل، كانت هذه الكلمات، في الرواية اللحودية الدراماتيكية، المعتمدة بعثياً، تستبق تذرّع أي ضابط طموح من داخل الصفوة الحاكمة، بما كان سبق لحافظ الأسد أن صرّح به أكثر من مرّة في عقد التسعينيات. مثلاً، في مقابلته مع مجلة "تايم" في 13 تشرين الثاني 1992، وردا على سؤال حول نيّته التوريث قال: "ليس لدي خليفة. إن من يحدّد الخليفة هم المؤسسات والمنظمات الحكومية والدستورية والمؤسسات الحزبية، وأنا أؤمن أنّها جميعها تتمتع بجذور عميقة نظراً لخبرتها الطويلة الممتدة عبر عشرين أو اثنين وعشرين عاماً، وهي قادرة على احتواء هذا الموقف". اللافت هنا، أنّ "المؤسّسات الحزبية" تحديداً لم تلعب دوراً يُذكَر، ولو ثانويّاً، أو شكليّاً، في تأمين عملية التوريث، وهو ما أوقع البعض في الفترة الأولى في وهم أنّ من طعن مفهوم الجمهوريّة بإنتقال كرسي الرئاسة إليه بهذه الطريقة اللادستوريّة، التوريثية، الفظّة والسريعة والكاريكاتورية والخائفة، لا نعرف من أين "تسلّل"، سوف يكون من نمط جديد، غير بعثيّ، أو إصلاحيّ. ويومها، قدّم الرئيس "العتيد" على أنّه داعية المعلوماتية، وهو وهم سيبدّده لاحقاً فيلم المخرج الراحل عمر أميرالاي "الطوفان في بلاد البعث".
واضح إذاً اليوم أنّ عملية أمنية لوجستية كبيرة استطاعت تأمين "تعديل الخمس دقائق" على هذا النحو، وأنّ الخوف من حدوث أي ثغرة وصل وقتها إلى حدود قياسيّة في أجهزة النظام. هذه العملية الأمنية اللوجستية لعب فيها العميد محمد سليمان من ناحية، وعائلة مخلوف (أقرباء الأسد الإبن من جهة الأم) من ناحية ثانية (تحديداً عدنان مخلوف الذي كان قائداً للحرس الجمهوريّ وأولاده)، دوراً أساسيّاً، فكانوا العين الساهرة لتأمين الطريق أمام الرئيس العتيد، ريثما يشتدّ عوده أكثر، ويصير قادراً على قيادة "الأمة العربية" إلى حيث تقتضي "الرسالة الخالدة".
بهذا المعنى، لا يتناقض القول بأنّ بشّار الأسد جاء بتوريث "بيولوجيّ" مع القول بأنّه جاء بعملية أمنيّة، من الممكن أن تنجلي تفاصيلها التقنية أكثر عندما تفتح ملفّات كثيرة بعد سقوط النظام.
"طبيب العيون"... على طريق التأهيل "البعثي"
لكن ذلك لا يعني أنّ بشّار الأسد كان لا يزال "طبيب العيون" إلى حينه. فبين 21 كانون 1994، تاريخ وفاة شقيقه الأكبر باسل اثر حادث سيارة عن عمر يناهز 32 عاماً، وبين تاريخ وفاة والده في 10 حزيران 2000، كان بشّار الأسد قطع ست سنوات من "التأهيل البعثي"، وذلك على مستويين: المؤسسة الأمنية الداخلية، وتأمين تركيبة أمنية مساندة له إنطلاقاً من النظام الأمنيّ اللبنانيّ ـ السوريّ المشترك الذي كان يشكّل منظومة الوصاية السوريّة المطبقة على اللبنانيين بشكل شامل، منذ انتكاسة اللعبة الديموقراطيّة البرلمانيّة اللبنانية الهشّة أساساً بعد الحرب، إنّما التي تعرّضت لضربة كبرى، بوصول إميل لحّود، إلى سدّة الرئاسة، في خريف 1998، بخطاب بونابرتيّ إستفزازيّ، يشكّل حركة مضادة لعملية الإعمار وإعادة تشغيل الإقتصاد اللبنانيّ من ناحية، وحركة مضادة للعبة الديموقراطيّة البرلمانيّة اللبنانيّة على هشاشتها، كما قلنا، تلك الهشاشة التي برّر بها إميل لحّود والنظام الأمني، حملتهما على ما أسموه يومها "الطبقة السياسية اللبنانية".
عُجِنَ بشّار الأسد في هاتين المدرستين بين العامين 1994 و2000: تجاذبات مراكز القوى داخل سوريا، والتركيبة التي كانت تلتقي خيوطها على الثنائيّ إميل لحّود وجميل السيّد في لبنان، وهو ثنائي يستكمل سوريا بالنظيرين، رستم غزالي وجامع جامع. صحيح أنّه عندما نتحدّث عن "نظام أمنيّ مشترك" ينبغي عدم طمس علاقة التبعية الشديدة، والمذلّة، التي تربط المسؤولين اللبنانيين فيه بالمسؤولين السوريين عليهم، إلا أنّه، وفي الوقت نفسه، كان الفريق اللبنانيّ ضمن هذه المنظومة، محوريّاً، ومبادراً، في التحرّك لدعم التوريث لبشّار الأسد. من هنا، كان من تحصيل الحاصل بعدذاك أن يتقاسم بشّار الأسد مع هذا الفريق الأحقاد نفسها، والضغائن نفسها. أيّ أنّه بالمستطاع القول، انّ "العداء للحريريّة" على وجه التحديد، كان حاضراً بشكل منهجيّ منذ نهاية التسعينيات في هذا الفريق الرئاسيّ الذي سيشكله بشّار الأسد، وأنّ الأسد الإبن كان ينظر إلى الحريرية منذ البدء، وتحديداً إلى الهالة التي يشكّلها الحضور السياسيّ والإقتصاديّ للرئيس رفيق الحريريّ، على أنها خطر حيويّ عليه. وفي الأساس، كانت هذه محاولة من بشّار الأسد وفريقه، للهروب إلى الأمام من المشكلة الأساسية التي بدأت تعترضهم، ولو بدأت بأشكال خافتة في حزيران 2000، وهي أنّ الشعب السوريّ "لم يبلع" الطريقة الكاريكاتوريّة التي عدّل بها الدستور للإتيان بالإبن خلفاً للأب، ولو أنّ "المضافات المدنية" التي سيتسامح معها الإبن نسبياً، وجزئياً، لأشهر قليلة، قبل أن يباشر سياسة قمعه الأولى، ضد "ربيع دمشق" كما كان يوصف آنذاك، كانت مضافات وأندية من النوع الذي يطالب الإبن بـ"الغاء حالة الطوارئ" وبإعادة مناخ الحريات والتعدّدية شيئاً فشيئاً إلى النخب ثم إلى البلد، أي بمعنى آخر كانت تطالبه بأن يظهر اختلافه عن والده، أي أن يظهر أنّه محكوم ليس فقط بثوابت انتمائه إلى عشيرته وعصبيته، وإلى تاريخ دمويّ بلغ ذروته في مجازر حماة 1982، بل أن يظهر أنّه ينتمي إلى جيل آخر.
لكن من كان ليرصد مسيرة الشاب آنذاك (مواليد 1965) منذ البدء، ما كانت لتخدعه حكاية "طبيب العيون" الذي سيتزوّج بالحسناء البرجوازية أسماء فواز الأخرس (المولودة عام 1975)، ابنة الطبيب المعروف المقيم في لندن، كاسراً بذلك القيود الطائفية أو المذهبية، رغم اعتراض والدته وشقيقته وربعه.
صورة "الجزار" بانت سريعاً
هذه اللوحة الزاهية ستنجح في خلق أوهام كثيرة لفترة غير قليلة حتى عند الكثيرين، ممن كان يراهن على أنّ التجربة اللندنيّة، الطبية والعاطفية فضلاً عن المناخ الثقافي العام، ستجعل الرئيس الجديد لسوريا بعيداً كل البعد عن شلالات الدمّ التي شكّلت تاريخ التجربة البعثية في سوريا، أو تاريخ نكبة سوريا بالبعث. كثيرون اعتقدوا أنّ مدنيّاً يجري إقحامه في الجيش فجأة، ويرفّع الرتب على نحو إعتباطيّ، سيكون أقل وطأة وجوراً وعنفية ودمويّة من الذين تمرّسوا في الإنقلابات، وتنقّلوا بين "اللجان العسكريّة السريّة" و"مجالس قيادة الثورة" و"المحاكم الثوريّة". وكم كانوا مخطئين.
ومع أنّ نيقولاوس فان دام كان نشر كتابه "الصراع على السلطة في سوريا" قبل بضع سنوات من وفاة حافظ الأسد، إلا أنّه كان من أوائل من رصد الصورة المتعنّتة لبشّار الأسد، قبل أن يتقلّد الأخير أي منصب رسميّ. يعيدنا فان دام إلى اللحظة التي غطى فيها الإعلام الرسمي بشكل واسع عملية تقلد بشّار المهام التي كان يقوم بها شقيقه باسل قبل وفاته. وهكذا تخرّج بشّار الأسد في 17 تشرين الثاني 1994، أي في ذكرى الحركة التصحيحية، رسمياً من الكلية العسكرية في حمص التي التحق بها مباشرة بعد مصرع باسل. وحصل طبعاً على المركز الأول بين دفعته، في حين حصل "على المركز الثاني قريب بشار وهو ابن عدنان مخلوف قائد الحرس الجمهوري". يقول فان دام، انه بدا آنذاك "وكأن جيلاً من الشباب (العلوي) الذي يتكون جزئياً من أبناء وأقارب اللواءات العلويين كان في طريقه إلى التكوين ليخلف داخل القوات المسلحة والمخابرات وفروع الأمن عامي 1994 و1995".
في الوقت نفسه يلمّح فان دام إلى أنّ ذاك تضمّن أيضاً "بعض العناصر المحتملة لنشوب نزاعات بين الأجيال داخل المجتمع العلويّ"، وهو يضع في هذا الإطار تصادم بعض كبار ضباط الجيل السابق، مع بشّار الذي كان لم يبلغ الثلاثين عاماً آنذاك، وهو ما حدث تحديداً للواء العلوي علي حيدر، الذي اعتقل مع آخرين لفترة في صيف 1994.
لكنّ ما بات واضحاً أكثر اليوم، هو أنّ بشّار الأسد استعاد من أخيه باسل مسألة الترويج لنفسه تحت مسمّى الإصلاح ومحاربة الفساد، إنّما ما كان يندرج عند باسل الأسد ضمن طقوس معيّنة لتشكيل جيل عسكريّ أمنيّ جديد يتمكّن من خلافة الجيل القديم، ويحافظ على شوكة العصبية الفئوية إيّاها، إنّما بعد أن يعيد الحيوية إليها، صار يندرج بشكل أكثر مباشرة مع بشّار الأسد، على أساس "المعادلة المخلوفية الأسديّة". أي أنّ مركز النظام سينزاح تماماً من "ذوي القربى" بمعنى حافظ وجميل ورفعت وكامل الدائرة، ليستقرّ في عائلة رئاسية محدّدة، تشكّل عقدة الوصل البيولوجية بينها، زواج حافظ الأسد من أنيسة أحمد مخلوف. لكنها عقدة الوصل.. الأيديولوجيّة أيضاً.
فالمعروف أنّ السيدة أنيسة تزوّجت حافظ الأسد رغم معارضة عائلتها، رغم انتمائهما للطائفة نفسها. وذلك بسبب من التحزّب "القوميّ الإجتماعيّ" عند آل مخلوف. إلا أنّ ما سيحصل بنتيجة هذا الزواج هو تزاوج البعث السوريّ، في صيغته الفئوية الشموليّة، الطائفية ثم العائلية، مع كثير من رؤى وتصوّرات القوميين الإجتماعيين. الأمر الذي يجعل من هذا البعث، خصوصاً في المرحلة البشّارية، بعثاً قوميّاً إجتماعيّاً، على الصعيد العقائديّ، وأسرة حاكمة "مخلوفية أسديّة"، قد لا يظهر إختلافها عن سياسات حافظ الأسد بالشكل الذي سيظهر فيه في أسلوب إدارتها للصراعات داخل الطائفة العلويّة.
فالأسد الأب كان يحاول التخفيف من إراقة الدماء ضمن هذه الطائفة، كما كان يميل للتخفّف، أو ابعاد كل من يغامر بجعل الطائفية علنية، ومجاهر بها، في حين أنّ من المطلوب، كي يبقى النظام واقفاً على قدميه أن تكون هذه طائفية سرّية.
وفي المقابل، الأسد الإبن لم يتورّع في استخدام التصفية الجسديّة حتى داخل الطاقم العلويّ الحاكم، تحديداً مع حالة غازي كنعان، لكن أيضاً في حالة محمد سليمان. كما أنّه ما كان بمستطاعه استيعاب أولاد عمومته، سواء أبناء جميل أو رفعت، وتحديداً في ما يتّصل بالنفوذ على مرفأي اللاذقية وطرطوس.
