إسرائيل تخطط لخفض نسبة السكان العرب في القدس الى 15 في المئة
على رغم أن الأزمة في العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل تتجاوز مسألة استفزاز وإهانة نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، في أثناء زيارته إسرائيل حيث تم الإعلان عن مناقصة مشروع البناء الاستيطاني الجديد «رمات شلومو» في القدس، إلا أن تسلسل الأحداث التي رافقت هذا التوتر والتي تصدّرها تدشين كنيس يهودي قديم أعيد ترميمه في القدس الشرقية المحتلة والسماح لمئات المتدينين اليهود بالصلاة بحرية مقابل فرض طوق على الفلسطينيين ومنعهم من أبسط حقوقهم في أداء الصلاة في الأقصى، رفع ملف القدس الى الطاولة الدولية ليعكس من جديد الواقع الشائك لهذه المدينة المقدسة وليضع الولايات المتحدة عند مسؤوليتها تجاه خطر اندلاع حريق آخر في الشرق الأوسط يضيف عبئاً آخر على أعبائها الكثيرة فيه.
منذ سنوات وخبراء فلسطينيون وحتى إسرائيليون يحذرون من خطر ما تتعرض له القدس. أشعلوا ضوءاً أحمر مفاده أن كل فلسطيني وكل عربي سيجد نفسه أمام وضع يقول فيه «كانت لنا قدس»... واليوم... اليوم بالذات يصرخ العرب والفلسطينيون ودول العالم وحتى الولايات المتحدة، الحليف الاستراتيجي لإسرائيل، بوقف أعمال الاستيطان في القدس والإصرار على جعلها بنداً مركزياً في مفاوضات السلام لدى اطلاقها. في هذا الوقت بالذات تشهد القدس حالة توتر شديدة ومخيفة، بسبب عشرات المشاريع الاستيطانية ومخططات التهويد غير المسبوقة، والتي تتحدث عن بناء 50 ألف وحدة سكنية، أي إدخال حوالي 200 ألف مستوطن يهودي جديد إليها. وهذا التوتر يجعل من هذه المدينة المقدسة «قنبلة موقوتة».
يحذر البعض من أن تنطلق شعلة الانتفاضة الثالثة من جديد من الأقصى. ولكن قائد الشرطة الإسرائيلية، دودي كوهن، يراهن على أن ما يحدث هذه الأيام في القدس لا يتعدى مسألة انتفاضة مشاعر فلسطينية في أعقاب تدشين الكنيس سرعان ما تهدأ وتعود الحياة الى طبيعتها. ولشدة ثقته بنفسه، ألغى القيود على دخول المصلين المسلمين الى الأقصى وأزال الحواجز التي تعرقل وصول المسيحيين الى كنيسة القيامة وتعرقل الحياة التجارية والسياحية في المدينة، وسمح لسبعين متظاهراً من غلاة المتطرفين اليهود بتنظيم مسيرة استفزازية في قلب حي سلوان العربي في القدس الشرقية، بهدف مطالبة الحكومة بأن تهدم 216 بيتاً فلسطينياً بنيت من دون ترخيص من بلدية القدس الغربية.
الولايات المتحدة من جهتها، وللمرة الأولى منذ 42 عاماً، طرحت موضوع القدس بقوة على جدول المحادثات بينها وبين إسرائيل. قد يكون السبب المباشر لهذا الطرح، الاستفزاز الإسرائيلي بنشر خبر عن مشروع البناء في حي شعفاط والذي يضم 1600 وحدة سكن يهودية، خلال زيارة نائب الرئيس بايدن. ولكن في الحقيقة المسألة أكبر من ذلك بكثير. فقد اعتبرت إدارة أوباما هذه الإهانة تمادياً إسرائيلياً. ورأت فيها واحدة أخرى من ألاعـيب بنيامين نتانياهو.
فالإدارة الأميركية انتظرت نتانياهو 11 شهراً وهو يضع عراقيل متتالية أمام عجلة المفاوضات مع الفلسطينيين. قالوا له إن المسيرة السلمية في الشرق الأوسط باتت مسألة أمن قومي للولايات المتحدة. وقالوا له إن أوباما يريد إعادة كسب العالم العربي حتى يستطيع تجنيد أوسع حلف عربي وإسلامي مع الغرب ضد إيران و «القاعدة» وغيرهما.
