دروس الثورة فى تونس

تاريخ الإضافة الثلاثاء 25 كانون الثاني 2011 - 3:48 م    عدد الزيارات 583    التعليقات 0

        

دروس الثورة فى تونس

بقلم : أحمد عز الدين
(1 )

بدت التربة التونسية ، مفعمة بالسكينة، مسكونة بالاستقرار، عندما انفجرت شقوق الأرض كالينابيع، واندلع الزلزال من بين طبقاتها العميقة دون مقدمات ، ليضع أثقاله حممًا ، وغضبًا ، وثورة ، ودماء.

لكن أحد لم ير أيًا من مقدمات انفجار بحر الغضب الشعبي ، قبل أن ترتفع أمواجه العصية ، وتغمر كافة الشطآن ، لا أولئك الذين يرصدون بالمناظير المُكبِّرة من الفضاء، أرقام السيارات العابرة فوق جسور المدن ، ولا أولئك الذين يتصنتون بأحدث الأدوات على نبض الحوائط ، ودبيب الهوام ، وأنفاس العصافير ، فقد هرب الزلزال من حصار الأقمار الاصطناعية ، ومن عيون الحرّاس المفتوحة ، واستطاع أن يتسلّق جسد الأرض التونسية ، وأن ينتشر فوق تضاريسها ، كما ينتشر صدى الطلقة في الفراغ ، مبتدئًا رحلته من أبعد نقطة تراب قرب الحدود ، ومن أصغر نقطة دم شهيدة ، سفكتها يد التسلُّط ، والبطالة ، والفقر، والحاجة.

كان كل شيء في أوضاع تونس مغطى بتكنولوجيا صناعة الوهم . فتقارير المؤسسات الدولية تعتبرها نموذج التطور والتحديث في المنطقة ، فهي صاحبة أكبر نسبة نمو على امتداد سنوات ، وأفضل ترتيب في قوائم الشفافية المتتالية ، وهى التي تتصدر هذا العام وللسنة التالية على التوالي كافة الدول العربية في مجال جودة الحياة ، بل إنها تتقدم وفق التقرير العالمي لمنتدى دافوس الإقتصادى حول التنافسية الاقتصادية ، مصر والجزائر ، وسوريا ، وليبيا ، والمغرب ، والأردن ، وعمان ، والبحرين ، إضافة إلى البرتغال وإيطاليا واليونان ، إنها إذن ممثلة المعجزة الاقتصادية الحقة في الإقليم العربي ، التي ينبغي أن تكون نموذجًا يُحتذى . فهي التي استطاع نظامها ، بأظافر قوية ، أن يفرض دولة مدنية ، تساوت فيها حقوق الجنسين، وأن يطرد من كافة المعادلات السياسية قوى التطرف الديني ، وقوى الوسط واليسار معًا ، وأن يسبغ على المجتمع نمطًا من العلمانية المُعَولمة في صورتها المستحدثة ، مقتربًا من النموذج الغربي ، الذي يتصور النظام الدولي ، أن الوطن العربي يحتاجه كي يُبحر على سفن مستوردة ، صوب مستقبل آمن ومستقر .

لقد فات الجميع أن الشعوب لا تطلب التغيير دفعًا للملل، أو هربًا من الأرق ، ولا تطلبه وفق حسابات برنامج الكمبيوتر ، أو توقعات هيئات الأرصاد الجوية، أو محددات تقارير البنك والصندوق الدوليين ، فللشعوب حساباتها ، التي هي خارج قوانين السوق ، ومنطق السلطات ، وضوابط النظام الدولي .


جزء 2

ينزل الفساد من أعلى ويهبط على سلالم المجتمع ويخنق الناس بيدين قويتين في الشوارع ، ليصعد العنف من أسفل على السلالم ذاتها ، فيحتدم الصدام ، ومن ثم الانفجار، لكنه لا مناص من القول أن هذه السلطات التي تضع مصائر أوطانها فوق عجلات أجنبية ، وتدفعها فوق قضبان التكيٌف مع شروط الأقوى ، ومنظماته ومؤسساته الدولية ، متنكٌرة لخصوصيتها الوطنية ، وحاجات القواعد المنتجة العريضة في مجتمعاتها ، هي التي تؤدى بنفسها دور المفجٌر الموقوت في قنبلة هائلة على مقاس المجتمع ، لأنها لا تدرك وربما لا ترغب في أن تدرك ، أنه عندما ما تتوقف الكعكة عن النمو ، وتنشط فيها عوامل تآكل الدولة ، وتآكل رأس المال الإجتماعى ، جنبا إلى جنب مع مضاعفات الكساد والاحتكار والبطالة ، واستحواذ الأقلية على الجانب الأكبر من الثروة الوطنية ، فإن الحراك الاجتماعي الذي يتوجه بقوة من أعلى إلى أسفل ، ليعيد بناء طبقات المجتمع وتنظيم عوائدها ، على مقاس مصالح هذه الأقليات وحلقاتها وحلفائها فى الخارج ، يدفع بنفسه حراكاً سياسياً جديداً ، يتوجه بقوة مضاعفة من أسفل إلى أعلى ، متسلحٌاً بطاقة عنف شديدة ، دفاعاً عما تبقى من لقمة العيش ، وضرورات الحياة .