أمّا على صعيد المسألة الطائفية، فقد ذهب بشّار الأسد بعيداً على الصعيد الشخصيّ، بزواجه الجريء مذهبياً من أسماء الأخرس، رغم اعتراض والدته وشقيقته، إلا أنّ هذا المسلك العلمانيّ على الصعيد الشخصيّ شيء، ودخوله أكثر فأكثر، ومن موقع تبعيّ، في تحالف مع منظومة "ولاية الفقيه" التي يقودها نظام الملالي في طهران شيء آخر. وبنتيجة هذا التحالف التبعيّ، كان من الطبيعيّ أن يشعر الشعب السوريّ مجدّداً بالمسلك الفئويّ، المذهبيّ، المقلق، للطاقم الحاكم، ولو كان التعبير الأوّلي عن هذا القلق هو الأحاديث الكثيرة التي صار يرويها السوريّون في السنوات الخمس السابقة على اندلاع الثورة، حول "التشييع المنظّم" التي تمارسه ايران في أحياء من دمشق وغيرها. ويقيناً أنّ معظم هذا مبالغة، لكنّه يشي دون أدنى شك، بانزلاق فئويّ مذهبي كبير للنظام في مرحلة بشّار الأسد، الأمر الذي يعود إلى معطيين أساسيين: نشأة العائلة "الأسدية المخلوفية الجديدة" من جهة، والتحالف مع ايران ولاية الفقيه من موقع التبعية من جهة ثانية.
وهنا أيضاً، تجدر العودة إلى لبنان، وما شكّله هذا البلد في مرحلة "إعداد" بشّار الأسد لـ"الخلافة"، التي هي توريث بتغطية أمنية محكمة. فعلاوة على صعوده داخل المؤسسة الأمنية الحاكمة التي استدعي إليها بعد وفاة شقيقه، وهو صعود اتسم أساساً بتصليب عود "العائلة الأسدية المخلوفية المشتركة"، كان النظام الأمنيّ اللبنانيّ السوريّ المشترك ممرّاً أساسيّاً لتمكين التوريث السوريّ من أن يتمّ. وبهذا المعنى، لعب فرض هذا النظام الأمنيّ لإميل لحود رئيساً للجمهورية اللبنانية عام 1998، دوراً عضوياً في تأمين السبيل لوصول بشّار الأسد إلى الرئاسة بعد وفاة والده، ثم عادَ التوريث السوريّ فأراد أن يترجم نفسه لبنانيّاً، فاستبقته انتخابات آب 2000 التي ألحقت هزيمة كبيرة بالنظام الأمنيّ، ثم كان نداء مجلس المطارنة الموارنة مطلقاً عملية استعادة السيادة اللبنانية، وبعده إعادة تموضع "قرنة شهوان"، وانطلاقة الحركة الإستقلالية المتعدّدة الأوجه والأطر والمستويات، فكانَ أن كشف "طبيب العيون" مبكراً عن تعطّشه للقمع الدامي، من طريق أعوانه اللبنانيين، كما في ضربة 7 آب 2001، لكنّ الأخطر من ذلك كانت المعادلة التي أوجدها في خريف 2004: التوريث سوريّاً يعني التمديد في لبنان، ومن يعارض التمديد في لبنان يتآمر ضدّ التوريث في سوريّا، ومن يتآمر بهذا الشكل يُقتَل.
إنّ التوريث في سوريّا كانَ، منذ البداية، وبالاً على السوريين واللبنانيين، وندر من كان يعرف ذلك منذ البدء. لكن يروى، أنّ البعض كان يتهامس، أثناء مراسم جنازة الأسد الأب حول المصيبة التي تنتظر البلدين، في زمن بشّار وماهر وآصف وآل مخلوف.
 
كيف حكم "البعث" سوريا ولبنان؟
الأب والابن.. من "التصحيح" في حماة الى "الإصلاح" في حمص
وسام سعادة
وَقَع بشار الأسد في أخطاء قاتلة كثيرة، كان اهتم والده في تفاديها، ولعلّ في تحطيمه الرقم القياسي في الاستهانة وفي هدر العروض والمبادرات وفي ما وصل اليه من قطيعة نهائية من جانب الإجماع العربي خير دليل على ذلك. إلا أنه على الرغم من الاختلافات في التقدير والنتائج، فإن التعطّش للقمع والدماء شكّل القاسم المشترك لمنهج الأب والابن من "التصحيح" في حماة الى "الإصلاح" في حمص. هو المنهج نفسه المعادي لفكرة الكيان انطلاقاً من عقدة "الكيان الناقص" لديهما، عقدة دعّمتها لعبة "فرق تسدّ"، المبرّرة دوماً بـ"العروبة" وقدسيتها، والتي لم تستثنِ العشائر والعائلات والمناطق وحكمت الخارطة السورية كلّها وتجاوزتها الى لبنان وفلسطين. ولعلّ في شعار الثورة الذي يرتفع اليوم "واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد "، خير دليل على إيمان شعبوي ان الثورة هي طريق للوحدة التي لطالما حدّها النظام من خلال العمل الدؤوب على تفعيل التباعد بين المناطق لمحاصرة معاقل المقاومة وحفظ موقعه. وكما في الداخل، كذلك في الخارج، فان النظام البعثي الذي لم يرقَ الى رتبة قطب رئيس في المنطقة، ومن عقدته نفسها وخدمة للعقيدة البعثية، عمل على حماية وجوده بسياسة "العميل المزدوج" من خلال خدمة محورين أو تأمين وظيفتين متعارضتين في آن أو بالتتابع. سياسة انتهجها الأسد الأب في الستينيات في مواجهة جمال عبد الناصر، ومن بعده أنور السادات مروراً بمواجهة "البعث الآخر" مع صدام حسين ومواجهة السوفيات لصالح أميركا، وصولاً الى لبنان وما أوقعه فيه من تناحر دموي بين ميليشيات "حزب الله" و"حركة أمل". وعلى عكس الأب الذي اعتمد مواجهة السوفيات لصالح أميركا في الحرب الباردة، فإن الابن اليوم يراهن على استئنافها معتمداً على روسيا وحليفه الإيراني المرتبط به من موقع التبعية التامة. ويبقى القول ان بشار الاسد أعطي ما لم يعطَ لغيره في مواجهة الربيع العربي، فما كان منه إلا ان ابتعد تماماً عن إمكان التصالح مع وجهة نظر الأكثرية الأهلية وهذا خطأ مميت حتى بعرف الأسد الأب.
لا بدّ من الإقرار أنّ المشكلة اللبنانية - السوريّة سابقة، في جذورها، أو في منحى تطوّرها، على استيلاء "حزب البعث العربيّ الإشتراكيّ" على السلطة في سوريا. بمعنى من المعاني ثمّة أيضاً بُعد "كيانيّ" لهذه المشكلة.
فسوريا الحديثة كيان تعوّد النظر إلى نفسه على أنّه كيان ناقص، كيان لا بدّ أن يسعى إمّا إلى التوحّد مع بلدان عربية أخرى وإمّا إلى إلحاق بلدان أصغر منه به. وهذه نقطة استثمرها النظام البعثيّ جيّداً، ليروّج من خلال باتريك سيل، إلى أنّ هذا النظام نقل سوريا من طور البلد الذي كانت تتقاسمه المحاور، إلى البلد الذي يوجد نفسه كقطب رئيسيّ في المنطقة، ويخوض الصراع من أجل توسيع نفوذه هنا وهناك كما تفعل كل الدول الإقليمية القادرة او الطموحة.
1 - الاختلاف الجذريّ بين الأب والابن: مسألة التحالفات
لكن هذا، في أقل تقدير، محض تبسيط. ذلك أنّ ما فعله "النظام البعثيّ" لم يؤمّن له التحوّل إلى قطب رئيسيّ في المنطقة، بل انّ هذا النظام وجد نجاته، واستمراره، لعقود، وتحديداً مع حافظ الأسد، على أساس أنّه بمثابة "عميل مزدوج" قادر على خدمة محورين أو تأمين وظيفتين متعارضتين في وقت واحد، أو بالتتابع. فالنظام "البعثيّ الفئويّ" كان حاجة لأخصام جمال عبد الناصر في الستينيات، للمزايدة عليه بشعارات العروبة والوحدة والإشتراكية ردّاً على مزايداته هو بهذه الشعارات، أو بحرب اليمن. ثم تحوّل هذا النظام إلى تأمين وظيفة مواجهة أنور السادات وخياراته في السبعينيات، هذا من جهة، والدخول إلى لبنان لتقويض المقاومة الفلسطينية أو تطويعها من جهة ثانية. وفي الثمانينيات صارت وظيفة هذا النظام مواجهة "البعث الآخر"، أي نظام صدّام حسين. ومع أنّ حافظ الأسد كان أكثر من ندّد بتخلّي العراق عن مناطق منه لإيران بموجب اتفاقية الجزائر في السبعينيات، إلا أنّه وقف إلى جانب نظام الملالي الإيراني في الحرب العراقية - الإيرانية، لكن أيضاً دون أن يقطع مع المحور الآخر في المنطقة، بل يحاول الجمع بين المحورين، كما حصل عندما نظّم الملك حسين لقاء سريّاً بين الرئيسين صدام حسين وحافظ الأسد استبق لقاءهما العلني على هامش قمّة عمّان 1987، تلك القمّة التي اشتهر فيها وزير الخارجية آنذاك فاروق الشرع بأنّه شارك في إعداد بيانها الختامي الذي يدين احتلال ايران لأراض عراقية خلال الحرب، ثم لينفي موافقة بلاده على هذا البيان مباشرة في اليوم التالي!
لم يكن النظام البعثيّ قطباً أو محوراً في أيّام حافظ الأسد، بل كان "نظاماً واحداً في محورين أو أكثر"، بل انّ هذه كانت وصفة الأسد لإستمرار حكمه، ومن ضمن فهمه، لضعف الموقف السوفياتي، ولأولوية الولايات المتحدة الإستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط في الوقت نفسه.
في المقابل، مع الإنتقال من "تصحيحية" حافظ الأسد إلى "إصلاحية" بشّار الأسد نجد من يأخذ على محمل الجد أن سوريا محور إقليميّ، فتكون النتيجة ما هي عليه اليوم. فحافظ الأسد ظلّ يحفظ خطّ الرجعة في أصعب الأوقات، مع دول الخليج مثلاً. وظلّ يتحسّب من انزلاق تحالفه مع ايران الخمينية إلى موقع تبعيّ، بل انّ توترات غير قليلة شابت السياستين الإيرانية والسوريّة في لبنان الثمانينينات، ولا يفسّر بعيداً منها التناحر الدمويّ بين الميليشيات التابعة لـ"حزب الله" ولـ"حركة أمل".
مع بشّار الأسد، سنرى العكس. فإذا كان الوالد يقول بأولوية أميركا على السوفيات في المنطقة، في عزّ تعملق السوفيات ومنافستهم للأميركيين في "حرب النجوم" وغيرها، فإنّ الإبن يراهن الآن على استئناف الحرب الباردة، معتمداً على روسيا، بكل ما تتحمّله الأخيرة من مشكلات اقتصادية وديموغرافية وسياسية، علماً أنّ ما يحرّك توتّرات روسيا الموسمية إزاء الغرب في السنوات الأخيرة هو الشعور بضياع الإمبراطوريّة السوفياتية، وليس أبداً الشعور بإستعادتها، أو أن استعادتها ممكنة في الأمد المنظور.
كذلك، فإنّ الأسد الإبن لم يستطع أخذ مسافة من حليفه الإيرانيّ في أي مناسبة، وفي أي ملف، وهذا التطابق قاده بالنتيجة إلى موقع تبعية لحليفه الإيرانيّ، بكل ما يوجده ذلك من أسئلة محرجة، سواء على صعيد الحسابات المذهبية والاهلية الداخلية السورية، أو على صعيد الخيارات الإقليمية والدولية.
وأخيراً وليس آخراً في هذا المجال، تمرّس حافظ الأسد بين مدّ وجذر مع دول الخليج، ولم يغب عن باله يوماً، أنّ أي انسداد أفق للعلاقة بين نظامه والبلدان العربية الثريّة سوف يكون وبالاً على نظامه بالدرجة الأولى. وفي نهاية المطاف، لم يتردّد الأسد الأب في مشاركة الأميركيين في عملية تحرير الكويت.
في المقابل، حطّم الأسد الإبن الرقم القياسيّ في الإستهانة أو في هدر العروض والمبادرات وبادرات حسن النية التي قدّمت له على غير صعيد، وخصوصاً من البلدان العربية الأخرى على امتداد السنوات الماضية. لكن النتيجة كانت تعنّتاً ليس بعده تعنّت، ونتيجة التعنّت كانت الوصول إلى حيث وصلنا اليوم: القطيعة النهائية من جانب الإجماع العربيّ.
إلا أنّه، ما بين الإختلافات الواسعة بين منهجية الأب ومنهجية الإبن، بقيت هناك مشتركات أساسية، ليس فقط من ناحية التعطّش للقمع والدماء، لكن أيضاً من ناحية استعداء الفكرة الكيانية، سواء عنت انبثاق كيان فلسطيني مستقل، أو لبناني مستقل، أو عنت خروج سوريا من عقدة أنّها "كيان ناقص" يطمح لأن يكتمل إمّا بتوحّده مع كيان آخر أو بذوبان كيان آخر به. كذلك، ورث الإبن عن الأب هذه النظرة إلى لبنان من ضمن مجموعة أراض سليبة يُستكمَل بها النفوذ المطلوب. فلبنان يحضر هنا من ضمن عقدة رباعية مزمنة اسمها: الإسكندرون، فلسطين، الجولان، لبنان.
