ملاحظات على "رسائل" المرجعية الشيعية العليا إلى العالم العربي

تاريخ الإضافة الجمعة 2 تموز 2010 - 9:07 ص    عدد الزيارات 655    التعليقات 0

        

ملاحظات على "رسائل" المرجعية الشيعية العليا إلى العالم العربي
ضرورة الاستمرار في رفض خرافات شعبية شائعة
هل يستطيع الدينيون أن يساهموا في بناء "الدولة المدنية"؟

بعد أن تمكن الأستاذ جهاد الزين من التغلب على عوائق السفر إلى العراق واصفا للقارئ بشاعرية صعوبة وقسوة الطبيعة وشظف العيش في هذا الوادي الغير ذي زرع المتمثل بمدينة النجف التي تحولت خلال السنوات الأخيرة ثالث أهم مدينة سياحية دينية في العالم، ظافرا بمقابلة المرجع الشيعي الأعلى  علي السيستاني ، فإن "رسائل المرجعية الشيعية إلى العالم العربي" والتي نشرها في "قضايا النهار"  اللبنانية بتاريخ 08/06/2010 كانت مبهمة، وقد يرجع هذا الابهام إلى شخصية المرجع الأعلى.
فالسيستاني لا يلتقي بوسائل الإعلام، ولاينشر في الصحافة ولا يظهر في التلفزيون، ولا يجيب عن أسئلة الصحافيين إن التقوا به، مما يجعل من رسائله غير مباشرة  وكثيرا ما تستنتج بصورة ضمنية. لذا كانت " رسائل المرجعية إلى العالم العربي " استنتاجات شخصية من لقائه مع المرجع الأعلى ونجله السيد محمد رضا أو اقتباسات من لقاءات مع مراجع عليا أخرى مثل محمد سعيد الحكيم. أو انها مواقف للمرجعية كانت معروفة من قبل. فالمراجع الدينية في النجف هي اذكى من ان تدعو الى تأسيس دولة دينية في العراق المتنوع الاعراق والطوائف. والاستاذ جهاد الزين، كما كل الذين يدعون إلى التسامح وتقبل الآخرين أيا كانت طائفتهم أو قوميتهم، تفرحهم دعوات وتوجهات رجال الدين الرافضة لتأسيس الدولة الدينية. لذا كان أن نشر مقاله بعنوان: "التوجهات الدينية الثلاثة لدعم الدولة غير الدينية" في "قضايا النهار" بتاريخ 18/06/2010 والذي يقارب فيه بين توجهات البابا بينيديكتوس السادس عشر والإمام فتح الله غولن، والسيد علي السيستاني والتي رأى أنها تدعم ما يطلق عليه "العلمانية الايجابية". هذا وسأبدأ ملاحظاتي بما نقله الأستاذ جهاد عن زيارته للنجف.
لقد استمع الأستاذ جهاد من المراجع الشيعية العليا إلى كيف استشرى الفساد في البلاد والتي تقودها حكومة يشكل النجفيون جزءا كبيرا من مكوناتها، وتنتمي غالبية أفرادها إلى أحزاب شيعية لا تألو جهدا في إرضاء المرجعية. ووفقا لما صرح به المرجع السيستاني، بلغ الخضوع او الرغبة في الارضاء أن تطلب هذه الاحزاب من المرجعية أن تسمي لها رئيس الوزراء، مما يعكس انتهازية القائمين على هذه الأحزاب أكثر من ورعهم. وما زالت المرجعيات تعزو هذا الفساد المستشري في العراق إلى مرحلة صدام حسين بالرغم من مرور أكثر من سبع سنوات على سقوطه. هذا وقد أصبح الفساد "سنّة الحياة" في العراق، فقد نقل مراسل "القبس" في البصرة بتاريخ 29/06/2010 حادثة تظهر مدى تمكّن هذا الفساد من العاملين في الدولة وعلى جميع المستويات. فقد قابل المراسل