وأن هذه في نظر الأميركيين مصلحة إسرائيلية أيضاً، وليس مصلحة أميركية فحسب. ولكي يطمئنوا إسرائيل جددوا التنسيق الأمني المقطوع بينهما على أعلى المستويات وفي كل المجالات المتعلقة بما يسمى محاربة الإرهاب. وافقوا على منح إسرائيل طائرة «أف 35» وشبكة صواريخ تحمي إسرائيل من صواريخ إيران. ورئيس أركان الجيش الأميركي، مايكل مولين، التقى نظيره الإسرائيلي 10 مرات للتنسيق في الموضوع الإيراني. وأقنعوا العالم العربي أن يساند الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، بالانضمام الى المفاوضات على رغم أن شرط وقف البناء الاستيطاني في القدس لم يتحقق.
ولكي يتوجوا حملة طمأنة إسرائيل، أرسلوا إليها نائب الرئيس بايدن، الذي يعتبر أقرب أصدقاء إسرائيل. فماذا كان الجواب؟ صفعة مجلجلة على وجه بايدن، اعتبرها الأميركيون صفعة مميتة لعملية السلام. وفي الوقت نفسه اعتبروها مناسبة لتوجيه درس للقيادة الإسرائيلية.
صحيح أن العلاقة الأمنية والاستراتيجية بين واشنطن وتل أبيب لن تتغير. فهذه مسألة استراتيجية. ولكن، ليس هناك شك في أن أزمة كبيرة في العلاقة قد بدأت. وحتى لو تمت تسوية الأزمة، وهذا فعلاً ما يسعى إليه الطرفان، فإدارة أوباما وضعت قواعد جديدة في العلاقة مع إسرائيل. قرار إلغاء زيارة المبعوث الأميركي الى المنطقة، جورج ميتشل، كان الضربة الأولى. والقرار الذي أبلغوا به إسرائيل، أمس، بأن أياً من المسؤولين الأميركيين لن يستقبل بنيامين نتانياهو لدى زيارته الولايات المتحدة (بعد غد الأحد)، كانت الضربة الثانية. وكانت هناك ضربة ثالثة يعتبرها الإسرائيليون ضربة شبه قاضية في هذه الأزمة، هي تصريحات قائد القوات الأميركية في الشرق الأوسط، الجنرال ديفيد باتريوس، الذي قال إن إسرائيل تحولت من كنز الى عبء. وأن سياستها في القدس أدت الى تفجير الأوضاع من جديد في الشرق الأوسط وأن هذا يلحق ضرراً كبيراً في سمعة أميركا فتزيد الكراهية لها مما يقوي أعداءها في إيران و «القاعدة» ويتسبب في مقتل جنود أميركيين.
زاد الطينة بلة، بالنسبة للإسرائيليين، الطلب الذي توجه به باتريوس الى الرئيس الأميركي، أوباما، بصفته قائداً أعلى للجيش الأميركي، في أن يضع تحت حمايته الضفة الغربية وقطاع غزة، حتى يضع حداً للتدهور الحاصل فيهما، ويقصد من جهة الاحتلال الإسرائيلي ومشاريعه الاستيطانية ومن جهة ثانية تمرد «حماس» وفرضها السيطرة بالقوة على القطاع. غضب الإسرائيليون من المقارنة بينهم وبين «حماس» من جهة واغتاظوا أكثر من كون مثل هذا الاقتراح يعني حماية الفلسطينيين من الاحتلال الإسرائيلي.
وفوق هذا كله يقرأ الإسرائيليون ما يقوله مسؤولون أميركيون ويسربونه الى الصحف بأسماء صريحة أو بلا أسماء، ويشيرون فيه بإصبع الاتهام الى نتانياهو بأنه يعمل بغياب رؤيا سياسية مستقبلية، فهو فشل في إجراء مفاوضات مع الفلسطينيين من جهة وساهم في خلق أزمة في العلاقة مع واشنطن، من جهة أخرى. واعتبروا نتانياهو «خطراً أمنياً على إسرائيل». وليس صدفة ما كتبه القنصل الإسرائيلي العام السابق في نيويورك، الون بنكاس، «نتانياهو ارتكب خطأ استراتيجياً خطيراً، ليس بالإعلان عن مناقصة البناء بل لانعدام الرؤيا السياسية لديه». واعتبر أن نتانياهو بدأ ولايته بعجز في الثقة مع الإدارة وفعل القليل جداً للتكيف مع الإدارة الجديدة برئاسة باراك أوباما ولم يدرك أن التكيف مع أميركا سياسياً واقتصادياً وديموغرافياً ضرورة إسرائيلية.