2 - تماهي الأب والإبن: "فرّق تسد" على الجبهات كافة
والحق أنه، لم يلحق ضرر في العصر الحديث بالعلاقات بين الشعوب العربية مقدار الضرر الذي أحدثه "البعث العربيّ الإشتراكيّ" بمدرستيه، "البعث العراقيّ" و"البعث السوريّ". وليس معلوماً بعد كم من وقت تحتاج شعوب هذا المشرق العربيّ لتدفن الكابوس وراءها، وتلملم جراحها، وتصيغ يومها وغدها.
ثمّة بالتأكيد من يرى أنّ "حزب البعث العربيّ الإشتراكيّ" كان أوّل ضحية للنظام البعثيّ نفسه، وخصوصاً في سوريا، التي كان حافظ الأسد سباقاً فيها لجهة تحويل الحزب إلى مومياء أو إلى كيان كرتونيّ، على رأس كيان كرتونيّ آخر، هو الجبهة الوطنية التقدّمية، فيما السياسة الداخلية السوريّة تصاغ إعتماداً على التركيبة العشائرية، أي على خارطة تفاهمات أو حملات ترهيب او تنكيل، يتمكّن من خلالها النظام من الإستمرار، بوصفه مدير لعبة الـ"فرّق تسد".
وثمّة من يرى في المقابل أنّ الدوافع الأيديولوجيّة بقيت مؤثّرة في التجربة "البعثيّة" السوريّة، وأنّها لا تتناقض أساساً مع هذا الإعتماد على اللعب بالنسيج العشائريّ للمجتمع، فضلاً عن اللعب على الوتر المذهبي والطائفي أنى دعت إلى ذلك الحاجة. بمعنى آخر، ثمّة شيء مبهم، غامض، يقدّسه النظام، ويسمّيه "العروبة" ويبرّر باسمه لعبة الـ"فرّق تسد" التي ليست محصورة فقط بالبعد الطائفيّ، بين أكثرية وأقلية، أو بين أقلية وأقلية أخرى، إنّما هي أساساً، "فرّق تسد" بين العشائر والبطون والأفخاذ والعائلات الكبيرة، وبين المناطق. ومن هنا حتى، كان تحكّم بخارطة المواصلات في سوريا، بالشكل الذي يؤمّن الحدّ الأقصى من التواصل بين المناطق المؤيدة أو المنتظر منها، بحكم نسيجها الإجتماعي، تأييد النظام، والحدّ الأقصى من التباعد بين المناطق التي ينظر إليها كمعاقل للمقاومة بوجه النظام.
لأجل ذلك، لم يكن ثانوياً أبداً هذا الهتاف الذي يحرص على ترداده السوريّون الثائرون كل يوم، ويغتبطون به "واحد واحد واحد، الشعب السوريّ واحد". ليسَ لأنّ الشعب السوريّ لم يتأثّر سلباً بعقود من سياسات فصل أبنائه عن بعضهم البعض، بألف وسيلة أمنيّة، ترهيبية بمعظمها، وترغيبية في البعض منها، بل لأنّ الشعب يصنع بثورته، وحدته.
فلو أنّ النظام البعثيّ كان اكتفى بوضع الأقلية في مواجهة الأكثرية منذ البدء لما صمد هذا النظام لأكثر من بضع سنوات، ولو أنّه انقاد وراء أوهام "تحالف الأقليّات" باكراً لكان دفن نفسه مبكراً أيضاً. النظام البعثيّ كان أذكى من ذلك: فهم أنّه يستطيع أن يحكم بمجرّد أن يتبنى عقيدة وحدويّة مطلقة، هي العقيدة البعثية، وأن يسعى في الوقت نفسه، وراء خدمة هذه العقيدة من خلال سياسة "فرّق تسد".
امّا المخرج من التناقض بين هذين الأمرين، فهو أنّ البعث الأسديّ ولمّا كان "رسالة قوميّة" كان عليه توسيع منطقة نفوذه العقائدية كما السياسية كما العسكرية والامنية، أي توسيع منطقة النفوذ الخاضعة لهذا النمط من الفكر "الوحدويّ" العربيّ، وفي الوقت نفسه، لهذا النمط من سياسة الـ"فرّق تسد" التي تعرقل أي تطوّر طبيعيّ للبنية العشائرية، وأي علاقة سويّة بين المدن والأرياف، وبين الأكثرية والأقليّات، وبين الأقليّات في ما بينها.
وهكذا، عمد هذا النظام إلى تطبيق وصفاته نفسها التي اعتمدها في الداخل السوريّ، على الساحتين اللبنانية والفلسطينية. في الحالتين، مزايدة "وحدوية" على كل مناد بالقرار الوطني اللبناني المستقل، والقرار الوطني الفلسطيني المستقل. وفي الحالتين أيضاً، ادمان لسياسة الـ"فرّق تسد" من أعلى إلى أدنى مستوى.
لم يكن ممكناً للنظام البعثيّ في سوريا الإستمرار كل هذه السنوات لولا حربه المستمرّة على الإرادتين الإستقلاليتين اللبنانية والفلسطينية. بهذا المعنى، النظام "قوميّ" من حيث انّه يفهم تماماً العلاقة المتداخلة بين الدوائر السورية واللبنانية والفلسطينية. لكنّ ما يخرج به، بنتيجة هذا الفهم، هو صناعة التفتيت في كل من هذه الدوائر.
3 - من الأب إلى الابن: المراهنة على القمع الدمويّ لتجديد حيوّية النظام
يتعامل البعثيّون مع الدّم على أنّه منشّط، على أنّه سائل يعيد تحريك عجلات النظام ساعة يتهدّدها الصدأ، ويكسبها طاقة وحيوية. فالنظام الذي لا يقمع لا أهلية له على البقاء، وبمجرّد أن يكون النظام قادراً على القمع والبطش الشديدين فإنّه بذلك يوجد مسوّغاً لبقائه.
وهكذا، فإنّ الإبن عندما ينوجد في ورطة تراه يستنجد بسيرة الأب، وتحديداً بكبرى جرائم الأب، أي مجازر حماة 1982.
لكن، هل فعلاً، كان حافظ الأسد لينجح في إنقاذ نظامه، من خلال ابادته الناس في حماة؟ احتاج بالإضافة إلى ذلك لأمرين: ظرف إقليميّ مؤات له بعد ذلك، حيث انّه بعد القمع الدمويّ لإنتفاضة حماة كان الإجتياح الإسرائيلي للبنان حتى بيروت، وكان اخراج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت. أمّا الأمر الآخر، فهو ما حدث بين العامين 1983 و1984، وحسم تماماً في المؤتمر القطري لحزب "البعث" عام 1985. كان على حافظ الأسد أن يبعد شقيقيه رفعت وجميل، إذا ما أراد تأمين الإستقرار لنظامه بعد مجازر حماة. ولم يحدث ذلك بشكل سلميّ طبعاً، بل حدثت اشتباكات بين "سرايا الدفاع" وبين الحرس الجمهوريّ، وكاد الوضع يتطوّر إلى حرب أهلية شاملة. لم يتمكّن حافظ الأسد من الإنتصار على شقيقيه في تلك المنازلة لولا أنّه تحصّن بمصالح الأكثرية الأهلية من السوريين، وأظهر شقيقيه على أنّهما يمثلان وجهة نظر طائفية. وقبل ذلك قام حافظ الأسد بالشيء نفسه عندما انقلب على رفاقه المزايدين يساروياً مثل صلاح جديد وغيره. مثّل أيضاً ارتياحاً للأكثرية الأهلية، على اعتبار أنّ الأكثر فئوية ومغامرة قد أزيح.
في المقابل، فإنّ الإبن، بشّار الأسد، الذي يتقاسم مع الأب، المراهنة على القمع الدمويّ لتجديد حيويّة النظام، تراه يأخذ مساراً آخر. المزيد من التضامن مع كامل أفراد الأسرة "الأسدية المخلوفية" بالتحديد البشاريّ لها، أي التي تجمعه بشقيقه وصهره وأولاد خاله، وعدم الإستعداد أو عدم القدرة بالتضحية بأي منهم، وأكثر من ذلك، الإستحالة التامة لكي يمثّل وجهة نظر ترتاح لها الأكثرية الأهلية من السوريين. هذه الفرصة كانت متاحة له فقط لأسابيع معدودة في بداية الثورة، يوم كان هناك رأي منتشر في سوريا ينتظر أن يتجدّد الإفتراق بين "سرايا الدفاع" من ناحية، وبين "الحرس الجمهوريّ" من ناحية ثانية. لكن، هذه المرّة، كانت "سرايا الدفاع" و"الحرس الجمهوريّ" هما الشيء نفسه: بشّار ماهر، وماهر بشّار. انتظرنا أسابيع قليلة لنقطع الشك باليقين. أعطي بشار الأسد ما لم يعط لأحد غيره من رؤساء الجمهوريات العربية التسلّطية في مواجهة الربيع العربيّ. وبالنهاية، ابتعد تماماً عن إمكان التصالح مع وجهة نظر الأكثرية الأهلية، وهذا، حتى بعرف حافظ الأسد، خطأ مميت.
 
سامي الخطيب: زارني ضابط سوري رفيع لتركيب لوائح انتخابات 92
عبد السلام موسى
لا يجد اللواء سامي الخطيب حرجاً في فتح دفاتر علاقته بالنظام السوري، يضع أمامك على الطاولة ملفات أبقاها في خزائنه السرية عمراً، وقرر أن يُخرج ما تيسر منها اليوم، على أن يضعها في متناول الجميع، في كتاب منكب على تأليفه عن كواليس تلك المرحلة بحلوها ومرها.
خلاصة ما في الملفات، التي تضم رسائل في "السياسة" بينه وبين نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام، وفي "العسكر" بينه وبين رئيس الأركان السابق العميد حكمت الشهابي، أن علاقة الخطيب بالنظام السوري لم تقم على تبعية عمياء، بقدر ما كانت علاقة يحكمها المد والجزر في كثير من الأوقات التي كانوا يطلقون فيها العنان لأبواقهم للتشهير بالخطيب على خلفية "خبرية" ما وصلتهم في تقرير لأحد المخبرين، أو لأنه لم يؤدِ ما كُلف به كما شاءت حاشية النظام، لكنه في المقابل كان يرد معاتباً على كيفية التعاطي معه، مضمناً رسائله ملاحظات كثيرة عن ثغرات كبيرة بفعل الممارسات السورية التي لم تكن يوماً سوية على أرض لبنان.
يقول :"بعد أن استفحل التدخل السوري في كل شيء، في الإنتخابات، التعيينات، البلديات، المخاتير، النقابات، الجمعيات، قلت للعميد غازي كنعان، بعد العام 2000، ما مفاده أنكم تتدخلون في كل شاردة وواردة، في قضايا صغيرة مهمتكم في لبنان أكبر منها، فقد دخلتم لوقف حمام الدم والمساعدة في إعادة تركيب الدولة التي اندثرت. لكنكم تقومون بالعكس، فحذار أن نصل يوماً يقول اللبنانيون عنكم أنكم جيش إحتلال".
رد كنعان وبـ"السوري": "إنت غلطان يا لواء، لا تبالغ (..) من يقول ويصف الجيش السوري في لبنان بجيش إحتلال هو عميل ونقطة عالسطر"، كما لو أن، والكلام للخطيب، "الوجود السوري بات مرجعية، وأصبح نوعاً من القدر ممنوعٌ مناقشته".
يذكر الخطيب أن كنعان زاره في آواخر العام 1988، حين استلم قيادة الجيش في بيروت الغربية، في إطار دعمه ضد ميشال عون الذي كان بدأ حرب التحرير ضد السوريين. وهو يهم بالخروج من مكتبي قال لي : هناك ضابط في أبلح اسمه جميل السيد "دير بالك عليه"!.
مما لا شك فيه أن "الفضل" في تحول الوجود السوري إلى مرجعية يعود إلى النظام الأمني الذي كرسه للتحكم بأمن البلاد والعباد، فـ"السوريون منذ دخولهم شرعياً تحت ستار قوات الردع العربية في عهد الرئيس الياس سركيس، زرعوا ضباط استخباراتهم في كل الألوية التي كانت منتشرة على كل الأراضي اللبنانية، فمع كل قائد لواء كان هناك ضابط استخبارات، وكان يلازم قائد قوات الردع ما كان يسمى برئيس جهاز المراقبين السوريين"!.
يضيف الخطيب :"رويداً رويداً، تحول هؤلاء الضباط من أمن قوات الردع إلى الأمن اليوم، ومنه إلى الأمن القومي، في الطريق لوضع اليد على مفاصل السلطة في لبنان".
طريقهم إلى ذلك مرّ بـ"بدعة العلاقات المميزة"، التي حاولوا تكريسها بـ"تشريعات وقوانين". يقول الخطيب: "حين كنا نحدثهم عن الدولة اللبنانية وبنائها، كان الجواب، كلبنانيين يجب أن تتحدثوا عن العلاقات المميزة مع سوريا وليس بناء الدولة". ويشير إلى ان "الرئيس سركيس قال له في إحدى اللقاءات التي كان يعقدها معه بتكليف من السوريين، كيف يريدون أن نبني علاقات مميزة والجيش السوري يرابط على باب القصر الجمهوري؟ يجب أن يكون التعاطي من دولة إلى دولة كي يكون هناك علاقات مميزة".
