العلاقات التركية ـ الروسية: شراكة اقتصادية أم عداوة أبدية؟ (1)

تاريخ الإضافة الثلاثاء 23 تشرين الأول 2012 - 7:12 ص    عدد الزيارات 706    التعليقات 0

        

 

العلاقات التركية ـ الروسية: شراكة اقتصادية أم عداوة أبدية؟ (1)
هيلـين سـاري ايرتم
كانت العلاقات التركية - الروسية مسألة شديدة التعقيد بسبب طابعها المتعدد الأبعاد، فعلى الرغم من التحسن التدريجي للعلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في العقدين الماضيين، إلا أن الأثر السلبي لسنوات الحرب الباردة -عندما كان ينظر إلى الاتحاد السوفياتي الشيوعي من قبل تركيا باعتباره تهديداً للأمن القومي- لم يتم التمكن من إزالته تماماً. وما انفك هذا الآثر ظاهراً في صورة «انعدام الثقة» في كلا الجانبين. تعاني تركيا وروسيا أزمة الثقة هذه، وخصوصاً في أوقات الأزمات السياسية، وتميلان إلى وضع نفسيهما ـ عادة - على طرفي نقيض. يفترض هذا المقال أنه على الرغم من تحسن العلاقات التركية - الروسية إلى حد واسع، بالأخص في العقد الأخير خلال فترة حكم فلاديمير بوتين و«حزب العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا، إلا أن البلدين لا يزالان يتشككان بعضهما في بعض بسبب تصوراتهما السلبية الموروثة من الماضي. يبدو الأمر وكأن العلاقات الروسية - التركية حوصرت بين حدي الشعور «بالعداء» وإقامة «شراكة اقتصادية» عملية وواقعية.
التحيزات التاريخية وما بعد الحرب الباردة
لم تكن العلاقات التركية - الروسية أبداً مثالية، إذ تشكل الحروب الروسية - التركية في العهد العثماني حقبة من الذكريات المريرة في العقل التركي العادي. وبالرغم من وجود مناخ أكثر دفئاً نسبياً بين تركيا والاتحاد السوفياتي في سنوات الجمهورية الأولى، قبل بداية الحرب العالمية الثانية، ظهر الاتحاد السوفياتي مرة أخرى باعتباره تهديداً لأمنها القومي. ونتيجة لذلك، تحول مصطلح «Moskof» (موسكو) إلى مفهوم سلبي الشعبية، وخاصة من قبل اليمين السياسي في تركيا. واستخدم وجود رصيد من التحيزات التاريخية، ليعكس الكراهية ضد «الاتحاد السوفياتي الشيوعي» الذي وصف بأنه «العدو الأبدي للأتراك». أصبحت مناهضة الشيوعية سياسة الدولة التركية منذ 1946-1947، وذلك بدعم قوي من المؤسسة العسكرية التركية، وتحولت إلى وسيلة في المقارعات السياسية، واستخدمها القوميون الأتراك والمحافظون الإسلاميون. وعلى هذا، لا سيما خلال فترة الحرب الباردة، تم استخدام مصطلح «Moskof»، والذي كان يهيمن هيمنة كبيرة على صورة «العداء الروسي» في الذاكرة الجماعية التركية، كمادة لاصقة لسد كسور مختلفة للجناح اليميني التركي، في حين صك مصطلح «Moskof Uşağı» (خادم موسكو) لتشويه سمعة الجناح اليساري.
