أيَّ ســـوريــا نـريــد

تاريخ الإضافة الجمعة 10 حزيران 2011 - 6:52 ص    عدد الزيارات 609    التعليقات 0

        

سجعان القزي
معظمُ اللبنانيين حيارى: أيّ سوريا يؤيّدون، بل أيّ سوريا يريدون؟ هي المرةُ الأولى يخضعُ اللبنانيون فيها لمثلِ هذا الامتحان. إنه تقدُّم نوعيّ، فبعد أن كنا نَخضَع لسوريا ـ وبعضُنا يفضِّلها على لبنان ـ صار يَحُقّ لنا أن نختارَ بين سوريا النظام وسوريا الاحتجاجات. غابراً، قال المفكِّرُ الفرنسيُّ فرنسوا مورياك: "لِفَرْط حبي لألمانيا، أحب أن أراها أَلمانيتَين"؟ نحن نريد سوريا واحدة. ونَشجُب مؤامرةَ إعادةِ تقسيمِها خمس دويلاتٍ كما كانت حتى الربعِ الأولِّ من القرن العشرين: دمشق، حلب، اللاذقية، جبل الدروز، واسكندرون. يستطيع اللبنانيون أن يؤيدوا النظامَ أو الثورةَ في كلٍّ من تونس ومِصرَ وليبيا واليمن من دون خِشيةِ حصولِ انعكاسٍ خطيرٍ على الوضعِ اللبناني، لكنهم لا يستطيعون اتخاذَ موقفٍ حاسمٍ تِجاه أحداثِ سوريا من دونِ تقديرِ العواقب. فعلاوةً على الجِوار الجغرافي المباشَر، تحتفظُ سوريا بامتدادٍ سياسيٍّ وأمنيٍّ وطوائفيٍّ في لبنان، كما أنّ نِصفَ اللبنانيين مع النظامِ ونِصفَهم الآخر ضِدّه. وبالتالي، إن موقِفَ لبنان حِيال سوريا لن يكونَ مُوجَّهاً نحو دمشق فقط، بل نحو نِصفِ لبنانَ على الأقل. إن سوريا هي، واقعياً، موضوعٌ لبنانيّ داخلي. واللافتُ هنا أمران: الأول: ان الانقسامَ اللبنانيَّ، هذه المرّة، لا يَتخذ طابَعاً مسيحياً ـ إسلامياً؛ فالحريصون على بقاءِ النظامِ السوريِّ يَنتمون إلى كل الطوائفِ، وكذلك المتعاطفون مع المحتجّين. والثاني: إن الّذين قاوموا الاحتلالَ السوريَّ سابقاً هم، عموماً، أكثرُ المتحفِّظين عن المطالبةِ بإسقاطِ النظام السوري اليوم؛ ما يؤكد أنّ مقاومَتهم جيشَ الاحتلالِ السوري بين سنتي 1975 و2005 لم تكن عِداءً فِطريّـاً أو جُزءاً من مؤامرةٍ خارجية، بل دفاعاً عن استقلال وطنٍ وكرامةِ شعب. بعيداً عن الأهواءِ المختلِفة، هناك مجموعةُ معاييرَ وثوابتَ من شأنِها أن تساعدَ اللبنانيين على صَوْغِ موقفٍ مسؤولٍ من الأحداثِ الطويلةِ الأمدِ في سوريا: 1. المعيارُ الأول هو العَلاقاتُ بين لبنانَ وسوريا. هذه العلاقاتُ هي خاصةٌ ومُميَّزةٌ أساساً بين الشعبين لا بين الدولتين، لا بل هي موجودةٌ قبلَ نشؤِ الدولتين اللبنانية والسورية. ولا قيمةَ لتأييدِ لبنان للنظامِ السوري ما لم يَستند إلى مفهومِ التضامن بين الشعبين. والواقعُ أن العَلاقاتِ ما كانت سيئةً مع الشعبِ السوري، بل مع الأنظمةِ السوريةِ المتعاقبةِ منذ قيامِ دولةِ لبنان واستقلالِها. من هنا يَتوجَّب على اللبنانيين كافةً إقامةُ توازنٍ بين النظامِ والشعبِ في سوريا لئلا يَسقطَ مُكوِّنُ التاريخِ عن العَلاقاتِ الثنائيةِ ويبقى مُكوِّنُ السلطةِ فقط (مرحلةُ ما بعد الطائف). 