ثورات عربية بين تحررين: من الآخر الغربي ومن ثقافة الطاعة وغياب إثبات الذات

تاريخ الإضافة الإثنين 1 آب 2011 - 6:15 ص    عدد الزيارات 503    التعليقات 0

        

 ثورات عربية بين تحررين:  من الآخر الغربي ومن ثقافة الطاعة وغياب إثبات الذات
بقلم وجيه قانصو

خاض العرب في أقل من قرن ثورتي حرية: ثورة للتحرر من الآخر الغربي، لم تنجح التجربة العربية حتى الآن في تشييد مؤسساتها، وثورة راهنة على الذات للتحرر من ثقافة الطاعة واثبات الذات.

حين انطلقت ثورات التحرر العربي من الإستعمار الغربي، في فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي، كان لشعار الحرية وقع وجداني عميق في الشخصية العربية، يتطابق مع مسعى تحرر الذات العربية من المستعمر من جهة، وطموحها في استعادة المبادرة التاريخية للنهوض والحضور في العالم من جهة أخرى. كانت الحرية تعني إثبات الذات أمام الآخر الغربي، الأمر الذي عزز مسلك القطيعة معه، ليس في سياساته فحسب بل في مضمونه الفكري والثقافي، وقوّى نزعة البحث عن مدرك ماضوي ومستند تراثي يشكل نقطة انطلاق لمواجهة استحقاقات العصر وتحدياته.
كان مسعى التحرر حينها يتخذ رغبة جماعية وتطلعاً مجتمعياً، فالذات الفردية مندمجة ومنصهرة داخل أنا جمعية تعمل على انتزاع وحماية ما لها من الأنا الغربية.  ما جعل تحقق الفرد لكيانه ووجوده يطابق تحقق ووجود الكيان والإجتماعي الذي ينتمي إليه، وجعل حقيقته ليست أكثر من تعويم للهوية الثقافية والتاريخية التي ينتمي إليها والدفاع عنها. إثبات الفرد لنفسه يعني التخلي الكامل عن خصوصيته وصيرورة آماله وطموحاته الخاصة تطلعات وطنية وقومية ودينية.  فالأنا تحقق نفسها في تخارجها، في منطقة الإشتراك العصبوي مع الآخرين، في حضن هذا "النحن" الحامل لأصول "إصطفائية" ومعجزات تاريخية.  بإيجاز تحقق الأنا كان يفترض تفانيها وتلاشيها وذوبانها داخل كائن خارجها لكنه يشملها. تحقق الأنا كان بنفي الأنا أي باللاأنا.
هذا المزاج ساهم في تولُّد الايديولوجيات التي تضخم الوعي والإنتماء الجماعيين، وتؤسطر حقائق التاريخ الخاصة وتتعالى برموزها الكبار، وتوزع القداسات بطريقة استنسابية، وتلقي على "الأمة" مهمات راهنة فوق إعتيادية.  هذا كله، يتطلب نخبة تقود وترشد وتوجه، أي حزباً قائداً أو رجلاً عظيماً، قادراً على التقاط مفاتيح التحول التاريخي وإحداث الإنتقال المطلوب، لكن بشرط التسليم والإنقياد المطلقين له. فالحرية المنشودة لا بد أن يسبقها استلاب منظم وهادف، وإعلان ولاء وطاعة مطلقين، وتخلٍ مؤقت عن حقوق طبيعية للفرد، ونبذ طوعي للحرية الفردية، كإجراء إنتقالي وضروري لتحقيق الحرية الكبرى للأمة والمجتمع. فالحرية حينها كانت تعني الإنعتاق الجماعي من الضغوط الخارجية، وقدرة الجماعة المتآزرة لتحقيق النمو والنهضة، والتراص الصلب خلف القائد الرمز، بحيث تختفي الألوان والاهواء والميول والحاجات الشخصية، لتحقيق تحرر للجماعة واستعادة لمجدها التاريخي وإحياء للحظاتها الذهبية.  ترجم التحرر تفويضاً مطلقاً للقيادة.
الحاجة إلى رمز وقائد، سهلت إضفاء صفات وخصائص فوق اعتيادية عليه، ومهّدت الإنقياد له والتساهل مع تجاوزاته. إنه الرجل العظيم الذي لا بد من ظهوره لحل المشاكل الكبرى،  وتوحيد الطاقات وتوجيهها نحو النصر والأعمال الكبرى، ومنع الإنقسامات والخلافات. كيف لا وهو حامل لقدرات خارقة فوق مستوى البشر، ما يجعله أهم من الفكرة أو العقيدة نفسها، بحكم أنه يملك أسرارها وقدرة الكشف عن مغازيها. هذا الأمر أدى إلى شخصنة السلطة بدلاً من مأسستها، وحوّل عمل الدولة إلى مزاج وعفوية واستنساب بدلاً من انتظام عقلاني وتخطيط ورؤى علمية، وأخذ مع الزمن يركز مصالح المجتمع بيد قلة منتفعة صارت السلطة أداة ووسيلة لنمائها وحمايتها، والأهم من ذلك كله، أضعف إستعداد المجتمع العربي للديموقراطية، بحكم الميل الجمعي بالتسليم الكامل والطوعي للقيادة، مع شعور أو إشعار دفين بالقصور العام وعقدة الذنب التي لا يمكن التطهر منها إلا بالبيعة والولاء، الأمر الذي صيَّر الحكم عملاً فردياً لا ينفصل عن مزاج الحاكم وصيَّر موارد النظام حلقة انتفاع ضيقة.