ويعبر من موقف الرئيس سركيس في تلك المرحلة إلى المقاطعة المسيحية لإنتخابات العام 1992، حين كان يشغل موقع وزير الداخلية، ويشير إلى خلفيتها المرتبطة بموقف مسيحي "كان يعتبر أن أي إنتخابات في ظل وجود السوريين لن تكون حرة ونزيهة، لذا كانت المطالبة بتأجيلها عامين لظنهم أن النظام السوري سيطبق ما نص عليه اتفاق الطائف". لذا يكشف الخطيب "كنت حازماً في إجراء الانتخابات، ليس لتلبية إرادة السوريين فحسب، بل لأني لم أقبل بأن أكون ألعوبة بيد عمرو أو زيد، فقد كانت كرامتي جزءاً من القصة. تريدون تأجيل الإنتخابات، فليكن، ولكن عبر قانون، وليس عبر إظهار وزير الداخلية بموقع من لا يستطيع إجراء الانتخابات".
يروي كيف كان النظام السوري يتدخل في تركيب اللوائح على مستوى كل لبنان. يكشف أن "ضابطاً سورياً رفيعاً زاره قبل انتخابات العام 1992 لهذه الغاية، حدد لي أسماء، منها لم يكن بحاجة إلى مساعدة، ومنها من كان لزاماً علينا ان نساعدها للفوز في الانتخابات، وهذا ما كان".
ولا ينسى أن يتحدث عن واقعة تختصر بدلالاتها كل أوجه التدخل السوري في لبنان، لا سيما لجهة الإمساك بالأجهزة الأمنية: "قبل انتخابات العام 1992، كنا في صدد ترميم الدولة، فإذ بالعميد كنعان يطلب مني بصفتي وزيراً للداخلية تعيين الرائد عدنان شعبان، وهو درزي، مديراً عاماً للأمن العام، لكنني رفضت أن أصدر مرسوماً كهذا، وأبلغت كنعان ما مفاده أن هناك معادلات ومواثيق اتفق عليها اللبنانيون منذ الميثاق الوطني مروراً باتفاق الطائف إلى اليوم لا يمكن المساس بها. فكانت النتيجة غضباً سورياً عارماً عليَّ، وانقطع الاتصال مع كنعان لفترة".
وأكثر من ذلك، يؤكد اللواء الخطيب الذي كان نائباً عن البقاع الغربي وراشيا لثلاث دورات متتالية 1992، 1996 و 2000، أن النظام السوري كان يجمع الأضداد في لائحة واحدة لخوض الإنتخابات على أن يتفرقوا بعدها، كما كانت الحال، في كل المناطق، لا سيما كتلة "قرار البقاع الغربي وراشيا" التي خاضت الإنتخابات في الدورات الثلاث، والتي كانت تضم إلى الخطيب، النائب روبير غانم، الوزير السابق عبد الرحيم مراد، نائب رئيس مجلس النواب السابق إيلي الفرزلي، الوزير السابق محمود أبو حمدان والنائب السابق فيصل الداوود. كانوا يجتمعون فقط في الإنتخابات على "الإيقاع السوري" ليس إلا، ومن بعدها يتفرق العشاق.
 
 
كيف حكم "البعث" سوريا ولبنان؟
الربيع السوري... مخرز في عين "البعث" منذ عام 1978
جورج بكاسيني
لم تكن الثورة السورية وليدة ساعتها، قبل عام، انما هي فعل إيمان بالحرية ومقاومة لنظام الطغاة البعثي، انطلقت شرارتها الأولى قبل 34 عاماً، في إطار حراك مدني لم يهدأ ولم يبرز كثيراً الى العلن بسبب القمع الأسدي وانعدام وسائل التواصل الاعلامي والاجتماعي في تلك الحقبة.
"القرار رقم 1" بيان ثوري تحوّل إلى كرة حرية بدأت تتدحرج وتكبر، مناهضة للاعتقالات التعسفية وكم الأفواه. وزعّته سواعد الأحرار شعلةً لثوار اليوم، الذين تتردد أسماء كثيرين منهم في حلقة اليوم، لعبوا أدواراً كبيرة في السنوات أو العقود الماضية في سوريا، قبل أن يصبحوا معروفين كما هو الحال اليوم على شاشات التلفزة.
لم تفلح بربرية النظام في سحق المعارضة على الرغم من زجّ اعضائها في السجون. أو في السيطرة على الحراك المدني في سوريا حيث تصاعدت موجة الانتقاد السياسي عبر المنابر الثقافية والندوات الاقتصادية في ظل التدّخل المتمادي لعناصر النظام نفسها.
حدثان كبيران لاح منهما بصيص لأمل في تغيير الواقع العسكرتاري المقيت التي ترزح معه سوريا، الأول سقوط نظام تشاوشيسكو في رومانيا، حيث رفع الثوار شعار "بالأمس شاوشيسكو واليوم شامشيسكو" في اشارة إلى حافظ الأسد، والثاني مرض الأسد الأب الذي ترافق مع تراخي السلطة الأمنية آنذاك.
استفاد نشطاء الأمس واليوم من هذه التغييرات واطلقوا منتديات عديدة تخللها محاضرات ومداخلات تعرّي الحال الأمني البائس والفساد المستشري في سوريا، وصولاً إلى ظاهرة النشر لمعارضين سوريين في جريدة "النهار" مروراً بظهور انتقادات واسعة للنظام داخل الأوساط البعثية وقمع ربيع دمشق. 14 شباط 2005 يوم استشهاد الرئيس الشهيد رفيق الحريري ألهم ثوار سوريا بعد ان اقام حلفاء النظام السوري تظاهرة شكر وتأييد للنظام في ساحة رياض الصلح في 8 آذار وتنظيم النظام نفسه مسيرة مماثلة في سوريا فكان رد الفعل الأول على المسيرتين تظاهرة للمعارضة السورية في 10 آذار في شارع النصر أمام قصر العدل في دمشق للمطالبة بسحب الجيش السوري من لبنان وسوريا، شارك فيها نحو ألف شخص وكرّت سبحة التظاهرات المماثلة في عدد من المناطق السورية، وما زالت حتى اليوم.
أول إرهاص للثورة المدنية في سوريا سُجّل العام 1978 من خلال بيان صدر عن نقابة المحامين في دمشق سُمِّي "القرار رقم 1"، كتبه المعارض هيثم المالح الذي طالب باطلاق المعتقلين السياسيين وإلغاء حالة الطوارئ وإطلاق الحريات العامة والسماح بتشكيل الأحزاب.
هذا البيان غير المسبوق تبنّته نقابة المحامين على مستوى كل سوريا، قبل أن يحظى بتأييد نقابتي الأطباء والمهندسين، ما فتح الباب امام حراك مدني لم يكن مألوفاً، سرعان ما تطور بعد عام (1979) مع ظهور تجمّع سُمِّي "التجمع الوطني الديموقراطي" برئاسة جمال الأتاسي وعضوية رياض الترك وحزب "العمال الثوري".
أحد أبرز الناشطين في تلك المرحلة في توزيع بيانات هذا "التجمع" الدكتور كمال اللبواني (عضو المجلس الوطني السوري حالياً) كلّف بتوزيع البيان الأول في مستشفى "المواساة": "لم يكن هناك لا "انترنت" ولا وسائل تواصل اجتماعي. كنا طلاباً في الجامعة نطبع البيانات ونوزّعها بأيدينا. أذكر أن البيان الأول تضّمن كل المطالب التي يطالب بها الثوار اليوم. لم تَمضِ ساعات من توزيعنا البيان حتى انقض علينا عناصر أجهزة الأمن واعتقلونا".
لكن هذا الحراك الذي كان لا يزال في بداياته تلقى ضربة بعد عامين (1980) مع اتخاذ نظام حافظ الأسد قراراً بقمع حركة "الأخوان المسلمين" عسكرياً، فسُحق "الإخوان" وسُحقت معهم حركة هيثم المالح و"التجمع الوطني الديموقراطي". أكثر من ذلك ذهب النظام إلى حل كل النقابات في سوريا وزجّ رموزها الأساسيين في السجون، ووضع أنظمة جديدة لآليات الانتخاب داخل النقابات على نحو مكّن النظام من السيطرة على كل هذه النقابات التي أعيد تشكيلها بحلة جديدة خلت من أي نشاط له صلة بالعمل الأهلي، فصار ولاء هذه النقابات "لحزب البعث" فيما اتهمت النقابات السابقة بـ"الرجعية".
بين شاوشيسكو وشامشيسكو
بعد هذه الإجراءات الزجرية نام المجتمع المدني في سوريا لفترة دامت حتى العام 1989 موعد سقوط شاوشيسكو، الذي اعطى أملاً لكل الشعوب المقهورة ولا سيما للنخب التي تضيق ذرعاً بأنظمة الاستبداد، وفي مقدمها المجتمع المدني السوري الذي استأنف حراكه من جديد.
يقول اللبواني: "تشكلت لجان دفاع عن حقوق الانسان. بعض المجموعات بدأت تتحدث عن انتقال الثورة إلى سوريا. اطلقنا على حافظ الأسد لقب "شامشيسكو" ورفعنا شعار "بالأمس شاوشيسكو واليوم شامشيسكو". لكن النظام سَحَق المعارضة من جديد وزجّ بنا في السجون.. وبنى تحالفاً مع الولايات المتحدة الأميركية فور سقوط الاتحاد السوفياتي قام على معادلة واضحة: مشاركة الجيش السوري في التحالف الدولي ضد غزو صدام حسين للكويت، مقابل السيطرة على لبنان سياسياً وأمنياً.
ورغم ذلك لم يَمُت الحراك المدني في سوريا، كما يقول الناشط المهندس فواز تللّو (عضو المجلس الوطني حالياً): "بدأنا نشهد منذ بدايات التسعيينات حركة نقد تصاعدية في المجتمع، خصوصاً داخل المنتديات الثقافية الرسمية حيث كانت تعقد ندوات اقتصادية وثقافية. اعتمدت هذه المنابر كوسيلة للتصعيد التدريجي ضد النظام وصولاً إلى توجيه نقد سياسي واضح تحت شعار "الإصلاح ومحاربة الفساد".
حركة المنتديات الثقافية
أبرز هذه المنتديات كان اثنين. الأول كان يدعى "جمعية العلوم الاقتصادية" التي نظمّت موسماً ثقافياً دام نحو خمسة شهور ألقي خلالها عشرون محاضرة (بصورة اسبوعية) تناولت الشؤون الاقتصادية، لكنها كانت مناسبة للتعبير عن انتقادات واسعة للفساد في النظام. اما أبرز شخصيات هذه الجمعية فكان البروفسور في الاقتصاد الدكتور عارف دليلة الذي استمر ناشطاً في هذا المنتدى حتى العام 2000 رغم تدخل الأمن مراراً لمنع القاء بعض المحاضرات ورغم طرد دليلة نفسه من وظيفته حيث كان عميداً لكلية الاقتصاد في جامعة دمشق.
أما المنتدى الثاني فكان ذاك الذي كان أبرز ناشطيه السوري القومي الاجتماعي السابق عمر أبو زلام. كان منتدى مفتوحاً يحضره بين 20 و40 شخصاً مرتين كل شهر، كما كان يحضره أيضاً عناصر الأجهزة الأمنية من دون أن يتمكن أحد من منعهم من ذلك. يحضرون إلى المنتدى، يجلسون مثلهم مثل المشاركين مع فارق وحيد، أن الآخرين يشاركون في النقاش، أما هم، أي العناصر الأمنية، فيرصدون ويسجلون ما يسمعون.
بقي هذا المنتدى ناشطاً، حسب تللّو، حتى العام 2000 أيضاً حيث تراجع دوره مع ظهور منتديات أوسع وأكثر راديكالية.
لكن مع مرض حافظ الأسد في عامي 1998 و1999 بدأت السلطة الأمنية تتراخى. وصار في إمكان ناشطي المجتمع المدني في دمشق وريفها إجراء نقاشات في المنازل من دون أن يستدعيهم أحد إلى هذا الفرع الأمني أو ذلك.
أصدقاء المجتمع المدني
وسّع الناشطون حراكهم، كما يضيف اللبواني: "إثر تولي بشار سدة الحكم بعد وفاة أبيه عام 2000 ، صدر بيان وقّعه 99 مثقفاً سميناه "بيان الـ 99" تضّمن انتقادات صريحة للنظام. تزامن ذلك مع رسالة وجهها الثمانيني (آنذاك) انطون مقدسي، احد منظري حزب "البعث" المخضرمين، طالب فيها بالاصلاح غامزاً من قناة سيطرة الأمن على مفاصل حياة السوريين، ومركّزاً على "كرامة المواطن" وحقه بالحرية. فأقيل على الفور من وظيفته حيث كان يعمل مترجماً في وزارة الثقافة.
على الأثر بدأ حراك ما سُمّي آنذاك جمعية "أصدقاء المجتمع المدني" التي أطلقها ميشال كيلو وعارف دليلة وعضو مجلس الشعب رياض سيف، الذي قام بزيارة إلى مكتب نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام لإبلاغه نية المجموعة إنشاء جمعية "أصدقاء المجتمع المدني" وإطلاعه على مضمون البيان التأسيسي: "لدى اطلاعه على نص البيان قال خدام لسيف: أي ديموقراطية تتحدثون عنها، هذا انقلاب. هذا عبارة عن بلاغ رقم واحد. نحن أتينا إلى السلطة بواسطة البندقية ولن نخرج منها إلا بالبندقية".
المنتدى في منزل سيف
أثناء خروج رياض سيف من مكتب خدام راودته على الفور فكرة تحويل منزله إلى منتدى مستفيداً من حصانته الدستورية كعضو في مجلس الشعب، التي تجيز له أن يجتمع بالمواطنين والاستماع إلى شكاويهم. اقترح الفكرة على كيلو ودليلة. الأخير شجّعه على ترجمتها لكن كيلو لم يتحمّس لها، رغم انه واصل نشاطه مع دليلة في جمعية "أصدقاء المجتمع المدني" التي تحولت لاحقاً إلى ما سُمّي "لجان إحياء المجتمع المدني" والتي لا تزال قائمة حتى اليوم.