2. المعيارُ الثاني هو الاستنادُ إلى معاهدةِ "الصداقةِ والأخوّة" اللبنانيةِ السوريةِ وميثاقِ جامعةِ الدول العربية وميثاقِ الأممِ المتحدة. فهذه المرجِعياتُ الثلاث، الثنائيةُ والعربيةُ والدولية، تَنصّ على أن تحترمَ الدولُ والشعوبُ سيادةَ بعضِها البعض، وألا تتدخّلَ في الشؤونِ الداخلية لكل دولة. لكنَّ المؤسفَ أن النظامَ السوريَّ لم يَحترم هذه المرجعياتِ الثلاثَ في سلوكِه تجاه لبنان. فرغم كلِّ متاعبِه الداخليةِ الحالية، ورغم تحاشي غالِبيةِ اللبنانيين التورط في الأحداثِ السورية، لا يزال هذا النظامُ يَتصرّف تجاه لبنانَ بطريقةٍ سلبيةٍ بِدءاً مِن موضوعِ الحكومةِ وصولاً إلى إثارةِ جبهةِ الجنوب. 3. المعيارُ الثالث هو التزاماتُ لبنان الدولية؛ فنحن، كما سوريا، جُزءٌ لا يتجزأ من المجتمعِ الدولي المتمَـثِّل بالأممِ المتحدة. وإذا كانت دولٌ معينةٌ تُجيز لنفسِها الخروجَ عن الإجماعِ الدولي، فأحدُ مصادرِ قوّةِ لبنان هو احترامُ القراراتِ الدوليةِ والالتزامُ بها، وإلا يتجاهلَ المجتمعُ الدولي القضيةَ اللبنانية. ولقد أثبتَ التاريخُ الحديثُ في لبنانَ والعالم أنَّ ما مِن دولةٍ تَمكّنت في نهايةِ المطافِ من الصمودِ أمام المجتمعِ الدولي، حتى أن إسرائيل ستُضطرُّ عاجلاً أو آجلاً إلى قَبولِ القراراتِ الدوليةِ بشأنِ القضيةِ الفلسطينية. 4. المعيارُ الرابع هو شِرعةُ حقوقِ الإنسان التي تَمنحُ الإنسانَ فرداً أو جماعةً حقَّ التعبيرِ سِلمياً عن رأيهِ في أيِّ مجتمعٍ من دونِ أن يَتعرّضَ للقمعِ والقتل. لقد جاء في المادةِ 5 من الإعلانِ العالميِّ لحقوق الإنسان: "يُحظَّر تَعرّضُ أيِّ إنسانٍ للتعذيبِ أو للعقوباتِ أو للمعاملاتِ القاسيةِ أو الوحشيةِ أو المُحِطَّةِ بالكرامةِ، أو ترهيبُه أو ترعيبُه أو تخويفُه أو اختطافُه". وجاء في المادةِ 14: "لكلِّ فردٍ الحقُّ في أن يلجأَ إلى بلادٍ أخرى أو يُحاولَ الالتجاءَ إليها هرباً من الاضطهاد". بناء عليه، ومن دونِ التورّطِ السياسيِّ أو الأمني في أحداثِ سوريا، لا يَسعُنا أخلاقياً التفرّجُ على عذاباتِ هذا الشعبِ الشقيق. إن الإنسانَ أسمى من المصالحِ السياسية، والمواطنُ أهمُّ من النظام، ونُصرةُ القيمِ أعلى من العَلاقات الثنائية. 5. المعيارُ الخامس هو مبدأُ الحِيادِ اللبناني إزاءَ الدولِ العربية. فإذا كان موقِفُ لبنانَ التاريخيِّ تِجاه الدول العربية هو: "مع العربِ إذا اتفقوا وعلى الحِيادِ إذا اختلفوا"، فكيف الحالُ إذا كان الخلافُ بين النظامِ وفئاتٍ شعبيةٍ في دولةٍ واحدة؟ لا يَسَعُ الدولةُ اللبنانية اتخاذَ موقفٍ عَملانيٍّ منحازٍ إلى طرفِ نزاعٍ داخلَ دولةٍ عربية. أما المواطنُ اللبناني، وبانتظارِ إقرارِ مشروعِ حِيادِ لبنان، فحرٌّ أن يتعاطفَ فكرياً وإعلامياً مع من يشاء من دون أن يُحوِّلَ موقِفَه الفرديَّ موقفاً جَماعياً يستدعي اتخاذَ خطواتٍ سياسيةٍ وأمنية. 