قبرص اليائسة بانهيار منظومتها المالية أقحمت نفسها في لعبة جيوسياسية

تاريخ الإضافة الأربعاء 27 آذار 2013 - 6:37 ص    عدد الزيارات 701    التعليقات 0

        

 

 قبرص اليائسة بانهيار منظومتها المالية أقحمت نفسها في لعبة جيوسياسية
محمد خلف *
بعد رفض البرلمان القبرصي تمرير الاتفاق الإنقاذي مع الاتحاد الأوروبي بصيغته الأولى، دخلت أزمة الديون مرحلة جديدة خطيرة، وإذا لم تتمكن الحكومة القبرصية من العثور وبشكل سريع على المبلغ المطلوب وهو5.8 مليار يورو، فأنها لن تحصل على العشرة مليارات يورو الموعودة بها من شركائها الأوروبيين، عدا ذلك سيوقف البنك المركزي الأوروبي إقراض المصارف المتعثرة في الجزيرة ما سيؤدي إلى إفلاسها وانهيارها حالما تفتح أبوابها أمام الزبائن، وسمحت لهم بسحب أموالهم، وفي هذه الحالة لن يتبقى أمام حكومة قبرص غير الخروج من منطقة اليورو والشروع مجدداً بطبع عملتها النقدية القديمة الباوند.
وفي رأي الخبير في شؤون الجزيرة في «لندن سكول اوف ايكونوميكس» (London School of Economics) جيمس كير- لينديز فإن « قبرص كانت دائماً مشكلة عصية، ولكن وضعها الحالي هو الأعقد والأصعب قياساً إلى المرات السابقة». وأضاف: «من دون مبالغة تقف قبرص على حافة كارثة فعلية محدقة، ربما لا يريد قادتها اتخاذ قرارات ولكنهم يعون جيداً انهم يجب أن يقوموا بذلك». وقال الخبير سميون ماتسي إن «خطة مجموعة اليورو وجهت ضربة قاضية إلى القطاع المصرفي، ولن يثق احد بقبرص بعد اليوم مهما حصل»، فيما قال الخبير كوستاس ابوستوليديس إن الحكومة «ذهبت للتفاوض من دون تحضير، كان علينا ألا ننجر وراء خداع أوروبا». وأعرب حاكم المصرف المركزي القبرصي بانيكوس ديميترياس عن خشيته من عدم استعادة ثقة المودعين «لأننا أخلّينا بالعقد المبرم معهم».
فهل يعتبر الاتفاق الأوروبي القبرصي حبل نجاة نهائياً للارنكا؟ وهل ما زال ممكناً في ظله التوجه نحو روسيا؟ يرى المحللون الغربيون أن السيناريو الأسوأ هو أن تتجه نيقوسيا إلى موسكو طلباً للنجاة، في وقت اعتبرت الصحف الروسية أن لا جدوى من استخدام أموال دافعي الضرائب الروس لإنقاذ مصارف يقوم موظفوها الفاسدون بغسيل أموال تسرقها جماعات الجريمة المنظمة من الاقتصاد الروسي، إلا انه على الرغم من السياسة التي تميل لروسيا اكثر مما للغرب التي تنتهجها قبرص الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي، لا يبدي الكرملين أي استعداد أو رغبة في المساعدة أو تقديم العون لأصدقائه القبارصة وقرر تركهم حتى الآن وحدهم يصارعون الموجات العاتية أملاً بالنجاة من الغرق.
 حبل النجاة الروسي
القبارصة الذين توجه وزير ماليتهم ميخائيليس ساريس إلى موسكو، يريدون من بوتين قرضاً جديداً بقيمة 5 مليارات يورو، وتمديد فترة تسديده وبفوائد اقل من القرض السابق الذي قيمته 2.5 مليار يورو. إلا أن خبراء المال الروس يرون أن منح قبرص قرضاً آخر سيجعلها في وضع لا تستطيع معه خدمة هذه الديون، ما سيدفع صندوق النقد الدولي هو الآخر إلى وقف تقديم القروض لعدم القدرة على تسديدها، وفي هذه الحالة سيكون على قبرص أن تبيع بعض أصولها وممتلكاتها، وهنا يوجد احتمالان، الأول أن تقدم روسيا الأموال المطلوبة مقابل حقول الغاز المكتشفة في البحر المتوسط في المنطقة الواقعة بين قبرص وإسرائيل، ولكن هذه المنطقة بما فيها من مكامن غازية تحولت إلى بؤرة توتر ومركز صراع وتجاذب جيوبوليتيكي ناجم عن عدم تسوية النزاع حول حدود المياه الإقليمية مع تركيا؛ فيما الثاني يتمثل في أن تقوم روسيا بشراء المصارف القبرصية الكبرى مقابل سعر رمزي قدره يورو واحد وتمويلها بضخ على سبيل المثال مبلغ قيمته 4 مليارات يورو، والمقصود هنا بالتحديد المصرف القبرصي الثاني من حيث الحجم «سايبروس بابيلار بنك» (Cyprus Popular Bank) الذي يمكن نقل ملكيته إلى «بنك غاز بروم» الروسي، ولكن هذا الحل يتناقض في الجوهر مع هدف الاتفاق الإنقاذي المتمثل في تخفيض حجم القطاع المصرفي الفائض عن الحاجة في قبرص؛ من دون تجاهل خطر أن الغرب سيتذرع بالدور الروسي لحجب مساعدته لأنه بدلاً من إنقاص الأموال الروسية في البلاد الذي يطالب به سترتفع هذه أضعافاً كثيرة.