اما سيف فقرر فتح المنتدى في بيته بتشجيع من فواز تللّو ووليد البني وكمال اللبواني، كما يضيف الأخير: "أول لقاء عقد في المنزل حضره 700 شخص، كما وضعنا مكّبرات للصوت خارج المنزل ليتمكن المواطنون من الاستماع إلى المحاضرة. لكن على الأثر زُجّ بنا في السجن، فيما فتح 22 منتدى في كل انحاء سوريا، بينها منتدى سهير الأتاسي (ابنة جمال الأتاسي) الأمر الذي دفع نظام بشار الأسد إلى اغلاق كل هذه المنتديات على الفور، فيما استمر منتدى رياض سيف في منزله لمدة شهرين رغم أنف النظام.
قرار الإقفال هذا اتخذ بعد اجتماع عقده بشار مع مكتب الأمن القومي الذي أبلغه انه "إذا لم نقفل المنتديات الآن فسنضطر بعد ستة شهور إلى انزال الدبابات إلى الشارع لقمع الانتقادات".
بعد شهرين وصلت الموسى إلى منتدى رياض سيف، فتبلغ قراراً من السلطات الأمنية بوقف المحاضرات "فصرنا نجتمع في منزله في السهرات من دون القاء المحاضرات" كما يقول اللبواني: "في السهرة الأولى انخفض عدد المشاركين من 700 إلى 9 أشخاص فقط بسبب الخوف، لكن بعد اسبوعين صار عدد المشاركين يرتفع إلى ان بلغ بعد شهرين 500 شخص وبدأت المنتديات الأخرى تستعد لاستئناف نشاطها رغم قرار المنع. فاتصل عبد الحليم خدام بسيف موجهاًَ إليه أمراً باغلاق منتداه واعداً إياه بتعديل قانون الأحزاب خلال شهرين وبمنحه ترخيصاً فور تقدمه بطلب رسمي لذلك.
دعا سيف أصدقاءه الناشطين إلى منزله واطلعهم على ما دار بينه وبين خدام، معلناً رغبته في طلب تأسيس حزب تحت اسم "حزب السلم الاجتماعي". نصحه الناشطون بعدم الاقفال لكنه أصّر. وبناء على ذلك اصدر المجتمعون بياناً أعلنوا فيه اقفال المنتدى "موقتاً" بانتظار صدور ترخيص رسمي، مع الوعد باعادة فتحه في حال الحصول على ترخيص أو عدمه.
يضيف اللبواني: "لدى توزيعنا البيان على الحاضرين أبدى عناصر الأمن اسفهم "لماذا تقفلون؟" وكان عددهم نحو 30 عنصراً كانوا يحضرون كل الاجتماعات وكنا ننصحهم بتسليمهم شرائط مسجلة بدلاً من ازعاج أنفسهم بكتابة التقارير".
أقفل منتدى سيف. تقدمت المجموعة بطلب ترخيص بعد شهرين، لكن السلطات لم توافق. فتقرر اعادة فتحه في شهر حزيران. لكن اللبواني تمنى على سيف تأجيل هذه الخطوة إلى نهاية الصيف "لأن السجن في فصل الصيف صعب. أنت يا رياض تكتب تاريخ سجنك، أجّل الخطوة بضعة شهور لكي نؤمن بعض المال لعائلاتنا قبل الدخول إلى السجن".
وهكذا كان، استأنف المنتدى عمله في 5 أيلول 2001 بالتزامن مع افتتاح العام الدراسي. تجمّع الشباب في المنتدى وقالوا لسيف بحضور زوجته : "اذا اعتقلت بعد هذه الخطوة سنكمل نشاطنا في المنتدى قُل لزوجتك ذلك كي لا تمنعنا". ثم طرحوا سؤالاً عليه "في حال اعتقلت من يتولى مهمة النطق باسم المنتدى من بعدك؟" اجاب: "كمال اللبواني" . ثم طرح سؤال : وفي حال اعتقال كمال؟ قال :"وليد البني". وفي حال سجن الأخير ايضاً تقرر ان يحّل مكانه حسن السعدون.
"عقد الفساد".. واعتقالات
على الأثر اتصل أحدهم بالدكتور برهان غليون الموجود في باريس (رئيس المجلس الوطني السوري حالياً) ودعاه لالقاء محاضرة في منتدى سيف، فأجاب بالموافقة. وبالفعل حضر غليون في 5 أيلول كان يوم اربعاء والقى محاضرة في المنتدى دامت أربع ساعات فقررت المجموعة طبعها وتوزيع 4 آلاف نسخة منها مع كتيب يتحدث عن "عقد الفساد" الذي أبرمه قريب بشار رجل الأعمال رامي مخلوف حول شركات الخلوي الذي قدر الكتيّب سرقة مخلوف من هذا القطاع ما لا يقل عن 8 مليارات دولار في ذلك الحين هي حق مكتسب للشعب السوري.
في اليوم التالي رفعت الأجهزة الأمنية الحصانة (بدلاً من مجلس الشعب) عن رياض سيف، وحضر عناصر منها إلى منزله واقتادوه إلى السجن. فجاء رد المجموعة سريعاً. تنادوا إلى منزل سيف في اليوم نفسه وقرروا فتح المنتدى بشكل يومي (كان اسبوعياً) واصدروا في اليوم التالي، أي في 7 أيلول، أول بيان موحّد باسم كل فصائل المعارضة في سوريا، وقعته 12 هيئة مدنية وسياسية.
هذا الاجتماع أداره كمال اللبواني كما اتفق مع سيف سابقاً، وعاونه في صياغة البيان هيثم المالح وعارف دليلة ووليد البني وفواز تللّو. فجاء البيان قاسياً ضد النظام. لكن النتيجة كانت وكما كان متوقعاً، اقتياد كل هذه المجموعة إلى السجن (بين 8 و11 أيلول). اعتقل اللبواني والبني ودليلة وحبيب صالح وحسن السعدون يوم السبت، فيما اعتقل حبيب عيسى يوم الثلاثاء، أي في 11 أيلول، وكذلك فواز تللّو الذي اقتيد الى السجن وهو لا يزال يتابع وقائع ضربة برجي نيويورك على شاشة التلفزيون.
سحق "ربيع دمشق"
استفاد النظام من حادثة 11 أيلول مع انضمامه إلى ما سمي الحلف الدولي ضد الارهاب، فوضع هؤلاء الناشطين في زنزانات منفردة ومنع الزيارات عنهم خلال الشهور الستة الأولى. وسَحَق بذلك كل حركة ما سُمّي آنذاك "ربيع دمشق" الذي دام منذ أيلول 2000 إلى أيلول 2001.
النشاط الوحيد الذي استمر بصورة طبيعية كان تحت سقف منتدى الأتاسي، يقول اللبواني مسهباً: " كان يعمل تحت اشراف ضمني من الأجهزة الأمنية، ومن مجموعة من الأشخاص كحسن عبد العظيم الذين يشكلون اليوم ما يسمى "هيئة التنسيق الوطني" ولا تخفى على أحد علاقتهم بالنظام".
سبق ذلك كما يضيف تللّو نشاط مدني حقيقي ومتعدد الأوجه كانت في طليعته جمعية "حقوق الانسان" التي أسسها هيثم المالح بالتعاون مع أنور البني ورازان زيتوني ومهند الحسيني. وضمت لاحقاً ناشطين آخرين مثل نجاتي طيارة. انتقل النشاط تدريجياً إلى الاعلام في دمشق من جهة وفي بيروت من جهة ثانية: "علي فرزات (استشهد في الثورة الحالية) اسس جريدة "الدومري" في سوريا حيث كانت تعنى بنشر مقالات نقدية ضد النظام. فيما انتشرت ظاهرة النشر لمعارضين سوريين في جريدة "النهار" اللبنانية، فبدأ كسر حاجز الخوف بالكلمة.
الانتقادات من داخل النظام
تزامن ذلك مع ظهور انتقادات واسعة للنظام داخل بعض الأوساط "البعثية" كان أبرزها في لقاء عبد الحليم خدام مع فرع حزب "البعث" في جامعة دمشق حيث ظهر نقد علني من "البعثيين" مقرون بالمطالبة باصلاح النظام.
ثم انتشرت العدوى الى مجالس بعثية أخرى خصوصاً في اللاذقية حيث التقى خدام أيضاً خمسة آلاف "بعثي" في مناسبة كان عنوانها تأييد عهد بشار الجديد، واذ به يفاجأ بكّم كبير من النقد الموجّه إلى النظام. حتى بعض الصحف الحكومية كـ"الثورة" التي كان يرأس تحريرها محمود سلامة وهو بعثي قديم فتحت صفحاتها لمعارضين بارزين كتبوا فيها مثل ميشال كيلو وعارف دليلة.
لكن مع قمع "ربيع دمشق" أقيل محمود سلامة من منصبه وقد توفي بعد فترة كَدَراًَ بنوبة قلبية. كما أعيدت السيطرة على كل المرافق من قبل الأجهزة الأمنية. بينما استمر منتدى الأتاسي بنشاطه لفترة من الزمن من دون أن يلامس جوهر المواضيع، فيما سيطر على جمعية "حقوق الانسان" فريق غير فاعل. اما السجناء العشرة الذين اعتقلوا فلم يخرج معظمهم منه إلا في العام 2004. حُكم اللبواني لثلاث سنوات ووليد البني وفواز تللّو خمس سنوات، ورياض الترك سنتان ونصف السنة وحبيب عيسى 5 سنوات اما عارف دليلة فلعشر سنوات (لأنه معارض وعلوي في آن).
كان الاهتمام بهؤلاء الناشطين ممّيزاً في السجن، يقول تللّو: "وضعوني في زنزانة "متر بمترين" تحت الأرض. لا متنفس فيها سوى طاقة صغيرة في الباب لتسليم السجين وجبات الأكل. مكان الحمام إلى جانب موقع الرأس اثناء النوم. وفي بعض الأحيان تعطّل الحنفية بقصد في الحمام لكي لا نسمع شيئاً آخر. بعد فترة وضعوني ومجموعة من المعارضين في زنزانة واحدة لكننا اكتشفنا لاحقاً ان أجهزة تنصت كانت مزروعة هناك.
التواصل مع سمير قصير
بعد خروج اللبواني من السجن في 9 أيلول 2004 كانت الحال مأسوية كما يقول: "فنظّمنا حملة أنا وانور البني وياسين الحاج صالح (كاتب في "النهار) لاطلاق سراح سجناء "ربيع دمشق". جريدة "النهار" ساعدتنا كثيراً في تلك المرحلة كان ياسين الحاج صالح يتواصل على الدوام مع الشهيد سمير قصير وكذلك ميشال كيلو. خصص ملحق "النهار" لأقلام المعارضة السورية. كنا نتواصل مع سمير بواسطة البريد الالكتروني. كان سمير معنا كل يوم. واحدٌ منا. عايش نبض الشارع السوري وتفاصيله تماماً كما عايش حملتنا لمناهضة التعذيب في السجون منذ بداية العام 2005".
في 14 شباط 2005 استشهد الرئيس رفيق الحريري في بيروت. اثر ذلك أقام حلفاء النظام السوري في لبنان تظاهرة شكر وتأييد للنظام في ساحة رياض الصلح في بيروت في 8 آذار. وفي اليوم التالي، أي 9 آذار نظّم النظام نفسه مسيرة مماثلة في سوريا تحية للأسد".
رد الفعل الاول على مسيرتي الحلفاء والنظام جاء من المعارضة السورية يقول اللبواني: "دعونا إلى تظاهرة في 10 آذار في شارع النصر أمام قصر العدل في دمشق للمطالبة بسحب الجيش السوري من لبنان وسوريا أيضاً، شارك فيها الف شخص اعلنوا خلالها ان 44 سنة من قانون الطوارئ صارت كافية.. كفى ظلماً، وعلى الأمن ان ينسحب من حياتنا السياسية كما يجب ان يتفكك النظام الأمني اللبناني ايضاً".
يضيف: "في هذه التظاهرة ظهر الشبيحة الذين نعاني منهم اليوم للمرة الأولى. ذلك ان النظام لم يكلف الأمن بأي دور في هذه التظاهرة وانما كلف نحو عشرة آلاف طالب من الجامعات لضربنا. النظام حرض الأبناء على ضرب آبائهم في الشارع. أليست هذه ثقافة الإرهاب؟".
على الأثر انتقل الناشطون إلى منتدى الأتاسي. اقاموا محاضرات عن "ربيع دمشق" وربيع المنطقة وعن التغييرات المطلوبة في سوريا. وطردوا المخبرين من المكان، فرّد النظام كعادته وبسرعة معتقلاً سهير الأتاسي التي بقيت في السجن حتى أيار 2005.
"سوريا... حرية"
قبل الاعتقال بأيام قليلة عقد اجتماع للأحزاب المعارضة في منتدى الأتاسي حيث تلا كل حزب ورقة أو برنامجاً اعده. اما ورقة "الإخوان المسلمين" الذين لم يكونوا حاضرين في اللقاء فتلاها علي العبدالله (والد الناشط في واشنطن حالياً محمد العبدالله).. فاعتقلوه على الفور.
