الإسلام بين الجمود والحداثة

تاريخ الإضافة الخميس 7 تموز 2011 - 6:53 ص    عدد الزيارات 543    التعليقات 0

        

هلا ابو حمدان
تكمن معضلة الدين في طريقة مقاربة مفهوم «المقدس». فالمقدس، عامة، يرى أنه المطلق والثابت واللامتحول، المنزّه عن الخطأ الذي لا تجوز مناقشته والذي لا يحتمل أي شكل من أشكال المعارضة وبالتالي الحرية.
قد يقال بأن المسيحية حلّت المعضلة بأن تركت «ما لقيصر لقيصر وما لله لله». والحقيقة أن التحول التاريخي الذي أوصل الى هذا الفهم (أو التأويل) هو أكثر تعقيداً مما يحاول البعض إيحاءه. بل الجدير بالانتباه هو إمكانية، ولا أقول حتمية، العلاقة بين هذا النوع من الفهم (أو الإفهام) من جهة وتراجع دور الدين ككل من جهة أخرى، ليس فقط في السياسة والعلاقات الاجتماعية الاخرى، بل أيضا على المستوى الشخصي... والدليل الحسي لا النظري على ذلك هو واقع الدين في بلاد الغرب خاصة.
وهنا تكمن الإشكالية الأساسية في حالة الإسلام: لقد طرحت «الرسالة الإسلامية» نفسها، كما هو واضح في النص القرآني، وكما رأى ذلك مجتهدوها الأوائل، ليس فقط كمجموعة طقوس وعبادات، بل أيضا كمنهاج للدنيا، معاملة وعلاقات اجتماعية. ففي منطق نصوص فقهاء الإسلام لا تنفصل عقيدة الحياة الدنيا، عن عقيدة الآخرة، ولا الوجه الاجتماعي عن المحتوى الروحي. وهذا طبعا متأت من قراءة معينة للنص، كما في حالة الآية الآتية:
«وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما اتاكم فاستبقوا الخيرات الى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون» (المائدة،48).
من هنا، وبعيدا عن جدل التأويل، اذا اطلعنا على بعض ما كتب عن تاريخ التشريع الإسلامي، يمكننا أن نقول، ان أغلب القواعد التي وضعت لتنظيم «الحياة الدنيا» خصوصا، أو بشكل أعمق: أغلب القواعد «الأصولية» لاستنباط هذه القواعد «الفقهية»، بقيت، بشكل عام لا معمّم، ثابتة منذ مئات السنين دون تطوير نوعي يذكر. بل ان بعض الدراسات تؤرخ «إقفال باب الاجتهاد» عند المذاهب الأربعة «السنية» عند القرن العاشر الميلادي. أي: منذ أكثر من ألف سنة! والمشكلة ان التكفير بدأ يلاحق تصاعدا كل محاولة لمناقشة هذه الأحكام أو الشك باستمرار صلاحيتها وقدرتها على نقل الانسان المسلم الى إسلام حديث قادر على مناظرة العالم ومواكبة الحداثة من دون أن يتضعضع وتنهار أركانه. وهذا هو بيت القصيد. هل يتعارض الدين مع مفهوم الحداثة والحرية؟ هل الإسلام من الهشاشة لدرجة الخوف على تقويض أسسه اذا فتح باب النقاش والتطوير في الأحكام أو حتى في طرق استنباطها؟
من الضروري أن يصير التحريم والتحليل ضمن نطاق المتحولات التي لا تحيد عن الأهداف الأساسية للرسالة السماوية. فالدين له غاية أساسية - وجودية هي تعريف الانسان بخالقه وهدايته الى الطريق القويم الذي من خلاله يزاوج بين السعادة «الفردية» والعدالة «الاجتماعية» على الأرض من جهة والحفاظ على رضى الله من جهة أخرى. ولا يمكن أن يكون هدف الدين فقط إقامة فروض الإجلال لله وعبادته وتقديم الذبائح له في المعابد، بل ان «مقاصد» ما يسمّى «بالشريعة الإلهية» (أي «مضمونها»)، هو أيضا ردع الانسان عن إيذاء نفسه، والإساءة لمحيطه ومجتمعه، وهي تطرح نفسها على انها الطريق («الشرعة») لبناء مجتمع فاضل، ليس الله هو الذي بحاجة اليه، بل الانسان نفسه، الذي بابتعاده عن الفحشاء والمنكر، انما يبني داخله النفس الملتزمة، القويمة، الفعّالة والنافعة، ويبني مع الآخرين المجتمع القائم على العدل والإحسان والعيش الكريم، والرامي الى السعادة المادية والروحية، لا الواحدة دون الأخرى.
