العودة الثالثة لجنبلاط إلى دمشق

قصته مع سوريا: المصلحة تصلح ما أفسدته النزوة

تاريخ الإضافة الجمعة 14 آب 2009 - 10:56 ص    عدد الزيارات 3683    التعليقات 0    القسم محلية

        


 
عندما تم اللقاء بين السيد حسن نصر الله والنائب وليد جنبلاط، أدرك الاخير انه قطع نصف الطريق نحو دمشق وان النصف الباقي سيعبره على طريقته. كان ذاك اللقاء بمثابة الـ«كود» السياسي الذي سمح بفتح بوابة مرحلة جديدة امام جنبلاط ستقوده في ما بعد الى الخروج من فريق 14 آذار.
صحيح ان جنبلاط قطع شعرة معاوية مع الحزب ودمشق خلال ازمة السنوات الاربع الماضية، لكن الصحيح ايضا ان تقنية زرع الشعر أصبحت متاحة. تطلّب الامر من زعيم المختارة ان يمتلك فقط جرأة الواقعية في قراءة المعطيات الداخلية والخارجية، ليصل الى الاستنتاج ان بقاءه على خصومة مع حزب الله والقيادة السورية هو نوع من المكابرة السياسية التي تؤجل مواجهة الحقيقة ولا تلغيها.
في المقابل، ظهرت دمشق مستعدة لفتح صفحة جديدة مع جنبلاط، على قاعدة العفو عند المقدرة، وهي التي استعادت مؤخرا الكثير من عناصر قوتها. كما انها تعرف جيدا التأثير الكبير لجنبلاط على موازين القوى في لبنان والدور الحيوي للطائفة الدرزية في لبنان وسوريا وفلسطين، وبالتالي فقد كان لا بد من ملاقاة أحد ابرز رموز هذه الطائفة، ما دام قد صحح إحداثياته.
ولوليد جنبلاط قصة طويلة مع سوريا، تُبين ان «فطرة» التاريخ والجغرافيا تجمعهما ولو أبعدتهما بعض النزوات السياسية من وقت الى آخر. بعد اغتيال والده وإلباسه عباءة الزعامة من قبل شيخ عقل الطائفة الدرزية آنذاك محمد ابو شقرا، لم يتأخر في حسم خياره بالذهاب الى دمشق ولقاء الرئيس حافظ الاسد، على الرغم من اعتقاده ان والده اغتيل بقرار سوري.
تجاوز جنبلاط عواطفه بعدما أدرك منذ اللحظة الاولى ان لا مكان لها في السياسة، وتمكن مع مرور الوقت من بناء علاقة متينة مع الاسد، لكن التطور الكبير فيها سجل في العام 1982 خلال الاجتياح الاسرائيلي للبنان. يومها، ذهب جنبلاط الى دمشق وأكد للاسد انه سيبقى معه في خندق واحد مهما كلف الامر. لكن الذي أثر كثيرا في حافظ الاسد لاحقا هو ما سمعه من ابنته بشرى عندما دخلت عليه وقالت له انها سمعت وليد جنبلاط يصرّح عبر أثير إذاعة مونت كارلو بان الدروز يُذبحون في الجبل والعالم يتفرج عليهم. كانت يومها حرب الجبل قد استعرت بين الجيش اللبناني بقيادة ابراهيم طنوس والقوات اللبنانية من جهة والحزب التقدمي الاشتراكي من جهة أخرى.
طلب الاسد على الفور من حكمت الشهابي وعبد الحليم خدام ان يفتشا عن جنبلاط ويطلبا منه المجيء سريعا الى دمشق. كان جنبلاط يقيم آنذاك في عمان، فتم الاتصال به، وكانت في انتظاره لدى وصوله الى العاصمة السورية سيارة رئاسية أخذته مباشرة الى مقر إقامة الرئيس حافظ الاسد الذي ابلغه ان الجيش السوري هو في تصرفه «ولن نسمح لأحد بان يهزم الدروز».
بعد أيام قليلة من هذا اللقاء، سقط الحي الغربي في عاليه وبدا ان التوازن في الجبل يختل لمصلحة خصوم جنبلاط ودمشق، على وقع قذائف البارجة الاميركية نيوجرسي. تعزز الدعم السوري لزعيم المختارة، تحت مظلة سوفياتية أمنها الرئيس يوري أندروبوف الذي كان قد اتخذ قرارا بإلحاق الهزيمة بواشنطن في الشرق الاوسط من خلال لبنان. تدفق الدعم السوري والروسي نحو الجبل ورُفد الحزب التقدمي الاشتراكي بمئات من المقاتلين الفلسطينيين، فحُسمت معركة بحمدون لصالح جنبلاط.