أكثر من شخص وفي أكثر من دائرة حكومية، أجمعوا على أنه لايمكن استخراج شهادة ميلاد أو جنسية أو جواز دون رشوة. وكل ذلك يمارس تحت لوحة كبيرة كتب عليها "لعن الله الراشي والمرتشي". كما نقل عن سائق تسبب في حادث مروري ورمي في السجن قول الضابط له: "إذا ما تدفع تخيس بالسجن"، أي أنك ستتعفن بالسجن. وأود أن أتساءل إن كانت هذه المرجعيات التي ترفض التدخل المباشر بالسياسة، لديها الوسائل الناجعة لتفعيل دورها الأخلاقي في المجتمع بشكل أوضح للحد من هذا الفساد. فنحن امام جماهير تحولت فجأة من رفع صور القائد الملهم، إلى رفع صور الأئمة. وقد صاحب ذلك الانتقال اقبال كبير على المساجد والحسينيات، وانتشرت الفضائيات، ناقلة الأحزان بذكرى وفاة أحد الائمة او استشهاد آخر، ومحتفلة بذكرى ميلادهم، وتبوأ رجال الدين المنابر متحدثين عن ميزاتهم الخارقة التي لا تخضع لقوانين الطبيعة. والتي منها مثلا، ما نقله مراسل " الوطن " الكويتية عن خطيب في ذكرى ميلاد الإمام محمد الجواد عليه السلام من أنه استطاع أن يرد على ثلاثين ألف سؤال في مجلس واحد قبل أن يبلغ من العمر سبع سنوات. ويرى الدكتور إبرهيم الحيدري في كتابه "تراجيديا كربلاء" أن مثل هؤلاء الخطباء "لا يلتزمون كثيرا بالحقائق التاريخية والعلمية ويتأثرون بما يقع تحت أيديهم من كتب غير ملتزمة، بل يتأثرون بما ترويه تلك الكتب غير الدقيقة وغير التاريخية من قصص وأساطير وخرافات لايمكن أن يصدقها العقل أو يقبلها المنطق السليم".
هذا ولا بد من الثناء على ما صرح به المرجع الديني السيستاني للأستاذ جهاد الزين من أن المرجعيات في النجف تتدخل مباشرة وباصرار لمنع ممارسات لعن "بعض الصحابة التي يأتي بها متطرفون من خارج العراق". وإن كنت اختلف معه حول كون هؤلاء يأتون من خارج العراق. فهؤلاء هم بعض من الشيعة وهم موجودون في كل مكان يوجد فيه الشيعة، وإن كان من الخطأ أن يُحمل على كل الشيعة. ومحاربة هذه الظاهرة من قبل المراجع الشيعية قديمة، لكن لم تأتِ بثمارها، لأن هذه الممارسات السيئة متغلغلة بعمق في الأوساط الشيعية، وقد انتقدها كثير من المراجع الشيعية. وقد نقل الدكتور على شريعتي في كتابه "التشيع العلوي والتشيع الصفوي" عن المرجع الديني كاشف الغطاء: "لعل قائلا يقول ان سبب العداء بين الطائفتين ان الشيعة ترى جواز المس من كرامة الخلفاء أو الطعن فيهم ... فليس هذا من رأي جميع الشيعة. وإنما هو رأي فردي من بعضهم، وربما لا يوافق عليه الأكثرية، كيف وفي أخبار أئمة الشيعة النهي عن ذلك، فلا يصح معاداة الشيعة لإساءة بعض المتطرفين منهم".
ولعل من أسباب استمرار الخطاب الشيعي المحمل بالأساطير والخرافات من جهة أو ذلك الذي يتعرض للصحابة هو خشية المرجعية الشيعة الرافضة لهذا الخطاب من التهميش. فقد تعرضت مراجع شيعية في القرن العشرين للهجوم من العامة، لا لشيء سوى أنها دعت إلى تنقية الخطاب الشيعي من الخرافات والأساطير ومن التهجم على الصحابة. ومن هذه المراجع، هبة الدين الشهرستاني الذي ولد في سامراء في 1883 وتوفي في الكاظمية في 1967 والذي أصدر مجلة "العلم" عام 1910 وهي أول مجلة علمية ظهرت في النجف. والسيد محسن الأمين العاملي الذي ولد في 1865 وتوفي 1952، والدكتور علي شريعتي توفي في لندن في ظروف غامضة عام 1977.