ثم نظّم الناشطون تظاهرتين الأولى في ساحة المدفع امام سفارة الاتحاد الأوروبي والثانية في قلب دمشق في ساحة يوسف العظمة بوابة الصالحية. رفعت شعارات خلال هاتين التظاهرتين "سوريا.. حرية" فقُمعتا. انتقلتا إلى باب توما من دون أن يعرف الأمن مسبقاً فجنّ جنونه. دامت التظاهرة في هذا المكان لمدة ساعة قبل أن يصل عناصر الأجهزة اليها ويقمعوها. الشعار الأهم الذي رفعه المتظاهرون كان المطالبة باعتقال من قتل الشيخ معشوق الخزنوني (شيخ كردي اغتاله النظام بعد التعذيب) وضمّ ملفه إلى ملف الشهيد رفيق الحريري في التحقيق الدولي.
 
الوثيقة التأسيسية الأولى للجان "احياء المجتمع المدني في سوريا"
ما أشبه اليوم بالأمس، فالمجتمع المدني السوري باق على ثوابته الوطنية والديموقراطية التي طرحها قبل 11 عاما في 14/4/2001 في الوثيقة التأسيسية الأولى، وها هو اليوم يشعل ثورة تاريخية لتحقيقها.. فيما يأتي مقتطفات من هذه الوثيقة...
"تحتاج سوريا اليوم أكثر من أي وقت مضى، الى وقفة موضوعية لاستخلاص دروس العقود الماضية وتحديد معالم المستقبل، بعد ان تردت أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، واضيفت اليها تحديات العولمة والاندماج الاقتصادي، فضلا عن تحديات الصراع العربي الاسرائيلي، التي تطرح على شعبنا وأمتنا مهام النهوض لمواجهتها ودرء أخطارها.
وانطلاقاً من ايمان صادق بالوطن والشعب وما يتوفران عليه من امكانات خلاقة وقوى حية، وحرصاً على التفاعل الايجابي مع اي مبادرة جادة للاصلاح، تمس الحاجة اليوم الى حوار شامل بين جميع أبناء الوطن وفئاته الاجتماعية وقواه السياسية ومثقفيه ومبدعيه ومنتجيه، للمشاركة في الفاعليات التي من شأنها ان تؤدي الى نمو المجتمع المدني المؤسس على حرية الفرد وحقوق الانسان والمواطن، والى بناء دولة حق وقانون تكون دولة حق وقانون، تكون دولة جميع مواطنيها وموطن اعتزازهم، بلا استثناء ولا تمييز. فبلادنا اليوم في حاجة الى جهود الجميع لاحياء المجتمع المدني الذي حرم ضعفه واضعافه، في العقود الماضية، عملية النمو والبناء من قدرات وفاعليات وطنية مهمة وجدت نفسها مجبرة على الابتعاد عن الممارسة الايجابية".
وإذ تنطلق رؤيتنا وممارستنا من اعتبار الانسان غاية في ذاته، واعتبار حريته وكرامته ورفاهيته وسعادته هي هدف التنمية والتقدم، والوحدة الوطنية والمصلحة العام مبدأين ومعيارين لجميع السياسات والممارسات، والمواطنين جميعا متساوين أمام القانون، فلا تمييز بينهم، على أي اعتبار كان، ولا تفاضل في المواطنة؛ ما دام التمييز والتفاضل ينتجان دوماً أصحاب امتيازات ومحرومين من الحقوق، ويبذران، من ثم، بذور التفرقة والشقاق، وينحطان بالعلاقات الاجتماعية الى ما دون السياسة، واذ تنطلق رؤيتنا وممارستنا كذلك من حقيقة ان السياسة الحقة هي التي تنعقد جميع دلالاتها على المصلحة الوطنية/القومية والانسانية لا على المصالح الخاصة والفردية، وان الانجازات الوطنية تنسب الى الشعب لا الى الافراد، وان الفئات الاجتماعية والأحزاب السياسية انما تتحدد بالكل الاجتماعي الوطني ولا تحدده، وأن الشعب هو مصدر جميع السلطات، فاننا نرى في الاصلاح السياسي مدخلاً ضرورياً ووحيداً للخروج من الركود والتردي واخراج الادارة العامة من عطالتها المزمنة، ان المقدمات الضرورية للاصلاح السياسي والتي لم تعد تحتمل التأجيل هي الآتية:
1 وقف العمل بقانون الطوارئ والغاء الأحكام العرفية والمحاكم الاستثنائية وجميع القوانين ذات العلاقة، وتدارك ما نجم عنها من ظلم وحيف. واطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، وتسوية أوضاع المحرومين من الحقوق المدنية وحق العمل بموجب القوانين الأحكام الاستثنائية، والسماح بعودة المبعدين الى الوطن.
2- اطلاق الحريات السياسية، ولا سيما حرية الرأي والتعبير، وقوننة الحياة المدنية والسياسية باصدار قانون ديموقراطي لتنظيم عمل الأحزاب والجمعيات والنوادي والمنظمات غير الحكومية، وخاصة النقابات التي حولت الى مؤسسات دولتية ففقدت كلياً أو جزئياً الوظائف التي انشئت من أجلها.
3- اعادة العمل بقانون المطبوعات الذي يكفل حرية الصحافة والنشر، والذي تم تعطيله بموجب الأحكام العرفية.
4- اصدار قانون انتخاب ديموقراطي لتنظيم الانتخابات في جميع المستويات، بما يضمن تمثيل فئات الشعب كافة تمثيلاً فعلياً، وجعل العملية الانتخابية برمتها تحت شراف قضاء مستقل، ليكون البرلمان مؤسسة تشريعية ورقابية حقا تمثل ارادة الشعب، ومرجعاً أعلى لجميع السلطات وتعبيرا عن عضوية المواطنين في الدولة ومشاركتهم الايجابية في تحديد النظام العام. فان عمومية الدولة وكليتها لا تنجليان في شيء أكثر مما تنجليان في المؤسسة التشريعية، وفي استقلال القضاء.
5- استقلال القضاء ونزاهته وبسط سيادة القانون على الحاكم والمحكوم.
6- احقاق حقوق المواطن الاقتصادية المنصوص على معظمها في الدستور الدائم للبلاد، ومن أهمها حق المواطن في نصيب عادل من الثروة الوطنية ومن الدخل القومي، وفي العمل المناسب والحياة الكريمة، وحماية حقوق الأجيال القادمة في الثروة الوطنية والبيئة النظيفة. فانه لا معنى لتنمية اقتصادية واجتماعية ان لم تؤد الى رفع الظلم الاجتماعي وأنسنة شروط الحياة والعمل ومكافحة البطالة والفقر.
7- ان الاصرار على أن أحزاب "الجبهة الوطنية التقدمية" تمثل القوى الحية في المجتمع السوري وتستنفد حركته السياسية، وأن البلاد لا تحتاج إلى أكثر من "تفعيل" هذه الجبهة، سيؤدي الى ادامة الركود الاجتماعي والاقتصادي والشلل السياسي؛ فلا بد من إعادة النظر في علاقتها بالسلطة، وفي مبدأ الحزب القائد للدولة والمجتمع، واي مبدأ آخر يقصي الشعب عن الحياة السياسية.
8- الغاء أي تمييز ضد المرأة امام القانون.
وبعد، فاننا من منطلق الاسهام الايجابي في عملية البناء الاجتماعي، وفي عملية الاصلاح، نتداعى وندعو الى تأسيس لجان أحياء المجتمع المدني في كل موقع وقطاع، هي استمرار وتطوير لصيغة "اصدقاء المجتمع المدني" علّنا نسهم، من موقع المسؤولية الوطنية، ومن موقع الاستقلال، في تجاوز حالة السلبية والعزوف، والخروج من وضعية الركود التي تضاعف تأخرنا قياسا بوتائر التقدم العالمي. وعلنا نخطو الخطوة الحاسمة التي تأخرت عقوداً في الطريق الى مجتمع ديموقراطي حر سيد مستقل، يسهم في إرساء أسس جديدة لمشروع نهضوي يضمن مستقبلاً افضل لأمتنا العربية".
(دمشق في 14/4/2001)
 
 
كيف حكم "البعث" سوريا ولبنان؟ 7
هكذا تفجّرت ينابيع الثورة في آذار
جورج بكاسيني
فجّر أحرار سوريا ثورة حقيقية نتيجة تراكمات القمع والنزف البعثي التاريخي، إذ أن مجرد اشتعال الشارع في تونس ومصر كان كفيلاً ببزوغ فجر الحرية في أرجائها.
أخطأ النظام في قراءة ما يدور من حوله، فاندلعت شرارة "مقتله" في درعا حيث مارس أقسى أنواع الاستفزاز والهجمية، باعتقاله 15 طفلاً من عائلة واحدة بتهمة كتابة شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" والذي تحوّل فيما بعد الى "أنشودة الثورة"، ولاحقاً اعتقال إحدى المدرسات التي ذهبت مطالبة بإطلاق أطفالها، فكان نصيبها الإهانة وحلق شعرها.
بعدها لم تقوَ كل محاولات القمع والترهيب التي أمعن النظام في ممارستها منذ عقود على مواجهة "الكيمياء" التي أوجدتها الثورة بين السوريين والتي ترجمت في شعارات رفعها الثوار كان أبرزها شعار "واحد واحد واحد...الشعب السوري واحد". شعارات رافقت مسار الثورة واستطاعت تغيير معادلة "فرّق تسد"، التي لطالما شكلّت أحد أهم أعمدة قيام النظام البعثي وسبب استمراره، وأزالت الحواجز والحساسيات المناطقية والطبقية ما شكّل استفزازاً لقواته التي لم توفّر وسيلة وحشية إلا واستعملتها علّها تقطع الطريق على كل مريدي التغيير والمعارضين وتعيدهم عن أهدافهم.
ذلك الطريق الذي فتحه اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في بيروت وانتهى بدحر القوات السورية من على الأراضي اللبنانية، ومن ثم امتد ليزهر ربيعاً في تونس ومصر وليبيا واخيراً سوريا حيث بدأ تحرك الناشطين في أيار من العام 2005 بتأسيس تجمّع ديمقراطي ليبرالي كحزب سياسي معارض شكّل فيما بعد نواة "إعلان دمشق" وتضمن في برنامجه مطالب الثورة اليوم. الإعلان لاقى استحسان المجتمع الدولي، ما جعله الهاجس الأول للنظام كونه أول ورقة إجماع للمعارضة.
أكمل الناشطون تحرّكهم بـ"مأسسة" الإعلان الذي صدر في النصف الأول من العام 2006 باسم "إعلان دمشق - بيروت، بيروت - دمشق"، ما أثار حفيظة النظام الذي شن حملة اعتقالات ووضع على ذمة الاعلان 3 من الناشطين في السجن هم أنور البني وميشال كيلو ومحمود عيسى.
بعدها كرّت سبحة الاعتقالات التي نشطت في موازاة نشاط المعارضين الطامحين للتغيير. غيض من فيض أسّس فيما بعد لانفجار أتى بلباس الثورة الملهمة من الثورات العربية، واول ما ظهر في اعتصام قرّر الناشطون اقامته أمام السفارة المصرية تلاه آخر امام السفارة الليبية وفي الاثنين لوحق المشاركون وقطعت الطرق عليهم لعدم التمكن من بلوغ نقطة الالتقاء.
وشكلت الاعتصامات ومن بعدها التظاهرات مركزا لصناعة الشعارات او ساحة لحرب الشعارات التي ترجمت مطالب الثوار وتوّجت بـ"الشعب يريد اسقاط بشار". تظاهرات ألهبت شوارع درعا ومنها تدحرجت لتشعل كل سوريا.
فتح اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في بيروت الطريق أمام ضغوط دولية قوية على النظام السوري، فقرر المعارضون السوريون تصعيد تحركهم ضد النظام. وما إن أُطلق سراح سهير الأتاسي والمجموعة التي اعتُقلت معها، في أيار 2005 حتى تنادى ناشطو المجتمع المدني لتشكيل تجمع ديموقراطي ليبرالي كحزب سياسي معارض وعلني. لكن قوات النظام سرعان ما حاصرت المكان الذي عُقد فيه أول اجتماع لهذا التجمع ومنعت المشاركين فيه من استكمال اجتماعهم، بعد أن كانوا وضعوا برنامجاً محدداً لمطالبهم التي هي مطالب الثورة اليوم: إلغاء كل المراسيم الصادرة منذ العام 1963 بما فيها الدستور وقانون الأحزاب، والمطالبة بالعودة الى دستور 1949 "مبدئياً" بانتظار إعادة صياغة دستور جديد، والدعوة الى إخراج الجيش من الحياة السياسية.
بدأ الناشطون تسويق هذه المطالب على قاعدة ما سُمّي "إعلان دمشق" الذي أصدروه في اليوم التالي لاغتيال الوزير اللواء غازي كنعان، أي في الشهر العاشر من العام 2005، فقرر كمال اللبواني السفر الى أوروبا، عن طريق لبنان، لتسويق حملة دولية داعمة للتغيير الديموقراطي في سوريا في ضوء التطورات الدولية الجديدة المناهضة للنظام. حمل "إعلان دمشق" الى مجلس العموم البريطاني، ثم الى الاتحاد الأوروبي، وبعده الى الولايات المتحدة الأميركية حيث زار البيت الأبيض والتقى نائب مستشار الأمن القومي جيه دي كروش. وكانت النتيجة إعلان البيت الأبيض عن هذه الزيارة، بناء لطلب الزائر، وإعلان تبنّيه لمطالب الشعب السوري بالتغيير الديموقراطي.