مع انهيار الاتحاد السوفياتي العام 1991، ذهبت العلاقات التركية - الروسية إلى أن التحول في طبيعتها يعد أمراً لا مفر منه. ونتيجة لذلك، جاءت فترة نشطة من العلاقات الديبلوماسية والاقتصادية وتم تعزيزها من خلال «معاهدة حول مبادئ العلاقات بين جمهورية تركيا والاتحاد الروسي»، وقعت يوم 25 مايو/أيار العام 1992. ويمكن اعتبار هذه المعاهدة الأساس لحقبة جديدة من العلاقات التركية - الروسية، والمبادئ التي تشكل أساسا للعلاقات بين البلدين. وشددت المعاهدة خصوصاً على جوانب الندية في العلاقات، مثل احترام السيادة والسلامة الإقليمية، والمساواة في الحقوق والمصالح المتبادلة، والامتناع عن استخدام القوة أو التهديد باستخدام القوة في حل المشاكل. واكتسبت العلاقات الثنائية بين البلدين، التي طالما كانت ضحية للحرب الباردة والاستقطاب العالمي، جانباً مهماً لا يمكن تجاهله بعد الآن بسبب الديناميات الجديدة الإقليمية والعالمية. وعلى الرغم من التوقعات من الغرب الليبرالي، الذي تمتع بالشعور بفوز اصطناعي لفترة من الوقت، واصلت روسيا لعب دور هام في القوقاز وآسيا الوسطى.
فهمت تركيا أن علاقتها مع روسيا إما كشريك أو كمنافس، واستوعبت أن مصائر البلدين ستتزامن في كثير من الأحيان. كانت قضية الإرهاب واحدة من القضايا المثيرة للجدل بين البلدين خلال التسعينيات من القرن المنصرم؛ والتي أثرت على كلا الجانبين بسبب مشكلة «حزب العمال الكردستاني» في تركيا ومشكلة الشيشان في روسيا. وفي 5 نوفمبر/تشرين الثاني 1999، وقعت الدولتان «الإعلان المشترك على مكافحة الإرهاب»، وأكد كلاهما أن العلاقات الاقتصادية من الممكن تطويرها إلى الأفضل من خلال فهم سياسي مشترك، ولا سيما بشأن القضايا المتعلقة باستقلالية أراضيها.
تحسين العلاقات الاقتصادية ودور مشاريع الطاقة
على الرغم من أن مناطق مثل القوقاز وآسيا الوسطى أصبحت بطبيعة الحال مسألة للتنافس بين البلدين في حقبة ما بعد الحرب الباردة، فقد تمكنت كل من أنقرة وموسكو من إيجاد أرضية مشتركة لدفع الفرص المتبادلة، خصوصاً من قبل فلاديمير بوتين و«حزب العدالة والتنمية» التركي في الألفية الجديدة. اتجهت العلاقات الروسية والتركية نحو مرحلة أكثر واقعية من شأنها أن تركز أساسا على التعاون بدلاً من الصراع، ولذلك تم توقيع «خطة العمل المشتركة للتعاون في أوراسيا» بين البلدين في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2001، وهي الوثيقة الرسمية الأولى التي ذكرت بناء «شراكة متعددة الأبعاد» بين أنقرة وموسكو. ومع هذه الوثيقة، يهدف الجانبان من خلالها إلى توسيع مجالات التعاون ووضع سياسات مشتركة بشأن قضايا مختلفة، مثل دول البلقان والقوقاز وأفغانستان. وشددت أيضاً على رغبة تركيا وروسيا في تطوير العلاقات الاقتصادية الثنائية والمتعددة الأطراف. وفي هذا الصدد؛ فقد كانت زيارة وزير الخارجية التركي وقتذاك عبد الله غول إلى موسكو في 23-26 فبراير/شباط عام 2004 حدثاً هاماً حيث فتح جبهة مشتركة بين رجال الاعمال الأتراك والروس. وتأكد ذلك مع «تعزيز الشراكة المتعددة الأبعاد» بزيارة الرئيس الروسي بوتين إلى تركيا في 5-6 ديسمبر/كانون الأول 2004. ونتيجة لذلك، أصبحت تركيا خامس أكبر شريك تجاري لروسيا، قبل اليابان والولايات المتحدة والمملكة المتحدة، فيما ظهرت روسيا باعتبارها أكبر شريك تجاري لتركيا قبل ألمانيا. وبلغ حجم التجارة التركية - الروسية 30 مليار دولار في عام 2011، ويتوقع للصادرات التركية إلى روسيا أن ترتفع إلى مستوى 7,5 مليارات دولار في عام 2012.