ومن غير المعروف ما إذا كانت روسيا ترغب فعلاً في شراء مصرف من قطاع مالي وصل مستوى الثقة به إلى الصفر، فالمصارف واقعة تحت رحمة المصرف المركزي الأوروبي الذي يمكنه وبسرعة غير معهودة دمغ حنفية الدفع بالشمع الأحمر.
ويرفض المحللون الروس الطروحات التي روجت لها بعض الأوساط خلال الأيام المنصرمة عن إمكانية خوض روسيا مغامرة للحصول على موقع قدم في القاعدة العسكرية البحرية في قبرص بدلاً من ميناء طرطوس السوري الذي تستخدمه بواخرها الحربية في المنطقة للتزود بالإمدادات، ويقولون إنها تدخل في فضاء التجاذبات الإعلامية و السياسية. والجدير بالتذكير أن الفيتو التركي أبعد ولا يزال يبعد ومنذ عقود قبرص عن نيل العضوية في الحلف الأطلسي، وبالتأكيد أن الولايات المتحدة وإسرائيل وبريطانيا التي لها قاعدتان عسكريتان في قبرص، تعارض كلها أي وجود عسكري لروسيا في الجزيرة المقسمة. وكان بوتين وصف الخطوة القبرصية بأنها «خطيرة وغير محترفة وجائرة»، وهذا التنديد القوي في مضمونه يعود إلى أن نصف الودائع المصرفية البالغة نحو 70 مليار يورو تعود لأجانب، من بينها 20 مليار يورو لمودعين روس، يضاف إليها 12 مليار دولار من أرصدة المصارف الروسية في مؤسسات قبرصية.
 تراجع قبرص أمام أوروبا
الاتحاد الأوروبي الذي يتابع عن كثب ويرصد تحركات وردود أفعال الكرملين، سيكثف من ضغوطه على الرئيس نيكوس اناستاسياديس في محاولة لإقناعه إن لم يكن إجباره، على قبول فكرة فرض ضريبة نسبتها 15.28 في المئة على كل الودائع المالية التي تزيد قيمتها على 100 ألف يورو، ووفقاً للبيانات الرسمية الصادرة في كانون الثاني (يناير الماضي)، فإن حصة الودائع المالية الأعلى من مبلغ 100 ألف يورو تصل إلى 53 في بالمئة من حجم كل الودائع، وسيكون المتضرر من هذه الخطوة بالدرجة الأساسية الروس لكونهم يمتلكون الودائع الأعلى حجماً، مع أن هناك معلومات شبه مؤكدة مفادها بأن بعض اكبر المودعين الروس تمكنوا من تحويل أموالهم إلى مصارف أخرى في العالم قبل أسابيع قليلة، ما يتيح وفق الخبراء للحكومة التصرف بجرأة اكبر في اتخاذ القرارات والإجراءات، ولعل اكثر ما يثير دهشة القادة الأوروبيين وحيرتهم هو أن المسؤولين القبارصة يولون اهتمامهم الأكبر وعنايتهم ليس لمواطنيهم والبحث عن فرص لتأمين وحماية أموالهم، بل للأجانب. ويعزو محللون غربيون ذلك إلى أن القبارصة انفسهم يستفيدون ويربحون من الروس والبريطانيين وغيرهم من مواطني دول العالم الأخرى مبالغ كبيرة من خدمات السمسرة التي يقومون بها. ويشير الخبير المالي في «أوني كريدت بنك - فرع قبرص» أريك نيلسن إلى «أن المودعين القبارصة يحققون مداخيل اكبر من ودائعهم المصرفية مقارنة بالدول الأخرى في منطقة اليورو»، موضحاً «أن المواطن القبرصي أو الذي من أصول أجنبية ممن قام بإيداع مبلغ 100 ألف يورو خلال عام 2008 يكون قد حصل حتى الآن على مبلغ يزيد 15 ألف يورو عما لو كان أودع أمواله في مصارف في إيطاليا أو إسبانيا أو مبلغاً يزيد 32 ألف يورو عما في ألمانيا».
 الخروج الحتمي من اليورو
وهذه الحال وحدها كافية لدفع شركاء قبرص الأوروبيين وإجبارهم على عدم تحميل دافعي الضرائب في بلدانهم نفقات إضافية من اجل إنقاذ هذا النموذج المالي الذي ينهار على الرغم من انه يسبح في بحيرة من مئات مليارات اليورو تتجاوز بعشرة أضعاف الناتج القومي الإجمالي في البلاد.