يقول بنكاس: «لقد أدارت حكومات إسرائيلية سابقة – حكومات رابين، بيريز، باراك، شارون وأولمرت - مسيرة سياسية جعلت العلاقة مع واشنطن أسهل. فعندما كانت توجد مسيرة سياسية كان مريحاً تجاهل الخلافات لأن الفرضية كانت انه في التسوية الدائمة سيبحث في كل شيء وهنا الخطأ الاستراتيجي الأكبر لنتانياهو». ويعدد بنكاس قائمة الأخطاء التي ترتكبها حكومة نتانياهو على النحو الآتي: «عدم معرفة متى تنعقد وماذا تبحث لجنة تراخيص بناء لوائية هو خطأ. الافتراض بأن «الأزمة خلفنا» لأن بايدن ابتسم حين اعتذرنا خطأ. الصدام مع الولايات المتحدة على موضوع ليس حيوياً لأمن إسرائيل خطأ. تدهور علاقات الثقة بين الحكومتين على مدى سنة كاملة – فارغة من كل مضمون سياسي – خطأ. بث الريبة على نحو متواصل في أن الرئيس وكبار مساعديه ضدنا خطأ. عدم الفهم أن للولايات المتحدة مصلحة عليا في إسرائيل كحليف قوي وانها «تتزلف» للعرب خطأ. عدم تطوير آليات تحليل وتقدير تعطي صورة ذات صدقية ودقيقة عن واشنطن أوباما خطأ. الإهمال في جمع ومعالجة المعلومات السياسية التي تحذر من نشوء أزمة خطأ. الافتراض بأن الولايات المتحدة، مثلنا، ستطمس فوارق النهج الاستراتيجي بالنسبة للنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني أيضاً خطأ».
الخبير الاستراتيجي ناحوم برنياع وصف نتانياهو بـ «السائق العجوز» وقال «نتانياهو ليس سائقاً سكراناً كما كتب الصحافي توماس فريدمان. الأصح أن نشبهه بواحد من أولئك السائقين المسنين، الذين يسافرون وسط طريق من مسلكين، خشية أن يقعوا في خطأ، فيثيرون جنون السائقين الذين يزدحمون خلفهم في الطابور ويقعون في حوادث طرق. عندما يعطي إشارة الى اليسار يتجه يميناً. وعندما يعطيها الى اليمين يواصل الى الأمام في الطريق. لعل من المجدي له أن يخضع لدورة تعلم القيادة في القدس».
بالطبع، لا يتكلم كل الإسرائيليين مثل بنكاس. فهناك من يدافع عن نتانياهو وسياسته. وها هو وزير الدفاع الأسبق، موشيه ارنس، يقول إن إدارة أوباما تريد فجأة ومن طرف واحد ومن دون تنسيق أو اتفاق مع إسرائيل، تغيير النهج المتبع طيلة 42 عاماً من البناء في القدس. وهذا لا يجوز. من حقنا أن لا نقبل. على مدار هذه السنوات نشبت خلافات بين إسرائيل والولايات المتحدة لكن لم يتم التعبير عن الخلافات علناً بل بُحثت بسرية بين ممثلي الدولتين. لكن الرئيس أوباما أخذ بتوجه جديد لمح إليه في خطبة القاهرة في السنة الماضية عندما دعا إسرائيل علناً الى وقف البناء في المستوطنات. ويضيف: «إن سبب هذا التوجه هو إرادة التعجيل بالتفاوض بين إسرائيل ومحمود عباس. لكن تبين للأميركيين، أن هذا التوجه يُصعب على عباس مهمته بل ربما يمنعه من المجيء الى طاولة المحادثات. ففي حين أجرى عباس في الماضي محادثات مع إسرائيل بلا شروط مسبقة والبناء في المستوطنات مستمر، لم تترك له خطبة القاهرة من خيار سوى طلب وقف البناء في الضفة شرطاً مسبقاً لبدء المحادثات، فهو لا يستطيع أن يكون أقل فلسطينية من أوباما». وبالإضافة الى آرنس هناك من بدأ يعلن الحرب على أوباما مثل المستوطنين في الضفة الغربية و30 عضواً في الكنيست من مختلف أحزاب الوسط واليمين، الذين توجهوا برسالة الى أوباما يطالبونه بالكف عن مضايقة إسرائيل وأحدهم اتهمه بالعنصرية.
الواضح أن ملف القدس، وخلافاً لمرات سابقة، سيتصدر هذه المرة محادثات السلام على رغم أن المشاريع التي نفذت في القدس على مدار سنوات طويلة هي أخطر من مشروع رمات شلومو بأضعاف. فهذه لا تقتصر على مجرد مشاريع بناء بل على جوانب تحقق هدف إسرائيل بخريطة ديموغرافية تضمن أكثرية يهودية، خلال فترة قصيرة من الزمن. بالإضافة الى بناء جدار الفصل العنصري الذي أخرج نحو 125 ألف فلسطيني من شرق القدس، وهذا المشروع الى جانب دوافع أخرى جعلت الأوضاع الصحية والاقتصادية والاجتماعية في تدهور مستمر وأدت الى هجرة طالبية خطيرة.