على الأثر عاد اللبواني الى دمشق عن طريق مطار دمشق الدولي، حيث اعتُقل في تشرين الثاني 2005 وبقي في السجن حتى تشرين الثاني من العام 2011. لكن "إعلان دمشق" بقي الهاجس الأول للنظام لأنه حظي باهتمام سوري ولبناني ودولي في آن، خصوصاً إثر انسحاب الجيش السوري من لبنان، ذلك أن هذا "الإعلان" حظي بتوقيع مئات الشخصيات السورية المعارضة، وتبنّي معظم فصائل المعارضة في الداخل وفي الخارج بحيث شكّل أول ورقة إجماع لهذه المعارضة، تماماً كما استُقبل بصورة إيجابية ملحوظة من جانب المجتمع الدولي الذي صار متحمساً لتغيير النظام أو في سلوكه.
"مأسسة" إعلان دمشق
في كانون الثاني 2006، خرج من السجن وليد البنّي ورياض سيف ومأمون الحمصي وحبيب عيسى وفوّاز تلّلو الذين قرروا، كما يقول الأخير، مع ناشطين في الخارج مأسسة "الإعلان" ووضع إطار تنظيمي له قبل أن ينضم إليه لاحقاً "الإخوان المسلمون". وبالفعل، صدر في النصف الأول من العام 2006 ما سُمّي "إعلان دمشق بيروت، بيروت دمشق"، الذي مثّل إعلاناً مُشتركاً لبنانياً سورياً وقّعته مجموعة مثقفين سوريين ولبنانيين، ونصّ على ضرورة إقامة علاقات متكافئة بين البلدين واحترام السيادة اللبنانية وترسيم الحدود.
على الأثر جرّد النظام حملة اعتقالات، فوضع على ذمة هذا "الإعلان" ثلاثة ناشطين في السجن هم أنور البنّي وميشال كيلو ومحمود عيسى.
في نهاية العام 2007، يضيف تلّلو: "وبعد أن استكملنا هيكليتنا التنظيمية لتجمع إعلان دمشق، عقدنا اجتماعاً سرياً في منزل رياض سيف، من دون علم الأجهزة الأمنية ولا حضورها، شارك فيه 170 شخصية تمثل كل الطيف السياسي السوري المعارض الحزبي والمستقل (أكراد وأشوريون وعرب وشيوعيون وقوميون وإسلاميون وليبراليون). دام الاجتماع 14 ساعة انتخبنا في ختامه رئيسة للتجمع هي فداء حوراني ابنة أكرم حوراني، ونائب أول لها علوي من حزب "العمل الشيوعي" هو عبدالعزيز خيّر، ونائب ثان هو عبدالحميد درويش أحد قادة الأكراد. كما انتخبنا أمينين للسر هما أكرم البنّي (مسيحي) وأحمد طعمة خضر (مسلم). كما انتُخبت أمانة عامة تنفيذية مؤلّفة من 17 شخصاً هي مزيج من كل القوى".
بعد هذا الاجتماع، أُعلنت نتائج الانتخاب فطار صواب النظام لأنها المرة الأولى التي تجتمع فيها المعارضة في الداخل وبهذه الطريقة السرية ومن دون علم الأجهزة وتقطع هذا الشوط من الخطوات. لكن "الاتحاد الاشتراكي الناصري" وحزب "العمل الشيوعي" اللذين يعدّان اليوم جزءاً من هيئة التنسيق الوطني جمّدا عضويتهما في "إعلان دمشق" بذريعة خسارتهما بعض المقاعد في الانتخابات التي جرت.
على الأثر، شنّت الأجهزة الأمنية حملة اعتقالات طالت 45 شخصية شاركت في الاجتماع، ولم تترك فرصة إلا ونكّلت فيها بكل من كان له صلة بهذا الاجتماع.
إنفجار وثورة
لكن تطوراً جديداً طرأ على المشهد السوري كانت له آثار مباشرة على حراك المعارضة تمثّل بقرار الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي فكّ العزلة الدولية عن نظام الأسد. إلا أن هذه الخطوة ترافقت، كما يتابع تلّلو، "مع ظهور مشكلات اقتصادية واجتماعية نتيجة تراكمات امتدت عقوداً منذ العام 1991 حيث بدأ النظام سياسة انفتاح اقتصادي لكنها كانت مفصّلة على قياس عائلة الأسد. فبدأت السيطرة على القطاع الخاص بعد أن سيطرت على القطاع العام، الأمر الذي استفحل مع وصول الأسد الإبن الى السلطة العام 2000 حيث صارت السيطرة على أي استثمار أكثر وقاحة من قبل".
يضيف تلّلو: "سيطرت عائلتا الأسد ومخلوف على أبرز القطاعات الاقتصادية في البلاد، بدءاً بالقطاع الخلوي مروراً بسلسلة المطاعم وصولاً الى الشركات الإعلانية أيضاً، ما فتح الباب أمام تحوّل بعض رجال الأعمال الذين شاركوا في هذه الاستثمارات الى مجرد موظفين عند آل الأسد. كل هذه الوقائع شكّلت إرهاصات اقتصادية بدأت تظهر على السطح بين عامي 2009 و2010 من خلال بعض الصراعات التي كانت تحصل بين دوائر النظام والسكان المحليين بسبب مخالفات صغيرة. كنا نتوقع أن الانفجار آت لكن في اتجاه الفوضى، بيد أن انطلاق الثورات العربية ألهم الشعب السوري ورشّد طريقه. انطلقت الثورة في تونس فلم نأخذ الأمر على محمل الجدّ في الأيام الأولى، قبل أن نكتشف أن ثمة أمراً حقيقياً يحصل... حتى صرنا رهائن لشاشات التلفزة لا نقوم بأي عمل سوى متابعة أخبار تونس. عندما انتصرت الثورة هناك شعرنا أن الشعب السوري هو الذي انتصر، خصوصاً أن النظامين التونسي والسوري كانت تربطهما صداقة معروفة".
ويتابع تلّلو: "عندما بدأت الثورة في مصر تركنا كل أعمالنا وصار همّنا الوحيد متابعة ما يجري هناك علّه ينعكس إيجاباً على سوريا. في هذه الأثناء حاولنا إقامة اعتصام بناء على اقتراح من سهير الأتاسي التي دعت ومجموعة معها الى اعتصام أمام السفارة المصرية في دمشق. حضر المئات لكن قوات الأمن منعتنا من الوصول الى مقر السفارة. ثم حصلت محاولات أخرى بعد أيام باءت بالفشل، وآخرها توّجت باعتداء قوات الأمن بالضرب على الأتاسي. انتصرت الثورة المصرية وانطلقت الثورة الليبية، وفور ظهور أنباء عن تنفيذ العقيد معمر القذافي مذبحة في طرابلس تداعينا بواسطة "الفايسبوك" الى اعتصام أمام السفارة الليبية قرب القصر الجمهوري في دمشق (الروضة) في 20 شباط 2010. حضر في اليوم الأول 150 شخصاً بينهم خمسة ناشطين معروفين فقط، أما الباقون فلا نعرفهم، فقد حضروا نتيجة علمهم بواسطة الفايسبوك".
حرب شعارات ضد النظام
في ذلك الاعتصام، ظهرت شعارات تستخدم حالياً في الثورة، أبرزها "يلّلي بيقتل شعبو خاين". في اليوم التالي تداعى الناشطون أنفسهم الى تظاهرة أمام السفارة نفسها أيضاً فاعتدى عليهم عناصر الأمن وفرّقوهم واعتقلوا بعضهم لفترة قصيرة. بالتزامن مع هذه التظاهرة حصلت مشكلة في منطقة الحريقة التجارية قرب سوق الحميدية عندما اعتدى شرطي على أحد تجار المنطقة فقامت تظاهرة شارك فيها ألفا شخص، ما اضطر وزير الداخلية الى الحضور شخصياً لفضّها. في تلك التظاهرة رُفع شعاران: الأول "حراميي" (في إشارة الى وزير الداخلية والشرطة)، والثاني "الشعب السوري ما بينذلّ".
تهيّب النظام هذه التطورات، وبدأ التحسّب من قيام ثورة كتلك التي شهدتها تونس ومصر وليبيا خصوصاً بعد أن أشعل المعارضون حرب الشعارات ضد النظام حيث بلغت يوم انتصار الثورة المصرية في 25/1/2011 حدود كتابة أحد الناشطين الدروز على أحد جدران ساحة المرجة في وسط دمشق شعار "ليسقط بشار الأسد".
في تلك الفترة، يضيف تلّلو، "تصاعدت حملة الشعارات على جدران المدارس، فاضطرت أجهزة الأمن الى فرز عناصر منها لحماية هذه الجدران ليلاً. كما صدرت تعليمات رسمية الى المحال التجارية المختصة بعدم بيع بخّاخات الألوان (سبراي) إلا بواسطة الهويات الشخصية، فيما بدأ الثوار يكتبون شعارات في بعض المناطق وأبرزها درعا على ظهور الكلاب الشاردة، ما كان يضطر قوات الأمن الى مطاردة الكلاب بين حي وآخر للنيل منها.
في هذا الوقت أيضاً، جرت محاولات للاعتصام احتجاجاً على شركة "سيرياتيل" التي يملكها رامي مخلوف بدعوة من سهير الأتاسي لكنها فُرّقت بالقوة".
يضيف تلّلو: "بدأت علامات القلق تبدو على النظام من خلال سلوك أجهزته الأمنية في الشارع حيث اقتبست دروساً من الثورات التونسية والمصرية واليمنية التي كانت قد بدأت للتوّ، وبنت استراتيجيات جديدة للقمع ما زالت تُستخدم حتى اليوم من خلال تجنيد كل الزعران والبلطجية (الشبيحة) وربطهم بمسؤولي الأجهزة في كل منطقة؛ فيما نفّذت مجموعة من السجناء السياسيين مثل كمال اللبواني وهيثم المالح وأنور البنّي إضراباً عن الطعام احتجاجاً على استمرار اعتقالهم، فأُطلق في اليوم التالي سراح المالح بعفو".
إعتصامات واعتداءات
في 15 آذار (2011)، تداعت مجموعة من الشباب والصبايا الى تظاهرة أمام الجامع الأموي في دمشق، عبر "الفايسبوك"، فاعتدت عليها قوات النظام قبل وصولها الى الجامع، فانتقلت الى مكان آخر قريب وسيّرت تظاهرة لمدة ربع ساعة فقط شارك فيها العشرات، قبل أن تصل قوات الأمن وتعتقل بعضهم مثل صبر درويش (علوي) وصبية تدعى مروى غميان وشقيقتها راما.
في اليوم التالي، أي في 16 آذار، نظّم أهالي وأصدقاء المعتقلين السياسيين المضربين عن الطعام اعتصاماً أمام وزارة الداخلية في دمشق شارك فيها 150 شخصاً معظمهم من الذين شاركوا في تظاهرات السفارتين المصرية والليبية، بينهم سهير الأتاسي ووليد البنّي وكاترين تلّلي (مسيحية من صيدنايا) ورياض سيف ومنتهى سلطان باشا الأطرش وفوّاز تلّلو، فاعتُقل 52 شخصاً منهم بعد الاعتداء عليهم بالضرب، وأصدرت وزارة الداخلية بياناً وصفت فيه بعض المشاركين في هذه التظاهرة بـ"المندسّين"، فيما لم يجد النظام رداً آخر على هذه الحركة سوى تسيير تظاهرة مؤيدة له.
في اليوم التالي، أي في 17 آذار، شعر المعارضون باستفزاز شديد من النظام، خصوصاً بعدما حوّل المعتقلين الـ52 الى المحاكم بدلاً من إطلاق سراحهم رغم وجود نساء وأطفال بينهم، فتنادى الناشطون عبر الفايسبوك لتسيير تظاهرة كبيرة في اليوم التالي أي في 18 آذار، بعد صلاة الجمعة. ولم يجد النظام نفسه يومذاك إلا محاصراً بمجموعة تظاهرات بدءاً من باحة الجامع الأموي في دمشق مروراً ببانياس وبنّش في إدلب ودرعا التي شهدت التظاهرة الأكبر بعد أن تلقّت صفعة استفزازية قوية من قوات النظام مطلع آذار.
ويروي تلّلو هنا أنه "قبل عشرين يوماً من موعد هذه التظاهرة في درعا، اعتقلت قوات الأسد 15 طفلاً من عائلة أبا زيد بتهمة كتابة شعارات "الشعب يريد إسقاط النظام" على جدران إحدى مدارس درعا. والمعروف أن ابن خالة بشار الأسد رئيس فرع الأمن السياسي في درعا عاطف نجيب هو الذي أمر باعتقالهم، قبل أن يعتقل إحدى المدرّسات من العائلة نفسها لأنها ذهبت لتسأل عن أولادها المعتقلين في مكتب عاطف نجيب نفسه، فكان نصيبها الإهانة وحلق شعرها. على الأثر، تجمّع أهالي الطلاب المعتقلين وتوجّهوا الى مكتب نجيب للمطالبة بإطلاق سراح أولادهم، فأجابهم الأخير: "إنسوا أولادكم.. وهاتوا نساءكم فنحن كفيلون بإنجاب أولاد لكم غيرهم". فكانت تظاهرة درعا في 18 آذار الردّ البديهي على هذا الموقف، لا بل الشعلة الأكبر التي ساهمت في اندلاع الثورة، خصوصاً بعد أن تعرّضت هذه التظاهرة لإطلاق النار مما دفع القرى المجاورة الى التظاهر في اليوم التالي دعماً لدرعا، فانقسمت أيام الأسبوع بين يوم للقتل وآخر للتشييع وهكذا دواليك، الى أن صارت القرى المجاورة والبعيدة تخرج الى الشارع متضامنة مع درعا وأبرزها منطقة الحجر الأسود في دمشق يوم 22 آذار".