إن انهيار النظام المصرفي القبرصي يعود أيضاً إلى كون مسؤوليه استثمروا جزءاً كبيراً من أموالهم في اليونان وخسروها بفعل إعادة هيكلة الديون اليونانية، ويرى العدد الأكبر من خبراء المال الغربيين «أن محاولة إنقاذ المصارف القبرصية يشبه بشكل تام العمليات الجارية لإنقاذ المصارف اليونانية من الإفلاس». ووفقاً لما ذكرته وكالة «رويترز»، فإن المصرف المركزي الأوروبي مقتنع بأنه قادر على ترك قبرص تخرج من منطقة اليورو ولديه الآليات والوسائل والأموال التي يمكن عبرها منع توسع الأزمة وامتدادها إلى دول أخرى في منطقة اليورو.
إلا أن العـــديـــد من الخبراء المصرفيين والاقتصاديين يؤكدون أن الرئيس اناستاسياديس لن يقف مكتوف اليدين وسيسعى جاهداً إلى الحفاظ على وضع قبرص كمركز مالي دولي والتمسك بالامتيازات التي يوفرها كمنطقة «اوفشور» يتأسس عليها قوام كل المنظومة الاقتصادية في البلاد، وتدر الخيرات عليها وعلى مستخدميها، لكنه لاتخاذ بعض الخطوات على هذا الطريق سيحتاج بالتأكيد إلى موافقة البرلمان الذي تحول إلى ساحة للمزايدات والتنافس على ترديد الشعارات الوطنية المملة الفارغة في عجز مريع عن تقديم الحلول البديلة الضرورية للأزمة.
إن اكثر ما تحتاج إليه قبرص الآن هو المزيد من الأصدقاء ولكنها بدلاً من ذلك خسرت أصدقاءها القدماء، إذ حتى فرنسا الرافضة خطوة فرض الضرائب على الودائع، تصر على تحجيم القطاع المالي وتخليص المصارف من الأموال غير الشرعية.
إن الإجازة الإجبارية التي أخذتها المصارف القبرصية ستبقى سارية هذا الأسبوع ما سيوفر الوقت ولو القليل للبحث عن مخرج جديد للأزمة، لكن ليس بمقدور أي دولة أن تواصل حياتها اليومية العادية ومصارفها في إجازة إجبارية.
ومن المرتقب أن يعقد المصرف المركزي الأوروبي اجتماعه المقبل في 28 آذار (مارس) الجاري للبحث في تقديم مساعدة عاجلة للمصارف والنتيجة المرجحة هي أن ذلك لن يحصل. ويبحث البرلمان في وضع إجراءات استثنائية من شأنها أن تمنع النظام المالي من الانهيار، احدها يتمثل في تحديد سقف معين للأموال التي سيسحبها المودعون، وخطة لتصفية المصارف المفلسة. وتقول مصادر رسمية «إن احد الأساليب التي ستستخدم لإطفاء الحريق هو وضع يد الدولة على صناديق التأمينات التقاعدية والشركات والمؤسسات التي تشارك فيها الدولة وتصل إلى مبلغ يتراوح ما بين 3- 4 مليارات يورو ومن ثم تقوم بتحويلها إلى سندات قروض حكومية. وذكرت جريدة «كابيتال» المعنية بشؤون المال والأعمال الصادرة في صوفيا «أن الإجراء الآخر في حزمة الإجراءات المرتقبة يقوم على تصفية اثنين من اكبر المصارف وهما «Bank of Cyprus» و»Cyprus Popular Bank» وتحويل ديونهما إلى مصارف منفصلة ودمجهما في مصرف جديد سليم وأصغر. وتتحدث إشاعات عن عرضهما على المصرف الروسي «VTB» الذي اكد من جانبه أنه غير مهتم على الإطلاق بهذا العرض. والأمر الأكثر ترجيحاً هو أن الروس اختاروا لعبة الانتظار والترقب بغية معرفة حجم المبلغ الذي سيقدمه الأوروبيون، وفي حال عدم كفايتها سيتحركون للتدخل، ولكن لا يبدو أن هذا قريب الحدوث.
يبدو أن القبارصة اليونانيين غارقون في أحلام اليقظة ومتعلقون بأمل أن تتحول بلادهم إلى اهم مصدر للطاقة في أوروبا، متناسين أن استخراج الغاز من مكامنه في البحر المتوسط لن يبدأ قبل أن تمر سنوات عدة مقبلة، وحتى لو أنهم قاموا باختزال الوقت وتسريع إجراءات التنقيب والاستخراج بهدف حل مشكلات البلاد المالية، فإنهم سيرفعون من منسوب التوتر مع القبارصة الأتراك الذين يريدون تقاسم الغاز وعوائده المالية. هذا في وقت يؤكد خبراء الشركات النفطية والغازية الغربية أن استخراج الغاز سيكون عملية بطيئة وباهظة الثمن وليس كما تتوقعه نيقوسيا».
 * كاتب وصحافي عراقي مقيم في صوفيا 
 

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024..

 الأحد 28 نيسان 2024 - 12:35 م

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024.. حول التقرير.. ملخصات التقرير … تتمة »

عدد الزيارات: 154,781,781

عدد الزوار: 6,965,789

المتواجدون الآن: 71