ومن أجل تنفيذ سياستها في فرض أمر واقع على الأرض تنفق إسرائيل سنوياً ما لا يقل عن 1.5 بليون دولار لتنفيذ مخطط من الأنفاق والإنشاءات داخل القدس القديمة، بما يضمن إخراج عدد كبير من سكان البلدة القديمة عام 2020.
وبحسب خبير الخرائط والاستيطان، خليل توفكجي فإن إسرائيل تنفذ مشروعاً شاملاً لإحداث تغيير جذري لمشهد البلدة القديمة والمقدسات والمعالم الإسلامية هو مخطط المدينة السياحية تحت البلدة القديمة وشبكة الإنفاق الواسعة، ويقول: «التوسع الاستيطاني في القدس، يندرج ضمن إطار أكبر من ذلك وهو حدود بلدية القدس، بمفهوم إسرائيلي واضح تماماً وهو القدس الكبرى، التي تشمل منطقة «معاليه أدوميم» التي تقع في الشرق باتجاه غور الأردن، والجزء الثاني ويمتد باتجاه الشمال الغربي وهو «جيفعات زئيف»، والجزء الثالث وهو يمتد نحو الجنوب الغربي وآخر ما تم الإعلان عنه هو 282 وحدة سكانية في «غوش عتصيون».
وتابع: «إن الجانب الإسرائيلي يسعى إلى إحداث تغيير ديموغرافي وفصل شمال الضفة الغربية عن جنوبها، لأن الكتلة التي تمتد باتجاه الشرق كتلة «معاليه أدوميم» مكونة من 8 مستوطنات بعرض حوالى 15 كيلومتراً وبعمق يصل حتى منطقة غور الأردن، وبالتالي الشمال والجنوب الفلسطيني سيكونان تحت السيطرة الإسرائيلية.
وحول «أسرلة القدس» وتهجير سكانها ونزع الهوية المقدسية عن المواطنين الفلسطينيين، أكد التفكجي أن الإسرائيليين يحاولون وضع المواطن الفلسطيني المقدسي أمام خيارات عدة: إما أن يأخذ الجنسية الإسرائيلية أو يرحل لأنه بحسب اتفاقية «أوسلو» لا يسمح لنا بحمل الهوية الفلسطينية، وبحسب فك الارتباط نحن نحمل الوثيقة الأردنية وعند الدخول الى إسرائيل نحمل بطاقة المقيمين وليس المواطنين.
الخطر المحدق بالقدس كان واضحاً منذ سنوات وقد سبق أن تم تحضير وثيقة قانونية للتوجه الى محكمة العدل الدولية في لاهاي، لاستصدار قرار يلزم إسرائيل بالتراجع عن الإجراءات التي تتخذها لتهويد القدس ووقف أوامر هدم البيوت العربية في المدينة ومنع مواصلة البناء اليهودي فيها. وجاء في الدعوى الفلسطينية أن القدس الشرقية مدينة محتلة، وينطبق عليها القانون الدولي، بخاصة بعد أن أثبت القضاء الإسرائيلي انحيازه التام الى جانب المستوطنين. وشملت الوثيقة بنداً خاصاً حول سياسة هدم البيوت، وتؤكد أن قانون التنظيم والبناء يسري على الفلسطينيين المقدسيين، من دون أن يطبق على الشق الغربي للمدينة.
وواضح في سياسة الحكومات الإسرائيلية انها منعت الفلسطينيين من شراء بيوت في القدس الغربية، بينما سمحت وشجعت ومولت عمليات شراء أو بناء بيوت للمستوطنين اليهود في القدس الشرقية. وبعد أن تمكنت التنظيمات اليهودية وسماسرة الأراضي من شراء عدد من البيوت والمحال التجارية في القدس من طريق الخداع والتزوير والغش باشرت الحكومة بتوسيع البناء في أماكن عدة في المدينة لتضييق الخناق أكثر على الفلسطينيين من سكان المدينة، الذين يشكلون 34 في المئة وضمن مخطط إسرائيل للعام 2020 حول مستقبل القدس، فان الهدف تقليص تلك النسبة الى 15 في المئة مستخدمة عملية توسيع الاستيطان وهدم البيوت العربية الطريق الأسهل والأضمن للوصول الى الهدف.