إصلاح ديني في مصر بعد سقوط حكم «الإخوان»؟

تاريخ الإضافة الأحد 20 تشرين الأول 2013 - 7:07 ص    عدد الزيارات 341    التعليقات 0

        

إصلاح ديني في مصر بعد سقوط حكم «الإخوان»؟

 

صلاح سالم *

كيف يمكن تقويم تجربة حكم الإخوان المسلمين مصر، وما الذي يمكن للتاريخ أن يقوله عنها بعد سنوات أو عقود؟

ظاهرياً يبدو أن مصر أضاعت هذه الفترة من عمر الديموقراطية الوليدة هباء، وهذا صحيح على الصعيد السياسي. أما جوهرياً فنجد أنها حققت كسباً كبيراً على الصعيد الثقافي، إذ وضعت قدميها على طريق إصلاح ديني تأخر كثيراً قياساً إلى حركة التاريخ العام، وعانى انقطاعاً طويلاً ناهز القرن، قياساً إلى تاريخها الخاص. لقد اختصرت مصر عقوداً طويلة كانت مطلوبة حتى تكتسب هذه العملية زخمها الحقيقي، لو أن الجماعة ظلت في موقع المعارضة، كما كانت طوال العقود الثمانية الماضية، أو أنها شاركت في الحكم بنصيب محدود لا يعرضها للانكشاف الذي جرى لها أو وقعت هي فيه خلال هذا العام، بتأثير رغبتها في الاستحواذ السياسي السريع، إذ أدى انفرادها بالحكم، إلى وضع المقولات النظرية كافة التي كانت أعلنتها على المحك العملي.

كما ألقي بالشعارات التي رفعتها من قبيل: الإسلام هو الحل، القرآن دستورنا، ومشروع النهضة، في أتون واقع صعب على مرأى من جمهور يتلقى بتحفز ردود أفعالها على أسئلة الحياة اليومية ومسمعها، الأمر الذي أذاب أساطيرها تحت شمس الواقع، ونزع عنها قوة السحر، ووضعها تحت مقصلة الحقيقة.

غير أن فشل الجماعة الساحق لا يمكن تبريره فقط بالجشع السياسي الذي برّر لها محاولات الهيمنة، فمثل تلك المحاولات يفترض أن تدفع بها إلى تراجع تدريجي على مدى طويل نسبياً يشبه المتوالية الحسابية المتناقصة، على الطريقة التي تراجعت بها مصر خلال عصر مبارك خلال ثلاثة عقود. أما الانهيار، خلال عام واحد، وبمعدلات تشبه متوالية هندسية حادة، فأمر يحتاج إلى تفسير أعمق، لعله يكمن في تلك القيود المتنامية التي تضعها حركة التاريخ الإنساني أمام دور الدين في العالم السياسي المعاصر، والتي تحدّ من قدرته على صوغ الواقع أو التعاطي الجدي مع معضلاته. فما إن يخرج الدين، أي دين لا الإسلام فقط، عن فلك الأسئلة الكبرى حول الوجود والمصير، ويتصدى لأسئلة الواقع حول الكم والكيف حتى يتبدى عمق المأزق الذي يواجهه، كما يواجه المتحدثين باسمه على السواء. ولعل هذا هو المأزق الذي يواجه تيار الإسلام السياسي، الذي تتعرض تياراته المختلفة، على الأغلب، لتحدي الخروج من التاريخ، بعد أن تحولت إلى تجربة مهشّمة وصدئة في صيرورته، فهؤلاء ارتكبوا باسم الإسلام وتحت رايته الأفعال المدنّسة كافة وهم بصدد النزوع إلى احتكار الدين وتوظيفه في خدمة غرائزهم النفعية ومصالحهم الدنيوية، حتى أنهم لم يتورعوا عن قتل الآخرين على مذبحه، قبل أن يغسلوا أيديهم من الدماء بنصوصه وتأويلاته، وهو نزوع سياسي تبدّى باكراً، منذ العصر الراشد، سواء في الفتنة بين عثمان وعلي رضي الله عنهما، أو بين علي ومعاوية، أو بين الحسن ويزيد، قبل أن يتحول إلى قاعدة أساسية ومنوال سائد طالما أنتج شروخاً في جدران الأمة، إذ كرّس مذاهب كالشيعة وحفّز فرقاً كالخوارج لا تزال فاعلة حتى اليوم وإن تغيرت المسميّات وفق العصور.

واليوم، كأن زمناً طويلاً لم يمر وقروناً عدة لم تنقضِ فجماعة «الإخوان»، تتورط في أعمال عنف وإرهاب تريد بها إثبات أنها لا تزال قوية وقادرة، من دون إدراك حقيقة أنها كلما أمعنت في العنف أبرزت ضعفها لا قوتها، وكشفت عن حجم تباينها مع طبائع الأمور ومدى تناقضها مع حاجات الناس. وأيضاً من دون إدراك حقيقة أنها كلما أمعنت في العنف فقدت، ليس فقط الجماهير باستهلاك مخزون تعاطفهم النفسي معها، بل مشروعية العصر التي يتبدّى حجم غربتها عنه وعمق ضياعها فيه، عندما تتصّور أن نماذج حكم معينة تنتمي إلى عصر مضى، وتستند إلى تأويل ديني نفعي ضيّق الأفق، تستطيع أن تحكم حاضراً أو مستقبلا لمجرد إنها تحمل شعاراً جذاباً، أو تستند إلى عقيدة حيّة، تبقى ملهمة، لضمائر المؤمنين ولكنها تبقى عاجزة عن التحكم بعالمهم على النحو الذي تمثّله قيم الحداثة السياسية منذ أربعة قرون على الأقل.