لذلك لم تكن المفاجأة في انفجار تونس من حيث قوته ، أو من حيث توقيته فحسب ، وإنما من حيث قواه ومادته ، فلم تتشكل قواه بشكل أساسي من العمال والمزارعين والمهمشين في الضواحي ، وإنما من هيكل الطبقة المتوسطة التونسية نفسها ، وقد كانت هذه الطبقة بحكم عوامل كثيرة فى تونس وغيرها ، هي أبعد الطبقات مسافة عن أن تكون طرفاً في إشعال الحريق ، علاوة على أن تشكل بنفسها وقوده ، مع الاعتراف بأن خزانات الفقر وجيوب العشوائيات المعلقة حول أعناق المدن ، أمدتها بطاقة مضافة ، ولعل هذا هو الجانب الأكبر من المفاجأة التي أصابت السلطة وأدوات ضبطها بحالات متتالية من الفشل والشلل ، وهى تبدو في صورها التذكارية متزحزحة ثم منحنية ومتراجعة بشكل غير منظًم ، بينما تواصل إطلاق النار قبل أن تهرب بضعفها الصاعق ، وانكشافها المخزي ، وسقوطها المدوٌى .

لقد أكدت أكثر من مرة أن الحكومات لا تحكم بأدوات الضبط الإجتماعى وحدها ، وإنما تحكم بما يطلق عليه النظام المعنوي للسلطة ، وهو درجة القبول الوطني العام بها ، وانه عندما يتآكل النظام المعنوي للسلطة ثم يذوب بفعل عوامل التعرية الاقتصادية والاجتماعية ، تفقد جميع أدوات الضبط الاجتماعي فاعليتها وتأثيرها ، حتى وان لجأت إلى استخدام الرصاص الحي ، لخنق الغضب المشتعل في الصدور .

إن هناك وجهاً آخر لموضوع النظام المعنوي للسلطة ، فهو يرتبط ارتباطا وثيقا بدرجة الاندماج الوطني ، وبقوة الدولة ، لكنه يتصل اتصالات وثيقا بأوضاع الطبقة المتوسطة ، فإذا كانت الطبقة المتوسطة هي أكثر الطبقات فى كل المجتمعات حرصاً على الاستقرار، وأقلها استعداداً للخروج على القانون ، فإنها فى الوقت نفسه الأعلى صوتاً ، والأكثر تأثيرا ، ولهذا فإن أوضاعها صعوداً أو هبوطاً ، انفراجا أو تأزماً ، تشكل أهم الروافد التي تملأ صورة النظام المعنوي للسلطة ، أو تقوم بتجريفها ، غير أن المدهش هذه المرة – كما في حالة الأرجنتين التي استبقتها - أن هذه الطبقة التي تشكل أقل الطبقات استعدادا للخروج على الشرعية ، أو اللجوء إلى أشكال من الضغط العنيف لتنبيه المجتمع إلى أوضاعها ، قد تقدمت صفوف الاضطراب الكبير ، والفوضى والصدام ، مع أن الشاهد أن أوضح الصور التاريخية لتعبير هذه الطبقة عن أزمتها ، لا يخرج عن قدر من الاحتجاج العام ، سواء أخذ شكل انسحاب إحتجاجى من المشاركة في الحياة العامة ، أو مظاهر اضطراب بيروقراطي في مجالات العمل العام .