6. المعيارُ السادس هو مسارُ الديمقراطيةِ ومصيرُ الحريات في سوريا. إن حركةَ الاحتجاجاتِ الحاليةِ لا تزال تخضعُ لأقليةٍ عَلمانيةٍ ولأكثريةٍ دينية. ولا يَعرِف العالمُ بعد تطوّرَ مسيرةِ التغييرِ واتجاهاتِها الفكريةِ والسياسيةِ ونظرتَها إلى المستقبل السوري. فكلماتُ إصلاحٍ وحريةٍ وديموقراطيةٍ تبقى فارغةً ما لم تَـتّخِذ شكلاً دستورياً مطابِقاً لمفهومِها اللغوي. ولم ننسَ بعد أن الأنظمةَ العربية، موضوعَ الشكوى ـ بما فيها حزبُ البعثِ الباقي في سوريا ـ استعملت تلك الكلماتِ والشعاراتِ الجليلةَ، واستولت على السلطةِ على أساسِ أنها حركاتٌ إصلاحية. لذلك، قبل التهليلِ لأي حركةِ تغييرٍ، نُفضِّل معرفةَ هُويةِ الحركةِ الاحتجاجية، وعقائدِها، وبرنامجِها السياسي، ونظرتِها إلى العَلاقات اللبنانية السورية، وما هو نظامُها البديل. لسنا بواردِ الرهانِ على أيِّ فئة سورية، رسميةٍ أو شعبية، لا تلتزمُ مشروعاً إصلاحياً عَلمانياً وديمقراطياً وليبرالياً. 7. المعيارُ السابع هو مصالحُ لبنان المباشِرة. إن كان لبنانُ ضنيناً بالشعبِ السوري ونظامِه، وشغوفاً بانتشارِ الديمقراطيةِ في دولِ الشرقِ الأوسط كافة، فهَـمُّـه الأولُ أن يكونَ في سوريا نظامٌ يحترمُ استقلالَ لبنان وسيادتَه وحريةَ قرارِه الوطني. وإذا كان تبادلُ التمثيلِ الديبلوسي شكّلَ خُطوةً متقدمةً في هذا السياق، فجوهرُ النظرةِ السورية إلى لبنان (الكِيان والوطن والدولة والشعب) يحتاج ثورةً في الذهنيةِ السورية، شعباً ونِظاماً. من هنا، إننا نؤيدُ سوريا التي تَكُف عن استخدامِ لبنان ورقةَ مفاوضةٍ أو مقايضةٍ في علاقاتِها أو صراعاتِها العربيّـةِ والإقليميةِ والدولية. نؤيد سوريا التي تُوقِف التعاطي المباشَر مع الأطرافِ اللبنانيين وتأليبَ بعضِهم على البعضِ الآخر، وعلى الدولةِ اللبنانية، وعلى دولٍ شقيقةٍ أو صديقة. ونؤيد سوريا التي تَحسُم مصيرَ الملفاتِ الثنائيةِ العالقة، وهي لا تحتاجُ سوى قرارٍ، بل حسنِ نيةٍ سورية. وأبرزُ هذه المَلفات: المعتقلون اللبنانيون، ترسيمُ الحدود، وقفُ تهريبِ الأسلحةِ إلى قوى لبنانيةٍ أو غيرِ لبنانية، عدمُ عرقلةِ تنفيذِ القراراتِ الدولية ولا سيما عمل المحكمةِ الدولية، تقديم الأوراقِ الثبوتـيّـةِ إلى الأممِ المتحدةِ بخصوصِ لبنانيةِ مزارعِ شبعا. إنها لمغامرةٌ أن يتورَّطَ اللبنانيون في أحداثِ سوريا قبل حصولِهم من النظامِ الحالي أو البديل على ضماناتٍ واضحةٍ بشأن كلِّ ما سَبق. سنةَ 1989 تحفّـظت فرنسا وروسيا عن إعادةِ توحيدِ ألمانيا إثرَ سقوطِ حائطِ برلين لأنهما خَشيَتا أن تستعيدَ ألمانيا الموحَّدةُ نزعةَ الهيمنةِ والمغامراتِ العسكرية كما فعلت في حروب 1870 1914 و1939. ولم يُسقِط الرئيسُ الفرنسيُّ آنذاك، فرنسوا ميتران، تَحفُّظَه إلا بعدما قدّم إليه المستشارُ الألماني، هلموت كول، الضماناتَ التالية: امتناعُ ألمانيا عن امتلاكِ السلاحِ النووي، عدمُ اشتراكِها في أيِّ حربٍ أوروبية، استمرارُ التزامِها مشروعَ الوِحدةِ الأوروبية، وإقامةُ مِحورٍ ألماني فرنسي ضِمنَ الاتحادِ الأوروبي. 