فلا الروح الوطنية يمكن وأدها في هذا الزمان، ولا العلمانية السياسية يمكن التنكر لأهميتها في هذا العصر، ولا النزعة الفردية يمكن الخلاص منها في تلك الثقافة، ولا الديموقراطية يمكن تجاهلها باعتبارها ثمرة هذه المتوالية. إنها أبجديات الحياة الجماعية والتنظيم السياسي في عالمنا، وكل محاولة لإهدارها غير مثمرة لأنها تناقض طبيعة الأشياء ومنطق التاريخ، بل هوى الناس، ليس فقط أولئك الواعين بها، بل أيضاً أولئك الذي يجهلونها نظرياً ويعيشونها واقعياً. فثمة شخص، يشبه كثيرين، قد لا يعرف أصول النزعة الفردية، ولكنه يعيش تجلياتها. فإذا حاول أحد أن يكسر نمط حياته تصدّى له بقوة، إنه يدافع عن ذاتيته كإنسان. قد يكون عاملاً فقيراً أو حتى متبطّلاً ولكنه يقول للآخر: أنا حر، ليس في سياق سياسي، وليس أمام صندوق انتخاب، بل في أي موقف حياتي يشعر فيه أن كرامته كإنسان موضع امتهان من أحد يسعى إلى التحكم فيه أو نزع إرادته.

وقد خرج الكثير من الناس في مصر اعتراضاً، ليس فقط على أوضاع حياتية صعبة، ولكن دفاعاً عن نمط حياة معتاد ومألوف بعد أن وجدوا جماعات الأمر بالمعروف تقتل الناس باسم الدين، وتحاصر مؤسّساتهم باسم الإسلام، وتفتك بمقوّمات دولتهم بزعم مشروع إسلامي لم يلمسوه أبداً. فعلوا ذلك من دون إدراك مفاهيم الدولة الوطنية والعلمانية، بل إنهم طالما اعترضوا على بعض هذه المفاهيم، خصوصاً العلمانية، عندما كانوا يسمعون عنها من دعاتها، خشية على الدين الذي أوهمهم البعض أنها تجافيه، ولم يدركوا الحقيقة، إلا عبر تجربة حياتية معيشة. وأما الإسلام نفسه كدين، فيواجه اليوم وسيواجه غداً نوعاً من التشكيك إزاء التباين الواضح بين القيم المثالية التي يدعو إليها، وبين الوقائع التي تنتجها تلك التيارات المتحدثة باسمه من كذب ونفاق وتعذيب وسحل وقتل وامتهان كرامة، وغير ذلك من سلوكات تعادي الأخلاق الدينية عموماً والإسلامية خصوصاً.

الدين لن يخسر مؤمنين حقيقيين، بل ربما يتخلص من أتباع ظاهريّين أو حتى منافقين. والشخص الذي سيتمكّن من استعادة توازنه النفسي لن يسترجع إيمانه التقليدي القديم، بل سوف يكتسب إيماناً أكثر عقلانية، ويتسم بروح أكثر نقدية تعمل كحائط صد نفسي سواء ضد الميول النفعية التي حفزت الجماعات المسيّسة لتنطق باسم إيمانه أصلاً، أو ضد الميول الاتباعية التي أخضعته لتلك الجماعات تالياً.

هنا بالضبط تكمن ملامح حركة إصلاح ديني عميق لا بد أن تشهدها الثقافة المصرية، ومن ثم العربية، حيث تمكن كثيرون من طرح أسئلتهم حول الدين والواقع، وتبادلوا الرأي حول شرعية تمثيل التيارات السياسية المتأسلمة لقيمه ومثله، كما تناقشوا حول الدستور وقيمته، وأيضاً حول الدولة المدنية ومعناها، وكذلك حول مبادئ الشريعة وأحكامها. لقد دخل المصريون بالفعل ورشة ثقافية كبرى، استمروا فيها شهوراً طويلة، وتعرضوا فيها لحال مكاشفة نادرة، حتى لم يعودوا قادرين على نسيان التجربة، أو تجاهل الخبرة، خصوصاً أنها معمدة بألم الممارسة الواقعية، والأزمات اليومية، ناهيك بالدماء الزكية، ما يعضدها بعملية تغذية استرجاعية هائلة اختصرت عقوداً كانت لازمة لانبعاث مثل هذا الإصلاح الديني المؤجل، وربما استئناف المسار النهضوي العربي المعطل.

 * كاتب مصري

 

Sri Lanka’s Bailout Blues: Elections in the Aftermath of Economic Collapse…...

 الخميس 19 أيلول 2024 - 11:53 ص

Sri Lanka’s Bailout Blues: Elections in the Aftermath of Economic Collapse…... The economy is cen… تتمة »

عدد الزيارات: 171,365,636

عدد الزوار: 7,629,997

المتواجدون الآن: 0