انطلاقا من هنا، فإن الشريعة تحوي عناصر ثابتة مهمتها تحديد مصلحة الإنسان «الفرد» والانسان «المجتمع»، عبر الأزمنة والأمكنة. انها الأساسات من البناء. وهذه «الأساسات» تكوّن بدورها مؤشراً يوجّه المشرّع في عمله لتحقيق المقاصد المرجوة من خلال الاعتماد على الجوانب المتحركة القابلة للتكييف التي تتيحها «الشريعة». يقول السيد محمد باقر الصدر: «ان في النصوص الاسلامية من الكتاب والسنة ما يؤكد على قيم معينة وتبنيها. وهذه القيم تشكل أساسا لاستيحاء صيغ تشريعية متطورة ومتحركة وفقاً للمستجدات والمتغيرات تكفل تحقيق ذلك». يمكننا القول اذاً، وتماشيا مع «روح» هذا الكلام، ان المطلوب ليس «ترك» النص ولا التنصل منه، بل إصلاح منهجية الاجتهاد وأدلته، لإيجاد حلول عقلانية لاستنباط الأحكام، أي استخراج القيم العليا الثابتة في الكتاب والحديث، ثم تحديد المصلحة العامة والخاصة المتغيرة حسب الزمان والمكان، ومن بعدها وضع الحلول المنطقية للمسائل المستجدة بما يتلاءم مع تطور التاريخ. حتى لو أدّى ذلك الى نسخ أو تعديل بعض أو ربما جزء كبير مما أفتى به الأئمة الأوائل في العصور التشريعية الأولى، ليس فقط على مستوى الفروع، بل أيضا على مستوى الأصول. وهذا لا ينقص من قدر العلماء الأوائل، بل هم كانوا يحكمون بما يلائم مفاهيم عصرهم وزمانهم. ولو كانوا في القرن الحادي والعشرين، لكانوا بالتأكيد أفتوا بما يتناسب مع هذا القرن وظروفه وشؤونه.
ان الخوف من تحديث الفقه الإسلامي وتطويره فروعا وأصولا فيه نوع من انتقاص من مكانة «النص» وأهمية وثبات مقاصد الشريعة المرتكزة عليه. لأنك لا تخاف أن تحرك إلا ما هو هشّ حسب تقييمك. فقد يوحي تعلقنا الزائد بالظاهر وكأن «المضمون» هشّ بالنسبة إلينا، فيخاف القيمون عليه من أي مساس به فينهار. بل العكس من ذلك هو الصحيح. ذلك ان العقيدة المبنية على العقل والمنطق والوعي والقناعة، هي عقيدة وإيمان راسخان لا يهزهما التقدم الآني والظّرفي مهما كان وقعه. لقد قامت الدعوة الاسلامية على قرينة العقل والمنطق لا بل ان القرآن نفسه مبني على الإعجاز العقلي، حيث تغزر الآيات القرآنية التي تبرز وجود الخالق وعظمته عن طريق حثّ الناس على التفكير والتبصّر. كما تتضمن آيات كثيرة مناظرات فكرية ونقاشات يجري فيها تفنيد الحجج العقلية والرد عليها بصورة علمية منطقية. «وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله ان كنتم صادقين». (البقرة،23) «فلينظر الانسان مما خلق» (الطارق،5).»أفلا ينظرون الى الإبل كيف خلقت، والى السماء كيف رفعت، والى الجبال كيف نصبت، والى الأرض كيف سطحت» (الغاشية،17،18،19،20)...
حين كان العقل الاسلامي في بداياته واثقا بمضمونه ورسالته، متفاعلا مع محيطه، يستنبط فيه الفقهاء الجديد من الأحكام التي تتواءم مع عصرهم وحاجاتهم، كان اختلاط الثقافة الاسلامية بالثقافات الأخرى لا يهزّ أسس الدين ولا يغيّر وجهه. وكان مرور الزمن وتبدّل الأحوال لا يثير الشكوك حوله ولا يضعف عزائم المجتهدين في أصوله وفروعه. لم يكن المسلمون في العصور الذهبية للاجتهاد يتوجسون خوفاً من أفكار الآخرين المعادين لإلههم ولرسولهم، بل كانوا هم الذين ينقلون حضارتهم الى الشعوب الأخرى ويؤثرون عليها بمفاهيمهم ويأخذون ويعطون. كان الإسلام حياً قادراً على المناظرة والمجادلة والمحاججة والمواجهة لا بل في أغلب الأحيان على التفاعل مع تلك الشعوب والاستفادة منها لإعادة النظر بالمظهر والشكل وتحسينهما، بما يغلب المضمون ويبرز المقصد.