8. المعيارُ الثامن هو مصيرُ المسيحيين في سوريا. إن مسيحيي لبنان، بحكمِ مخططِ الاضطهادِ والتهجيرِ الذي يتعرّض له مسيحيّو الشرق، يعارضون أيَّ تغييرٍ في سوريا لا يؤثرُ إيجابياً على الحضورِ المسيحي هناك. صحيحٌ أنَّ الديموقراطيةَ في سوريا مسألةٌ فيها نظر، لكنَّ المسيحيين السوريين عموماً يعيشون بأمنٍ وسلامٍ في ظلِّ النظام الحالي. وواضحٌ أن علاقتَهم بنظامِ الأسد، الأبّ والابن، طَوال العقودِ الأربعةِ الأخيرةِ كانت أفضلَ من علاقةِ مسيحيي لبنان به. وإذا كانت حركةُ الاحتجاجِ السوريةِ ضعيفةً في المناطقِ المسيحية السورية، فلأن هؤلاء يَخشَوْن بديلاً أصولياً يَحُدُّ من حرياتِهم الدينيةِ، خصوصاً وأنَّ حرياتِهم السياسيةَ محدودةٌ أصلاً أُسوةً بسائرِ المواطنين السوريين. إن الاحتكامَ إلى المعيارِ المسيحيِّ للتمَوْضعِ حيالَ أحداثِ سوريا لا يعني مطلقاً أنَّ المسيحيين يُضحّون بمشروعٍ ديمقراطيٍّ سوريٍّ على مذبحِ وجودِهم، بل يعني أنهم لا يريدون التضحيةَ بأمنِهم وسلامِهم من أجل مشروعِ تغييرٍ مجهول، لاسيما وأنَّ ما يحصل في العراقِ ومِصر وفِلسطين غيرُ مشجِّعٍ على الالتحاقِ بثوراتٍ لا تَملِك مشروعاً واحداً ولا قيادةً منسجمَة. قد تبدو هذه المعاييرُ الثمانيةُ متناقضةً في ما بينَها، لكن الحقيقةَ أنّ الوضعَ السوريَ (النظامُ وحركةُ الاحتجاج) هو المتناقضُ والغامض. هذا المُعطى يَفرُض على اللبنانيين توخي الحذرَ الشديدَ في انتقاءِ موقفٍ حيال الأحداثِ السورية، لئلا تنتقلَ حالُ الطوارئ من سوريا إلى لبنان. وإذا كان كلّ اللبنانيين حريصين مبدئياً على استقرارِ سوريا، فالموقفُ اللبنانيُّ هو موقفٌ مفتوحٌ حِيالَ الأحداثِ الجارية، ويُفتَرض أن يَخضعَ لإعادةِ نظرٍ دوريةٍ ومراجعةٍ حسْبَ تطورِ المواجهةِ بين النظامِ السوريّ وحركةِ الاحتجاجات ونسبةِ القمع. إعادةُ النظر لا تعني الانحيازَ التدريجيَّ إلى المنتصِر والابتعادَ عن المهزوم، بل مراقبةَ مدى قُدرةِ النظامِ السوري على إجراءِ إصلاحاتٍ بُنيويّـةٍ في دستورِه وقوانينِه وفي سياستِه الخارجية من جهة، ومدى جدارةِ المعارضين بأن يكونوا بديلاً ديمقراطياً وعَلمانياً عن النظامِ وجيراناً طـيّبين من جهة أخرى.
[ نائب رئيس حزب الكتائب اللبنانية]

جوزف عون..قائد «المؤسسة الصامدة» مرشحاً للمهمة الأصعب..مشروع «شهابية ثانية» ينتظر تبلور إجماع الفرقاء اللبنانيين..

 السبت 19 تشرين الأول 2024 - 4:13 ص

جوزف عون..قائد «المؤسسة الصامدة» مرشحاً للمهمة الأصعب.. مشروع «شهابية ثانية» ينتظر تبلور إجماع ال… تتمة »

عدد الزيارات: 174,665,248

عدد الزوار: 7,763,708

المتواجدون الآن: 0