لكن أخبارا سيئة وصلت بعد ذلك الى جنبلاط المقيم في دمشق. لقد استطاع الجيش و«القوات» الدخول الى كفرمتى وعبيه وقبرشمون وهما يستعدان للتقدم نحو بيصور وسوق الغرب ثم عاليه وبحمدون. كانت الساعة قرابة الثالثة فجرا. شعر جنبلاط بقلق شديد، وكان الى جانبه محسن دلول ورياض رعد. أيقظ دلول الشهابي من نومه وأبلغه بالتطورات الدراماتيكية. اجرى الشهابي المشاروات اللازمة ثم ارسل برقية عاجلة الى قائد قوات المدفعية السورية في حمانا وأمره بإسناد مقاتلي «التقدمي» ووقف التقدم. بعد بضع ساعات تلقى الشهابي برقية جوابية: لقد نُفذت المهمة.
وفي مرحلة لاحقة استعاد الحزب التقدمي الاشتراكي زمام المبادرة في الجبل، بعد تعزيز إمكانياته البشرية والمادية عبر الشريان السوري، وراح يسترجع تدريجا البلدات والمواقع التي فقدها خلال المواجهات، فيما كانت دمشق تبلغ من يهمه الامر ان سقوط الجبل في قبضة المشروع الاميركي ـ الاسرائيلي خط أحمر.
بعدها حصلت انتفاضة 6 شباط لتكمل انتصار الجبل، وامتد النفوذ الجنبلاطي نحو بيروت، لكن جنبلاط ارتكب ـ بحسب منطق الحسابات السورية ـ خطأ في العام 1987 عندما تحالف مع ياسر عرفات وحاول إخراج حركة أمل من العاصمة. عاد الجيش السوري الى بيروت وغُفر لوليد جنبلاط ذنبه، برغم تلك الجلسة العاصفة التي جمعته مع خدام والشهابي وعلي دوبا. كان الاسد يصر على الاستمرار في احتضانه وحمايته.
ومع ولادة اتفاق الطائف، أحس جنبلاط بأنه كان على هامشه وبأن الدروز لم ينالوا ما يستحقونه، إذ بينما أتاح الاتفاق للسنة والشيعة ان يعززوا مواقعهم في النظام، بدا انه أعطى الطائفة الدرزية شيكا متأخرا، لم يصرف حتى الآن، وهو مجلس الشيوخ، في حين ان بقية المذاهب قبضت حقوقها نقدا.
لكن الطائف بدأ يسلك طريقه فعلا نحو التنفيذ، فأدرك جنبلاط حينها ان الاتفاق أقوى مما كان يتصور وان قدر الدروز هو هو منذ العام 1860: يربحون في الحرب ويخسرون في السلم. لا يرى وليد جنبلاط نفسه وزيرا فقط، وهذا أعلى منصب يمكن ان يحصل عليه الدروز حاليا، لذلك يحاول باستمرار ان ينتزع له ولطائفته موقعا أوسع من المساحة التي يسمح بها النص الدستوري، ولعله نجح الى حد كبير في بلوغ مبتغاه، حتى قيل ان جنبلاط أصبح بحكم الامر الواقع الرئيس الرابع غير المعلن، إلا ان صيانة هذا الموقع والحفاظ عليه يتطلبان منه الكثير من المناورات السياسية التي يضطر أحيانا الى خوضها بـ«الذخيرة الحية»، مع ما تنطوي عليه من مجازفة.
في العام 1992، بعد تسلمه وزارة المهجرين، حصلت حادثة في الجبل اقلقت جنبلاط كثيرا. ذات نهار، وقع إشكال على أحد حواجز الجيش مع سيارة الشيخ ابو حسن عارف حلاوي، المرجع الروحي للطائفة الدرزية يومها، فنزل مئات المشايخ الى طرقات الجبل محتجين، وقطعوها بالاطارات المشتعلة. اصيب جنبلاط بصدمة كبيرة، ولا سيما ان هذا التحرك الاحتجاجي انطلق من دون طلبه ولا حتى معرفته.
سارع جنبلاط الذي أحس بان هيبته قد اهتزت الى عقد مؤتمر صحافي هاجم فيه بشدة «انتفاضة» المشايخ، وما لبث هؤلاء ان ردوا عليه بدروهم. كانت هذه الحركة الاعتراضية تعبيرا عن تداعيات خروج الدروز خاسرين في السياسة من حرب ربحوها، وقد تجلت هذه المعادلة في عودة مئات الشباب المنخرطين في الجيش الشعبي التابع للحزب التقدمي الاشتراكي الى منازلهم من دون منحهم أي بدائل او ضمانات بخصوص مستقبلهم.
التقط الرئيس حافظ الاسد خطورة ما جرى في الجبل من حيث دلالاته وانعكاساته السلبية على وضعية حليفه الدرزي، فقرر التدخل لإراحة جنبلاط، وابلغ من يعنيهم الامر في لبنان بوجوب التجاوب حتى أقصى الحدود الممكنة مع طلباته واحتياجاته، وبالفعل انتعش صندوق المهجرين ماليا وانطلقت عمليات الدفع والاخلاءات في الجبل.
وفي السياسة، كانت القيادة السورية حريصة دائما على اخذ هواجس وحسابات جنبلاط بعين الاعتبار، وهذا ما تمت ترجمته من خلال تفصيل قوانين الانتخاب على قياسه، كما حصل في العام 1992 حين تم اعتماد المحافظة دائرة انتخابية باستثناء الجبل الذي جرى تقسيمه الى أقضية.