ومن أسباب تردد المرجعيات الشيعية في انتقاد الخطاب الشيعي لتنقيته من الأساطير هو الثقل الكبير الذي يلعبه المتبرعون من عامة الناس في إدامة هذا الخطاب. فهؤلاء المتبرعون يفضلون خطابا، اعتادوا عليه منذ طفولتهم، محملا بشحنات عاطفية قوية، وتتطلب ديمومته خلقاً مستمراً لخرافات وأساطير جديدة. لذا فإن كانت المراجع الشيعية تفتخر دائما باستقلاليتها عن الدعم المالي من السلطان أو من الدولة، فإنها تبقى معتمدة على التبرعات لتشغيل مؤسساتها الخيرية والدينية. فلا يوجد استقلال كامل لأي فرد أو مؤسسة. لذا فإنها ستظل مترددة في تعكير عواطف العامة من الناس أو في توجيه أو حضّ رجال دين على عقلنة خطابهم للعامة.  كما إن استقلالية المؤسسات الدينية الشيعية عن مؤثرات الدعم المالي للدولة والتي  تميزها عن المؤسسات السنية مثلا لا يعني أنها لا تتأثر بتوجهات ضمنية من متبرعين آخرين. هذا كما أن مواجهة العامة بالحقائق التاريخية، مغامرة يتردد كثير من المراجع الشيعية  في خوضها. خاصة ان تجربة من خاض هذه المغامرة كانت موجعة. ومع هذا تبقى اهم رسالة يمكن ان تقدمها المراجع الشيعية العليا الى العالم العربي هي العمل على عقلنة الخطاب الشيعي للشيعة انفسهم.
أما ما ورد في مقال الأستاذ جهاد الزين "التوجهات الدينية الثلاثة لدعم الدولة غير الدينية" والذي تضمن تحليلا لورقة البابا في اجتماعه مع أساقفة المشرق اخيراً في قبرص والذي دعا فيه إلى تعميق مفهوم "العلمانية الايجابية"، والذي قرّبه الأستاذ جهاد من دعوات المرجع الشيعي الأعلى السيستاني، فلا شك في أنها ملاحظة مشجعة، وتدعو إلى التفاؤل في بحر من الظلمات. لكن لا بد من التذكير بأن الشروط التاريخية التي أنتجت العلمانية الاوروبية وكونت البيئة الاجتماعية التي نشأ فيها هذا البابا لم تتوافر في عالمنا الإسلامي الذي مازال رجال دينه سنة وشيعة يعيشون في القرون الوسطى. إضافة إلى ذلك فإن العلمانية لا تنشأ عادة برغبة من رجال الدين ، وإنما بالرغم عنهم. وأفضلهم هم هؤلاء الذين يدركون في وقت مبكر ضرورة مواءمة خطاب المؤسسة الدينية مع عجلة التاريخ، ويخبرنا التاريخ أن هؤلاء ندرة وعادة ما يهمشهم المجتمع وفي وقت مبكر.
 

حامد الحمود - الكويت     
( الدكتور حامد الحمود هو باحث ورجل أعمال كويتي)      

محطات الصراع الإيراني - الإسرائيلي..من «حرب الظل» إلى المواجهة المباشرة..

 الخميس 17 تشرين الأول 2024 - 5:09 ص

محطات الصراع الإيراني - الإسرائيلي..من «حرب الظل» إلى المواجهة المباشرة.. لندن: «الشرق الأوسط».. … تتمة »

عدد الزيارات: 174,340,413

عدد الزوار: 7,755,069

المتواجدون الآن: 0