موعد للتظاهرة.. والتشييع
وهكذا كرّت السبحة، وصار كل يوم جمعة موعداً لتظاهرة، وبعده كل يوم سبت موعداً لتشييع يتحوّل الى تظاهرة، الى أن جاء شهر رمضان الكريم في آب 2011 فصارت التظاهرات يومية، واندلعت الثورة في كل أنحاء سوريا.
وكانت أعداد الثوار قد بدأت تتصاعد منذ أواخر نيسان، خصوصاً في المناطق الجنوبية كدرعا، وفي ريف دمشق الملاصق لدمشق، حيث بلغ بطش النظام ذروته يوم الجمعة العظيمة حيث قتل 125 متظاهراً سلمياً، قبل أن تبدأ انشقاقات محدودة في الجيش بالظهور رداً على إنزال النظام الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة والشبيحة الى الشارع في مواجهة الناس. بدأ العمل المسلّح للمعارضة عملياً في حزيران حيث ظهر أول انشقاق في إدلب ثم امتد بعد نحو شهر الى حمص، وبدأت ترتفع وتيرة الانشقاقات وتتشكل سرايا وكتائب في العديد من المناطق من جنود منشقين ومدنيين للدفاع عنها وتحريرها حتى عمّت ظاهرة "الجيش السوري الحر" معظم أنحاء سوريا في أيلول.
أما اللافت للانتباه في مسار الثورة في سوريا، بحسب أكثر من ناشط معارض، أنها قرّبت جداً بين المواطنين بعدما أمعن النظام في سياسة "فرّق تسد"، فزالت الحساسيات الطبقية والمناطقية، وصار الناس يحبون بعضهم بعضاً. لم يقوَ النظام على مواجهة هذه "الكيمياء" الجديدة بين السوريين، كما لم يقوَ على مواجهة شعاراتهم التي يقول تلّلو إنها كانت تواجه على الدوام بشغب من قوات النظام: فمن الشعارات الأولى التي أطلقها الثوار "الله.. سوريا.. حرية وبس"، كان يردّ عليها مؤيدو النظام بشعار "الله.. سوريا وبشار وبس". ثم تطور شعار المعارضين الى "الشعب يريد إسقاط النظام" بعد شهر تقريباً من انطلاق الثورة قبل أن يتحوّل بعد أربعة شهور تقريباً الى "يلعن روحك يا حافظ... وأبو حافظ يلعن روحك". كما لم تخلُ تظاهرة من شعار "الشعب السوري واحد.. واحد واحد واحد". فلم يُرفع شعار طائفي واحد خلال كل هذه الفترة كما لم يردد المعارضون أغنية طائفية واحدة بخلاف ما ادعاه أهل النظام، فيما عمّت أهازيج الثورة الشعبية المناطق كافة وصار مطربو الأحياء نجوماً للثورة التي لعبوا دوراً كبيراً فيها.
هذه الشعارات أقلقت قوات النظام على نحو غير مسبوق الى حد أنها اضطرت في البداية الى مفاوضة بعض المتظاهرين بعدم استعمال شعار "الشعب يريد"، الى أن صاروا مضطرين للقبول به شرط أن لا يستخدم المتظاهرون شعار "يلعن روحك يا حافظ". كما أن أهالي المناطق يتندّرون بقصص ساخرة عن قوات النظام مثل أن بعضها عندما لاحظ شعاراً على أحد الجدران يقول "يسقط ابن بائع الجولان" سارع الى إضافة حرف "لن" في بدايته بحيث صار الشعار "لن يسقط ابن بائع الجولان".
 
 
"إعلان دمشق" للتغيير الوطني الديموقراطي
عقد المجلس الوطني الموسع لإعلان دمشق دورته الأولى يوم السبت في 1/12/2007، وشارك فيها 163 عضواً من أعضائه المنتخبين والمنتدبين من مختلف القوى والهيئات ومن الشخصيات الوطنية المستقلة المنضوية في إطار إعلان دمشق للتغيير الوطني الديموقراطي.
استمرت أعمال المجلس يوماً كاملاً بدأت باختيار الأستاذ عبد الحميد درويش لإدارة الجلسة حتى انتخاب مكتب رئاسة المجلس والذي تألف من:
فداء حوراني (رئيساً) - عبد الحميد درويش (نائباً للرئيس) - عبد العزيز الخير (نائباً للرئيس) - أحمد طعمة (أميناً للسر) - أكرم البني (أميناً للسر).
تلا ذلك مناقشة وإقرار مشاريع التقارير المقدمة:
1 - مشروع تقرير حول نشاطات الفترة المنصرمة.
2 - مشروع البيان الختامي.
3 - مشروعا البنية التنظيمية واللائحة التنظيمية.
ثم انتخب المجلس في نهاية أعماله سبعة عشر عضواً للأمانة العامة هم السادة :
رياض سيف - علي العبد الله - نواف البشير - رياض الترك - موفق نيريبة - سليمان شمر - سمير نشار - ياسر العيتي - جبر الشوفي - ندى الخش - عبد الغني عياش - وليد البني - غسان نجار - عبد الكريم الضحاك، وثلاثة أعضاء يمثلون الجبهة الديموقراطية الكردية والتحالف الديموقراطي الكردي والمنظمة الآشورية الديموقراطية.
نص البيان
"إن المجلس الوطني لإعلان دمشق، إذ انعقد في دورته الأولى بصيغته الجديدة الموسعة التي ضمت تيارات أساسية في مجتمعنا السوري من قوميين ويساريين وليبراليين وإسلاميين ديموقراطيين، يرى أن الأخطار الداخلية والخارجية باتت تهدد السلامة الوطنية ومستقبل البلاد أكثر من أيّ وقت مضى، وأن سياسات النظام ما زالت مصدراً رئيساً لتفاقم هذه الأخطار، من خلال استمرار احتكار السلطة، ومصادرة إرادة الشعب، ومنعه من ممارسة حقه في التعبير عن نفسه في مؤسسات سياسية واجتماعية، والاستمرار في التسلّط الأمني والاعتداء على حرية المواطنين وحقوقهم في ظل حالة الطوارئ والأحكام العرفية والإجراءات والمحاكم الاستثنائية والقوانين الظالمة بما فيها القانون / 49 / لعام / 1980 / والإحصاء الاستثنائي لعام / 1962 /، ومن خلال الأزمة المعيشية الخانقة والمرشحة للتفاقم والتدهور، التي تكمن أسبابها الأولى في الفساد وسوء الإدارة وتخريب مؤسسات الدولة، وذلك كله نتيجة طبيعية لحالة الاستبداد المستمرة لعقود طويلة.
يرى المجلس أن الإعلان دعوة مفتوحة لجميع القوى والأفراد، مهما اختلفت مشاربهم وآراؤهم السياسية وانتماءاتهم القومية أو عقائدهم أو وضعهم الاجتماعي، للالتقاء والحوار والعمل معاً من أجل الهدف الجامع الموحّد، الذي يتمثّل بالانتقال بالبلاد من حالة الاستبداد إلى نظام وطني ديموقراطي.
وإذ ينطلق المجلس من روح وثائق إعلان دمشق جميعها، ومن التجربة التي مررنا بها في العامين الماضيين، يؤكّد على المبادئ التالية:
- إن التغيير الوطني الديموقراطي كما نفهمه ونلتزم به هو عملية سلمية ومتدرّجة، تساعد في سياقها ونتائجها على تعزيز اللحمة الوطنية، وتنبذ العنف وسياسات الإقصاء والاستئصال، وتشكّل شبكة أمان سياسية واجتماعية تساعد على تجنيب البلاد المرور بآلام مرت وتمر بها بلدان شقيقة مجاورة لنا كالعراق ولبنان وفلسطين، وتؤدي إلى التوصّل إلى صيغ مدنية حديثة توفّر الضمانات الكفيلة بتبديد الهواجس التي يعمل النظام على تغذيتها وتضخيمها وتحويلها إلى أدوات تفرقة بين فئات الشعب، ومبرّراً لاستمرار استئثاره بالسلطة.
- يقوم هذا التحوّل الهام على إعادة بناء الدولة المدنية الحديثة، التي تتأسّس على عقد اجتماعي يتجسّد في دستور جديد، يكون أساساً لنظام برلماني، ويضمن الحقوق المتساوية للمواطنين ويحدّد واجباتهم، ويكفل التعددية وتداول السلطة، واستقلال القضاء وسيادة القانون، واحترام حقوق الإنسان والمواطن والالتزام بجميع الشرائع الدولية المتعلقة بها.
- هدف عملية التغيير هو إقامة نظام وطني ديموقراطي عبر النضال السلمي، يكون كفيلاً بالحفاظ على السيادة الوطنية، وحماية البلاد وسلامتها، واستعادة الجولان من الاحتلال الإسرائيلي. ونحن إذ ندرك أن عملية التغيير هذه تهدف أيضاً إلى الحفاظ على الاستقلال الوطني وحمايته، فإنها تحصّن البلاد من خطر العدوان الصهيوني المدعوم من الإدارات الأمريكية والتدخّل العسكري الخارجي وتقف حاجزاً مانعاً أمام مشاريع الهيمنة والاحتلال وسياسات الحصار الاقتصادي وما تفرزه من تأثير على حياة المواطنين ومن توترات وانقسامات خطيرة. وبما أن هذا الموقف لا يتناقض مع فهمنا لكون العالم أصبح أكثر تداخلاً وانفتاحاً، فينبغي ألا نتردد في الانفتاح والإفادة من القوى الديموقراطية والمنظمات الدولية والحقوقية فيما يخص قضيتنا في الحرية والديموقراطية، وخصوصاً في المسائل المتعلقة بحقوق الإنسان.
- الديموقراطية هي جوهر هذا النظام، بمفهومها المعاصر الذي توصّلت إليه تجارب شعوب العالم، والتي تستند خصوصاً إلى مبادئ سيادة الشعب عن طريق الانتخاب الحر وتداول السلطة، وإلى حرية الرأي والتعبير والتنظيم، ومبادئ التعددية والمواطنة وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، واستقلال السلطات وسيادة القانون.
- تتعلّق قضية الديموقراطية بشكل وثيق بقضية التنمية، ويؤثّر تقدّم إحداهما مباشرة في تقدّم الأخرى. إن التنمية الإنسانية هي شكل التنمية ومفهومها الأكثر عمقاً ومعاصرةً، من حيث أن مركزها وغايتها هو الإنسان وتنميته من كلّ النواحي: الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية والفكرية.
- سوريا جزء من الوطن العربي، ارتبط به في الماضي وفي الحاضر، وسوف يرتبط مستقبلاً، بأشكال حديثة وعملية تستفيد من تجارب الاتحاد والتعاون المعاصرة. وعلى أساس ذلك، نحن نرى أن مسار الاستقلال الوطني والتقدم والديموقراطية المعقد حولنا مرتبط بمسارنا نفسه وبشكل متبادل، وسوف يكون له تأثير هام في مستقبلنا الخاص والمشترك.
- عملية التغيير هذه تتضمن احترام كل مكونات الشعب السوري وحقوقه وتأسيسها على قاعدة المساواة التامة أمام القانون، وإيجاد حل ديموقراطي عادل للقضية الكردية، وضمان حقوق الآشوريين (السريان)، في إطار وحدة سوريا أرضاً وشعباً.
يرى المجلس أن الوقت الذي يفصلنا عن التغيير الوطني الديموقراطي، سواء كان قصيراً أم طويلاً، ينبغي أن يملأه العمل الدؤوب والقادر وحده على تخفيف آلام الانتقال أو تجاوزها، من أجل تعزيز حالة الائتلاف، وتحويله إلى حالة شعبية قادرة على فرض التحوّل وشروطه الداخلية، إضافة إلى تطوير التربية الديموقراطية واحترام الرأي الآخر ومبدأ الحوار، وإذ يدرك المجلس أنه لا يحتكر العمل المعارض في البلاد، وأن صيغاً وأشكالاً مختلفة للتعبير عن إرادة الشعب موجودة وسوف تظهر دائماً وفي أيّ موقع أو زمان.. ومع استمرار النظام بنهجه العاجز عن الإصلاح والرافض له، فإن المجلس مصمم على أن يدعو الشعب السوري إلى نضال سلمي وديموقراطي متعدد الأشكال، يؤدي إلى تحسين أوضاع البلاد وقدرتها على استعادة قوتها ومنعتها.
يرى المجلس أن الحوار الوطني الشامل والمتكافئ، الذي يبحث في آليات وبرنامج الانتقال إلى الديموقراطية والعودة إلى سيادة الشعب وتداول السلطة، والخطى العملية اللازمة لذلك، هي الطريق الآمن إلى إنقاذ البلاد، وعودتها إلى مسار النهوض والتقدم".

ملف خاص..200 يوم على حرب غزة..

 الأربعاء 24 نيسان 2024 - 4:15 ص

200 يوم على حرب غزة.. الشرق الاوسط...مائتا يوم انقضت منذ اشتعال شرارة الحرب بين إسرائيل و«حماس» ع… تتمة »

عدد الزيارات: 154,581,155

عدد الزوار: 6,956,030

المتواجدون الآن: 64