وكانت المحطة عام 2000 المفصلية. توفي الرئيس حافظ الاسد الذي خلفه في منصبه الدكتور بشار الاسد، وافترض جنبلاط ان دمشق تمر في مرحلة انعدام وزن، تشجع على إعادة التموضع، وما ساهم في «إغوائه» أكثر هو استنتاج عبد الحليم خدام وآخرين من الحرس القديم ان الاسد الابن لن يكون قادرا على الامساك بالوضع الداخلي في سوريا، وان ضعفه سيفتح الباب على صراع محموم حول السلطة. تأثر جنبلاط بهذا المناخ، وطالب باعادة انتشار الجيش السوري في لبنان، مفترضا ان اللحظة مؤاتية لتعديل قواعد اللعبة والتكيف مع المعطيات الجديدة.
وقعت أحداث 11 أيلول الشهيرة واختلطت الاوراق مجددا. راجع جنبلاط حساباته، وقرر إعادة وصل ما انقطع مع دمشق وساعده في ذلك آنذاك وئام وهاب. زار رئيس التقدمي الاسد لترميم التحالف واكد له الوقوف الى جانب سوريا، ثم جرى ترتيب زيارة لخدام وغازي كنعان الى قصر المختارة، كانت الاولى من نوعها لمسؤولين سوريين رفيعي المستوى منذ سنوات طويلة.
استعادت العلاقة حرارتها الى حين سقوط بغداد. ظن جنبلاط ان دمشق هي التالية وكان لديه شعور قوي بأن المشروع الاميركي الزاحف الى المنطقة هو أقوى من ان يتمكن أحد من وقف اندفاعته، فقرر السباحة مع التيار بدلا من مواجهته، معتبرا ان مصالح طائفته ومتطلبات حمايتها تستوجب الرهان على الحصان الرابح.
وأتى اغتيال الرئيس رفيق الحريري وشخصيات أخرى ليُخرج جنبلاط عن طوره وليحرضه على المزيد من الانجراف في معركة الحياة او الموت ضد النظام السوري، ساندا ظهره الى جدار المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة. صمدت دمشق، وتكيفت مع متطلبات المواجهة، فانسحبت من لبنان تاركة الساحة لحلفائها وقررت التفرغ للمبارزة الاصعب مع أصل المشروع المضاد متمثلا في الاحتلال الاميركي للعراق. وبناء عليه، شرّعت حدودها امام المقاومة العراقية وراحت تحصي الخسائر في صفوف الجيش الاميركي وحلفائه، محصنة موقعها في لعبة عض الاصابع. لم تصرخ دمشق أولا، بينما تعثرت واشنطن في العراق، وأُجهض جنين الشرق الاوسط الجديد في حرب تموز.
وعندما فرضت ضرورات الواقعية السياسية التحالف بينه وبين حزب الله في انتخابات 2005 ، حاول جنبلاط ارسال إشارات انفتاحية الى سوريا وأطلق مواقف تطمينية من امام مقر السيد حسن نصر الله أكد فيها أهمية سلاح المقاومة في حماية الامن القومي السوري، لكن الأوان كان قد فات، ولم تنفع الوساطة الايرانية ولا جهود حزب الله ايام التحالف الرباعي في تليين موقف دمشق التي كانت لا تزال حينها تقيم على خط زلزال المواجهة الاقليمية، ولا مجال لديها لاعطاء أي انطباع بأنها ضعيفة او متهاونة.
لاحقا، تطورت الاحداث في لبنان وانقلب جنبلاط على الحلف الرباعي، فيما بدا ان انتصار حزب الله في حرب تموز لم يكن كافيا لتصحيح التوازن الداخلي، واتخذت الازمة أشكالا متعددة من استقالة الوزراء الشيعة الى التظاهر والاعتصام، قبل ان ينفجر الاحتقان في 7 أيار الذي شكل بوقائعه وحقائقه نقطة تحول محورية في سلوك جنبلاط، لتبدأ منذ ذلك الحين رحلة رجوعه من نقطة اللاعودة في اتجاه حزب الله وسوريا، تساعده نصائح حكمت الشهابي العائد الى سوريا قريبا ولمسات وئام وهاب المدروسة.
عماد مرمل
\"<

المصدر: جريدة السفير

..How Iran Seeks to Exploit the Gaza War in Syria’s Volatile East..

 السبت 11 أيار 2024 - 6:24 ص

..How Iran Seeks to Exploit the Gaza War in Syria’s Volatile East.. Armed groups aligned with Teh… تتمة »

عدد الزيارات: 157,000,858

عدد الزوار: 7,051,344

المتواجدون الآن: 79