في برنستون "تركيا تتحرك"

تاريخ الإضافة الجمعة 3 نيسان 2009 - 5:00 م    عدد الزيارات 856    التعليقات 0

        

مصطفى اللباد - نيو جيرسي

 شاركت بسرور في فاعليات مؤتمر "تركيا تتحرك" أو (Turkey in Motion) الذي نظمته جامعة "برنستون" الأميركية قبل أسبوع، إلى جوار نخبة من خبراء الشؤون التركية من أميركا ومختلف دول العالم. تميز المؤتمر بأهمية خاصة واستثنائية بسبب أنه عقد في جامعة برنستون الشهيرة، وهي إحدى أفضل الجامعات في العالم من حيث البحث العلمي، وفي الوقت نفسه أحد المنابر الممتازة لمخاطبة النخبة السياسية والأكاديمية الأميركية. وزاد المؤتمر أهمية على أهميته بمشاركة البروفيسور أحمد داود أوغلو، مستشار رئيس الوزراء التركي للشؤون الخارجية، والذي ألقى كلمة الافتتاح المليئة بالعبر والدروس بل حتى الفنون! دارت جلسات المؤتمر في قاعة جونز التي تضم قسم دراسات الشرق الأدنى، وهي عبارة عن مبنى عريق على الطراز الانجليزي يتكون من قبو تعقد فيه المؤتمرات وطابقين. المفروشات أثرية وفخمة، فيشعر الجالس في هذه القاعة أن الزمان قد رجع به إلى العصر الفيكتوري، وعلى بعد أمتار قليلة من صالة انعقاد المؤتمر يقع مكتب المستشرق الأشهر في عصرنا الراهن: برنارد لويس.
أبى السياق الزمني للمؤتمر أن يتنازل عن أهميته الفائقة بدوره، حيث انعقد على خلفية زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى تركيا، وهي الزيارة الأولى التي يقوم بها إلى بلد إسلامي.  تعد جامعة برنستون أحد أهم المنابر الأميركية لمخاطبة القطاعات المذكورة، لأنها تشكل إضافة إلى جامعتي "هارفرد" و"ييل" ما يطلق عليه في أميركا "مجموعة الثلاثة الكبار". ويقصد بهذا المصطلح الجامعات المفضلة لدى الطبقة العليا في الولايات المتحدة، حيث يتوزع خريجو جامعة برنستون على مفاصل السياسة والاقتصاد في أميركا؛ ويكفي للتدليل على نفوذ الجامعة وطابعها النخبوي اجتماعياً وسياسياً ملاحظة أن جيمس ماديسون، الرئيس الرابع للولايات المتحدة الأميركية، وأيضاً وودرو ويلسون الرئيس الثامن والعشرين، وسيدة أميركا الأولى ميشيل أوباما كلهم من خريجي جامعة برنستون.
مثّلت الجامعات على الدوام تلك الوسيلة الممتازة التي لا تستغني عنها المجتمعات المتقدمة لتعزيز مكانتها العلمية والاقتصادية على المستوى الدولي، لذلك لم تقلّ أهمية الجامعات يوماً عن أشد الأسلحة فتكاً وأكثر تقنيات الاتصال تقدماً. وكلما كانت الجامعة محققة لهذه الأهداف كلما تقدم موقعها عالمياً وذاعت شهرتها، وأصبح اسمها ذائعا في المحافل الأكاديمية والعلمية، وكلما سعى إليها السياسيون من مختلف دول العالم لمخاطبة النخبة الأكاديمية والسياسية؛ وهو ما فعله أحمد داود أوغلو بالضبط في المؤتمر المشار إليه. تميزت الأوراق المقدمة للمؤتمر بمستوى عال من المعرفة والرتابة الأكاديمية في آنٍ واحد، ولكن كلمة أحمد داود أوغلو كانت لافتة في حبكتها وصياغتها وعاكسة للكثير من الذكاء. قدم أوغلو خطاباً سياسياً راقياً شرح فيه أهمية تركيا استراتيجياً لواشنطن؛ بحيث ربط بين مصالح تركيا الوطنية وتحقيق المصالح الأميركية في قوس جغرافي كبير ممتد من آسيا الوسطى والقوقاز والشرق الأوسط وحتى شرق المتوسط.
تميز خطاب أوغلو بأقل قدر من الخطابة الشرقية المعروفة مع أقصى قدر من الحنكة السياسية، لأنه أسند دائماً سياسات تركيا الخارجية إلى تناغمها مع المصالح الأميركية. بمعنى آخر حاول أوغلو أن يقول إن تحقيق تركيا مصالحها في جوارها الجغرافي يعني تحقيق الولايات المتحدة الأميركية مصالحها هناك أيضاً، حتى أنه دافع عن سياسة بلاده حيال الصراع الآذري-الأرميني وانحيازها لمصلحة أذربيجان، مع ملاحظة وجود لوبي أرميني قوي في الولايات المتحدة الأميركية قوامه مليون ونصف أميركي من أصل أرميني، بطريقة فريدة بالقول: "لو ضاعت أذربيجان سيخسر التحالف الأطلسي التوازن في كامل القوقاز وآسيا الوسطى لمصلحة موسكو وتحالفاتها هناك". ولم يكتفِ أوغلو بذلك بل أنه اعتبر أرمينيا فقيرة الموارد وحبيسة جغرافيا ولها أسوأ وضع جيوبوليتيكي في القوقاز مقابل أذربيجان المهمة جغرافيا والغنية بموارد الطاقة. والحال أن هذا التوصيف صحيح في أحد جوانبه لأن أرمينيا حبيسة جغرافياً وفقيرة فعلاً، ولكن هذا البلد الفقير والحبيس يمنع تركيا مع ذلك من الوصول براً إلى القوقاز وآسيا الوسطى، ويعيق تركيا بالتالي عن التصدير وجني فوائد اقتصادية ضخمة، مثلما يحول بينها وبين تمديد حضورها الاستراتيجي عبر كامل القوقاز وصولاً إلى آسيا الوسطى. 