وليس أدلّ على عدم قدرة الإسلام على الحياة في أيامنا، إلا خوفه من أي تفاعل مع ثقافات أخرى واتهام أية محاولة في هذا الاتجاه بأنها تغرّب وابتعاد عن جذور الدين. والأسلحة التي تشهر في مواجهة هذا الاحتكاك، ليست المنطق والحجة والبرهان بل التكفير والاتهام بالردة والتمترس وراء كون الدين وحياً منزلاً وليس صناعة إنسانية وبالتالي فلا مكان لأية مناقشة أو تساؤل أو بحث. بل يجري تصوير الدين القويم على انه تمسك بالماضي وبجذور يفوق عمرها الألف سنة وإلمام بأصول وتراث لم يتطورا منذ ذلك الحين.
لقد شهدت القرون الهجرية الاولى وصولا الى القرن السادس ازدهارا فكريا «تقدميا» كبيرا، يعود سببه الى انفتاح مفكّرين - ليس المعتزلة وأبو حنيفة وجعفر الصادق أولهم ولا الفارابي وابن سينا وابن رشد وابن حيان آخرهم - على الثقافات الاجنبية والى عقلنة الخطاب الديني وتنمية الحس النقدي المنطقي والبحث العلمي. كان أكثر هؤلاء يجددون وينشرون فكرهم رغم خطر تضييق وقتل الحاكم الذي لطالما أراد أن يجعل من الدين مؤسسة «مركزية» خاضعة أو شريكة في حكمه فلم ينجح في ذلك. إن ظهور هذه التيارات الفكرية المتنوعة ساهم في تطوير العقل الإسلامي وإغنائه وتوسيعه. هذه الأجواء العقلانية كانت السبب المباشر لتطور الذهنية في المجتمع الإسلامي في ذلك الحين وانفتاحه وتفوقه على التيارات الفكرية التي عاصرته.
لذلك نقول انه من الضروري فصل «القداسة» عن «الشكل» وتوجيهها نحو «المضمون». فالمضمون هو المقدس. ومن هنا: لا يعني تطوير طرق التأويل والتفسير للنص الديني نزع صفة القداسة عنه لا بل بالعكس إبقاء مضمون الإعجاز القرآني والسنة النبوية مقنعين «كإعجاز» لفكر القرن الحادي والعشرين، وقادرين على التواصل مع الواقع المتطور. ولا بدّ هنا من التعامل بجدية وانفتاح مع طروح فصل النص القرآني عن النصوص التفسيرية والتراث الفقهي، كاقتراح المفكّر الجزائري محمد أركون، الفصل بين القرآن والإسلام، للوصول الى إمكانية تجديد الرابط بين الوحي والواقع، بين النص والحداثة.
ان الدعوة الى تطوير المناهج والطرق الاستنباطية بما يتلاءم مع العصر لا تعني أبداً التنكر للتراث أو التقليل من قيمة المجتهدين الأوائل، بل الاعتراف بأن ما قام به هؤلاء كان عظيماً في أيامهم، لكنه لم يعد يستطيع مجاراة تطور الفكر وتبدل الأحوال التي هي سنّة طبيعية للحياة. وقد جعل هذا الركود والخوف لدى علمائنا، جعل الفكر الاسلامي على هامش التيارات الفكرية المعاصرة وغير قادر على إقناع مروحة واسعة من الأجيال التي تعرّفت وعاصرت التطورات الفكرية والفلسفية والعلمية ولم تعد قادرة على الايمان إلا بواسطة الحجة والبرهان لا بالتكفير والقمع الفكري.

جوزف عون..قائد «المؤسسة الصامدة» مرشحاً للمهمة الأصعب..مشروع «شهابية ثانية» ينتظر تبلور إجماع الفرقاء اللبنانيين..

 السبت 19 تشرين الأول 2024 - 4:13 ص

جوزف عون..قائد «المؤسسة الصامدة» مرشحاً للمهمة الأصعب.. مشروع «شهابية ثانية» ينتظر تبلور إجماع ال… تتمة »

عدد الزيارات: 174,726,064

عدد الزوار: 7,766,103

المتواجدون الآن: 0