تعتبر قطاعات البناء والسياحة الرائدة في الاقتصاد التركي عموماً، والعلاقات الاقتصادية التركية - الروسية خصوصاً. وبحلول عام 2011، بلغ عدد الشركات التركية العاملة في روسيا حوالي 2000 باستثمارات إجمالية قدرها سبعة مليارات دولار. وتعد تركيا مقاولاً أساسياً في مناطق الاتحاد السوفياتي السابق، ويقع ما يقرب من ربع مجال التشييد والبناء التركية في روسيا. وعلاوة على ذلك، لا تزال قضية نقل موارد الطاقة من أوراسيا إلى الغرب في مركز العلاقات الاقتصادية التركية ـ الروسية.
كانت قضية الطاقة دائماً واحدة من القضايا الأكثر أهمية في التعاون بين تركيا وروسيا منذ فترة الثمانينيات. وتعتبر روسيا ثامن أكبر احتياطي للنفط وأكبر منتج للنفط في العالم (500 مليون طن في السنة)، متجاوزة بذلك المملكة العربية السعودية. وهي أيضاً صاحبة أكبر احتياطي من الغاز الطبيعي وثاني أكبر منتج للغاز الطبيعي في العالم (650 مليار متر مكعب في السنة). وفي عام 2010، صدّرت روسيا حوالي 250 مليون طن من النفط ونحو 200 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي. ولهذه الأرقام تأثير مباشر، ليس فقط على اقتصاد روسيا، بل أيضاً على سياستها. ويعود السبب الرئيس في ذلك إلى توجه بوتين إلى استخدام موارد الطاقة كسلاح للحصول على النفوذ والامتيازات من الدول الأخرى. ونتيجة لذلك، يمكن التحكم بأسعار الغاز في كثير من الأحيان، ما يمكّن روسيا من الضغط على الجمهوريات السوفياتية السابقة في آسيا الوسطى والقوقاز، فضلاً عن معاقبة مختلف الدول المستوردة عند الضرورة، وتركيا يمكن أيضاً أن تكون محلاً لذلك.
تبرز تركيا، بفضل موقعها الجيو ـ سياسي على مفترق طرق عدة في مشاريع خطوط الأنابيب للنفط والغاز، كمركز للطاقة الكامنة في المنطقة. ومنذ نهاية الحرب الباردة، حاولت أن تصبح دولة عبور رئيسية لنقل الطاقة من منطقة بحر قزوين والقوقاز والشرق الأوسط إلى أوروبا. وفي هذا الصدد، تم تعليق أهمية كبيرة على مشروع خط أنابيب النفط (BTC)، الذي يشكل جزءاً بالغ الأهمية لخطة الولايات المتحدة الممثلة في «ممر الطاقة بين الشرق والغرب». يحمل هذا المشروع النفط الأذربيجاني من بحر قزوين إلى البحر المتوسط عبر الأراضي الجورجية والتركية. ويتوقع لهذا المشروع الذي تم تفعيله عام 2003، أن يستمر لأربعين عاماً مقبلة، كما يمكن تمديده لمدة عشرين عاماً أخرى. ومن المتوقع أن تحصل تركيا على عوائد تتراوح بين 340-500 مليون دولار كفائدة سنوية من مشروع BTC، وهو ما أدى إلى تحفيز مشاريع الغاز الطبيعي والمشاريع النفطية الأخرى المختلفة في منطقة أوراسيا. ويعد مشروع خط أنابيب نقل الغاز الروسي «بلو ستريم»، الذي قادته الولايات المتحدة، مثالاً على ذلك. وتم الاتفاق على بناء هذا الخط بين روسيا وتركيا تحت البحر الأسود في عام 1997، عندما خابت آمال البلدين بسبب نهج الدول الأوروبية السلبي تجاههم. وبرؤية احتمالات فوائد اقتصادية أخرى، قررت الدولتان تحويل الخصومة الجيو-سياسية بينهما إلى شراكة اقتصادية وتعزيز الجانب الآسيوي من سياساتهما الخارجية في الألفية الجديدة. ويهدف خط أنابيب «بلو ستريم»، الذي افتتح رسمياً في العام 2005، إلى السماح لتركيا بشراء ستة عشر مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي من روسيا لمدة خمسة وعشرين عاماً. تتطلع تركيا، في محاولتها لأن تكون دولة عبور للطاقة، إلى لعب دور أكثر نشاطاً كعضو منظمة حلف شمال الأطلسي ومرشح محتمل للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وعلى ذلك تملك تركيا القدرة على تنويع طرق ودول الاتحاد الأوروبي لاستيراد الطاقة، وبالتالي تقليل اعتماد الأخيرة على روسيا. ومع ذلك، فإن روسيا تستمر في كونها أكبر مورد للغاز الطبيعي إلى أوروبا، بهدف حماية موقعها القوي في سوق الطاقة العالمية. وبسبب العلاقة الحساسة من الناحية التاريخية بين الغرب وروسيا، فكل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يحاول أن يقلل من الاعتماد على الطاقة القادمة من روسيا. ويعتبر مشروع خط أنابيب «نابوكو»، الذي بدأ رسميا في 13 يوليو/تموز 2009، نتيجة لجهد من هذا القبيل. يهدف هذا الخط الذي يبدأ من شرق الأناضول، إلى نقل الغاز الطبيعي الإيرانى من القوقاز إلى النمسا، وذلك من خلال تركيا وبلغاريا ورومانيا والمجر. على الرغم من ان الحظر الذي يطبق على ايران من جانب الغرب يخلق بعض المشاكل بالنسبة لمستقبل هذا الخط، فلا يزال «نابوكو» مشروعاً بديلاً قيماً للولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي بغرض التنويع في تلبية الاحتياجات من الطاقة. وعلى الرغم من هذه الجهود الغربية، فقد وجدت روسيا وسائل أخرى للعب بشكل أفضل في لعبة الطاقة الكبرى. وبخصوص ذلك، فقد دشنت موسكو «ساوث ستريم»، أي خط أنابيب نقل الغاز الطبيعي لتقوية موقفها في استراتيجيات نقل الطاقة. ومن المقرر أن يعمل «ساوث ستريم» لنقل ثلاثة وستين مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا سنويا، عبر البحر الأسود. ومن المثير للاهتمام، أنه تم التوصل لاتفاق بين روسيا وتركيا في 6 أغسطس/أب 2009، أي بعد وقت قصير من بداية الإعلان عن خط أنابيب «نابوكو». ومع هذا الاتفاق، فإن خط أنابيب «ساوث ستريم» سيمر من المياه الإقليمية التركية في البحر الأسود، بدلاً من الأوكرانية، ويضمن بالتالي توزيع الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا. وأدت زيادة استهلاك الغاز الطبيعي من روسيا معطوفة على ارتفاع أسعار الطاقة إلى وضع تركيا في موقف صعب، يتمظهر في خلل بالميزان التجاري. وعلى الرغم من أن هذه القضية لم تثر حتى الآن، فإن بعض الخبراء يدّعون أن اعتماد تركيا المفرط على الغاز الطبيعي الروسي قد يسبب تأثيراً متنامياً على السياسة التركية مستقبلاً. يقلق هذا الأمر السياسيين، وخصوصاً بالنظر إلى المشاعر المعادية لروسيا في المجتمع التركي. وعلى الرغم من الترابط الاقتصادي الأخير، فإنه ليس من السهل محو ذكريات مريرة من الماضي، واستبدالها بنهج جديد في العلاقات التجارية والثقافية والسياسية.
ـ أستاذة في قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية-جامعة يلديز التقنية اسطنبول.

لمحة عامة: "سرايا الجهاد"..

 الجمعة 27 أيلول 2024 - 10:01 ص

لمحة عامة: "سرايا الجهاد".. معهد واشنطن..بواسطة ساري المميز, عبدالله الحايك, أمير الكعبي, مايكل ن… تتمة »

عدد الزيارات: 171,965,614

عدد الزوار: 7,652,370

المتواجدون الآن: 0