يعود أحمد داود أوغلو ليظهر مهاراته الإستراتيجية والخطابية حين يقول أن "السلام مهم لتركيا لأنه يسمح لها بتظهير نجاحاتها الاقتصادية وتوسيعها"، ولذلك فإن تركيا تتوسط في عمليات سلام مختلفة في المنطقة. وإذ يشدد أوغلو على وزن تركيا الإقليمي والدولي، فإنه يبرز أهمية حيازتها لمشروع يتم تسويقه، ولذلك فتركيا –حسب أوغلو- لا مصلحة لها في التوتر والأزمات لكي تتوسط وتحصل على دور كما يعتقد البعض. أصبحت أعمال داود أوغلو الفكرية بمثابة القوام الأساسي لحركة السياسة الخارجية التركية، أما أهم هذه الأعمال وسبب شهرته خارج تركيا فهو كتاب "العمق الاستراتيجي" الذي ألفه عام 2001 وطبعت منه 27 طبعة حتى الآن.
يريد أوغلو أن يجعل تركيا على مسافة واحدة من جميع الأطراف الإقليمية وأن يفكك عزلتها والعداوة التاريخية بينها وبين جيرانها، وصولاً إلى المشاركة في السياسة الإقليمية من موقع الفاعل. ويعني اختيار عنوان الكتاب موقفاً مبدئياً سلبياً من مقولة "تركيا جسر الحضارات" الرائجة في المنطقة، لأنه يريد لتركيا أن تكون صانعة سياسات لا جسراً أو ممراً مثلما كانت ربما في السابق. يتلو هذا الكتاب في الأهمية مؤلفه الموسوعي الصادر عام 2005 بعنوان: "عثمانلي مدنيتي: سياست، اقتصات، كلاسيك"، ونص العنوان لا يحتاج إلى ترجمة!
لم يفت أوغلو الاعتذار في المؤتمر بذكاء ولباقة عن موقف تركيا الرافض للمشاركة في الحرب على العراق 2003، حينما قال "أكدت واشنطن أن صدام عنده أسلحة كيميائية، ولو سمحنا للقوات الأميركية بالعبور لضرب العراق كان من الممكن أن يضرب صدام تركيا بأسلحة كيميائية خلال خمس دقائق"، قبل أن يثير سؤال: "من سيتحمل المسؤولية ساعتها أمام التاريخ؟".
يصافحك داود أوغلو بكثير من الحرارة قبل أن يحييك بلغة عربية مع لكنة مصرية: "مساء الخير"، ويروي أوغلو لك في حديث العشاء أن هناك ثنائيتين تحكمتا في تجربته الشخصية. الثنائية الأولى ظهرت مع انتقاله من بروفيسور جامعي في العلوم السياسية إلى مستشار رئيس الوزراء وهي ثنائية النظرية-التطبيق، والثنائية الثانية فرضت نفسها بعد استلامه لمهماته وهي المثالية-الواقع في إدارة العلاقات الدولية. لا تملك سوى الإعجاب بقدرات أوغلو العالية في التفكير الإستراتيجي كما في إيصال الرسائل السياسية ومخاطبة النخبة الأميركية، وبالرغم من قدرات أوغلو العالية والظروف الإقليمية المواتية لتركيا حتى تنخرط في توازنات الإقليم، إلا أن أوراق تركيا الأساسية مازالت خارج المنطقة، وبالتحديد في أميركا خصوصاً ونصف الكرة الغربي عموماً.    
تحتفظ إيران، التي ألمح أوغلو إلى أن نموذجها السياسي يفتقر الى الجاذبية التي تجعله قابلا للتسويق في المنطقة والعالم، بأوراقها السياسية داخل المنطقة وليس خارجها مثلما هي حال تركيا. وتؤدي هذه النتيجة إلى صعوبة قيام تركيا بدور إقليمي كبير مقارنة بإيران التي لا تملك اقتصاداً شبيهاً بالاقتصاد التركي ولا علاقات دولية مناظرة ولا حتى قدرات عسكرية مقاربة، ولكنها تمتلك تحالفات إقليمية راسخة عملت على تثبيتها في المنطقة منذ ثلاثة عقود على الأقل. كما أن قدرات تركيا الاقتصادية والعسكرية وتحالفاتها الدولية لا تؤهلها مع ذلك للعب دور إقليمي في كل جهات جوارها الجغرافي الفريد سواء في البلقان أو القوقاز أو الشرق الأوسط أو البحر الأسود وحتى شرق المتوسط، إذ لا يستطيع لعب كهذا دور سوى القوى العظمى وهي بديهة من بديهيات العلاقات الدولية.
تخرج من بوابة جامعة برنستون منهمكاً في مقايسة أوراق الداخل الإيرانية بأوراق الخارج التركية، فتعرف على وجه الدقة علة الخروج المدوي للدول العربية من تاريخ المنطقة!.

لمحة عامة: "سرايا الجهاد"..

 الجمعة 27 أيلول 2024 - 10:01 ص

لمحة عامة: "سرايا الجهاد".. معهد واشنطن..بواسطة ساري المميز, عبدالله الحايك, أمير الكعبي, مايكل ن… تتمة »

عدد الزيارات: 171,968,300

عدد الزوار: 7,652,438

المتواجدون الآن: 0