الذي حصل أن التحقق الجماعي لم ينجز، بل تعرض لانتكاسات ونكبات في أكثر من صعيد، كانت نكسة 1967 الرسالة البينة على وهم الرجل العظيم، تلتها حربا الخليج التي عكست تضخم الشخصانية في القيادة السياسية إلى حد التهور والمغامرة في تغيير خريطة المنطقة السياسية. وهي رسائل بدأ الجمهور العربي يلتقطها ولو ببطء، ويشعر مع الزمن أن القيادة التي فوض إليها قيادة عملية التغيير تحولت إلى نخبة ضيقة أخذت تجيِّر مقدرات الدولة الامنية والبوليسية لاستمرارية وتأبيد مواقعها، وأن مؤشرات الأُميَّة وإحصاءات انتهاك حقوق الإنسان استمرت في تصاعدها السريع، وأن معدلات النمو استمرت في التناقص، فتزايد معها معدل البطالة ونسب ما تحت الفقر، هذا بالإضافة إلى الفشل في إدارة الصراع مع إسرائيل.
كل ذلك خلق ثنائية دولة-مجتمع مليئة بالتناقضات وعناصر التفجر، ما جعل الذات العربية تخرج من تجربة التحرر الأولى، منتكسة، مقهورة، مستلبة في خيارها السياسي، منجرحة في هزائمها المتكررة. ووجدت نفسها وجهاً لوجه أمام سلطة مشخصنة، تركزت كامل طاقتها وإبداعاتها في تحويل الدولة إلى آلة قمع للمجتمع، ومصادرة الفرد بصفته صاحب الحق في تحقيق وجوده الخاص والتعبير عنه.
كانت الثورات العربية الأخيرة، نتيجة منطقية وثمرة تاريخية للإمعان المتراكم في تهميش المجتمع لمصلحة النخبة الحاكمة، وللخلل الفاضح في توزيع الثروات، وللفشل البشع في الدخول في الحداثة بعد تحويلها إلى تحديث شكلي خالٍ من أية شروط فكرية أو بنية إنتاجية.
تبين أن هنالك تنازلات لرزمة هائلة من الحقوق قدمها المجتمع لمصلحة سلطة متضخمة، كانت تجيد تصوير هذه التنازلات حقاً مكتسباً وأزلياً لها.  تبين أن الوقت قد حان لاستعادة هذه الحقوق، والتأسيس عليها لبناء واقع سياسي جديد، فكانت لحظة التمرد التاريخية على الإستبداد، التي تأخرت عن لحظة تحذير الكواكبي من طبائعها، بما يزيد على قرن، حين نبه إلى خبثها الخفي وشراستها الناعمة، وإلى أن صفوة خيرها شر مطلق.  إنها اللحظة التي حسم فيها الجيل العربي الجديد أمره بأن الحرية شيء لا يعار ولا يؤجل ولا يرجأ، هو أصل الاصول، الذي تُنقَّى به الذاكرة من إكراهات الماضي، ويعاد به توليد طاقة الإندفاع نحو المستقبل.     
لأول مرة يتحرر الخيال العربي من عقدة الحاجة إلى "الرجل العظيم"، ويتواجه الفرد مع مصيره، ويتقابل المجتمع وجهاً لوجه مع مشاكله الحقيقية والمؤلمة والخطرة، التي لم تزدها السلطات السابقة إلا تأزماً وتفاقماً. انقلب التحرر من نزعة إلى تحصين الأنا الجماعية مقابل "أنوات" جمعية أخرى، إلى تحرر الفرد من الجماعة وتحرر الجماعة من سلطة الحاكم الفرد. وبتنا نشاهد أفراداً يتكلمون ويعبرون عن حيزهم الخاص المزاحم للحيز العام، وبتنا نسمع أصداءً واقعية للمجتمع بعدما غلّفته السلطة وسدَّت منافذه بغطاء فولاذي.  
خاض العرب في أقل من قرن ثورتي حرية: ثورة للتحرر من الآخر الغربي، لم تنجح التجربة العربية حتى الآن في تشييد مؤسساتها وتصويبها في اتجاه التعددية والعقلنة، وثورة راهنة على الذات للتحرر من ماضيها المرتبك ومن ثقافة الطاعة لديها، ومن نظم علاقاتها الداخلية التي أغفلت مكونات إنسانية جوهرية لارتقاء الحياة وفرحها ولتحقيق التفرد والتمايز وإثبات الذات الفردية قبالة الآخرين. وهي ثورة لا تزال في طور الغضب والاحتجاج، لم تتوافر لديها حتى الآن مقدماتها الفكرية ومناخاتها التربوية وذهنياتها النقدية وروحها التجاوزية.


(أستاذ جامعي)      

جوزف عون..قائد «المؤسسة الصامدة» مرشحاً للمهمة الأصعب..مشروع «شهابية ثانية» ينتظر تبلور إجماع الفرقاء اللبنانيين..

 السبت 19 تشرين الأول 2024 - 4:13 ص

جوزف عون..قائد «المؤسسة الصامدة» مرشحاً للمهمة الأصعب.. مشروع «شهابية ثانية» ينتظر تبلور إجماع ال… تتمة »

عدد الزيارات: 174,814,011

عدد الزوار: 7,767,867

المتواجدون الآن: 0