هل نحن – إذن – بصدد تغيير في طبيعة تعبير الطبقة المتوسطة عن أزمتها ، يخرج عن حدود ما استقرت عليه متون علم الاقتصاد السياسي وعلم الاجتماع ؟

أظن أنه أمر صحيح ، وأنه سيشكل تحولاً جديداُ فوق خريطة أوسع من الإقليم والعالم ، لأن الطبقات المتوسطة عبر القارات كلها أصبحت مشحونة بطاقات أوضاع مأزومة غير مسبوقة ، أسقطت أغلب شرائحها الاجتماعية إلى مستوى العمال وإجراء الريف ، إضافة إلى ما هو أكثر تأثيرا من ذلك فى أوضاعها ، وهو انهيار الدور ، وتدنى المكانة الاجتماعية ، مع أن ذلك سيظل مرهوناً بحجم هذه الطبقة ، وبأصولها التاريخية والاجتماعية وبمقدار شحنة تأزمها فى بيئتها.

لقد ظلت تونس تفخر بأن لديها أكبر نسبة من المتعلمين فى المنطقة وأن لديها رصيدا كبيرا من المثقفين والأدباء والفنانين ، تشكل جميعها قوام طبقة متوسطة واسعة ، لكن هذه الطبقة عاشت مع التجربة الاقتصادية والاجتماعية خلال العقدين الأخيرين محنة الانهيار الاقتصادي ، والسقوط الاجتماعي، فقد تحملت حد الانسحاق أعباء التحولات الميللودرامية لهذه التجربة ، التي انصاعت لرؤية مؤسسات التمويل الدولية ، فأنجبت أقلية محتكرة ، وأغلبية اجتماعية تعانى تخفيضا مستمرا في أنصبتها من الثروة القومية ، وفى قدرتها على إشباع حاجاتها الأساسية .

لهذا فأن الدرس الأول من الحلقة الأخيرة التي أطلقتها الطبقة المتوسطة التونسية ، يقول أن دوائر الخطر الاجتماعي ، لم تعد وقفا على الدوائر التقليدية من العمال والمهمشين ، فقد أوصلت نتائج التحولات الاقتصادية والاجتماعية ، للاندماج المشوه ، في نظام اقتصادي دولي مشوه ، الطبقات المتوسطة لأن تحتل أهم دوائر الخطر ، وأكثرها قدرة إذا ما بدأ الانفجار ، على أن تفرض حضورها على المسرح السياسي ، وهو أمر بجانبيه يحتاج إلى مزيد من الانتباه ، لأن يعنى أن الفوضى يمكن أن تنشأ بالدرجة الأولى من النظام ، وأن اللااستقرار يمكن أن يأتى بالدرجة الأولى ، من القاعدة الاجتماعية التي تثقل موازين هذا الاستقرار .

(3)
لقد استجابت الحكومات التونسية المتعاقبة ،على امتداد أكثر من عقدين من الزمن، لطلبات مؤسسات التمويل الدولية ، لكي تقوم بتعويم نفسها كأنها شركة عامة خاسرة، فقّلصت من دورها حد الاضمحلال في الحياة الاقتصادية، وسمحت للقطاع الخاص أن يحل محلّها بشكل مطرد، وفي كل مفاصل الأنشطة الإنتاجية والخدمية، وباعت الأصول، واختارت أن تغير وظيفة الدولة ، فحولتها من دور الدولة القائدة للمجتمع، إلى دور الدولة الحارسة للنظام، هدفها حمايته، والإبقاء على ديمومته، ثم تركت السوق دون تدخُّل لنموه الذاتي، وآلياته المباشرة، وتفاعلاته المستقلة. وفي المحصلة ، فقد تقزّمت الدولة ، وتضخّم القطاع الخاص، وأصبحت عملية التنمية كلها محكومة بطلبات وحاجات الخارج، وشهوة الربح واكتناز الثروات في الداخل، ثم أصبحت الصورة العامة للمجتمع، كما في كل حالة مماثلة، رأسًا ضامرًا، يستند إلى هيكل عظمي أكثر ضمورًا، وأطرافًا كالخيوط، بينما اكتنز اللحم والشحم، متكورًا في جزر ثقيلة بالبطن والمؤخرة .
ولهذا فإن الدرس الثاني بين دروس هذه التجربة ، يقول منطوقه ، أن تقزيم الدولة، وتبديد أصولها، وتجريدها من رأس مالها، يعني تبديد الدولة نفسها، وتجريدها من أسباب بقائها، وأن وهم الدولة الحارسة للنظام، التي عليها أن تتوقف عند الوظائف الأساسية للدفاع والأمن والتعليم والصحة، قد تبدّد او كاد. لأن قدرة الدولة الحارسة على الوفاء بالتزاماتها، في حدود الوظائف السابقة، أصبحت محل شك قاطع، فضمور الرأس يعني فقدان الدولة لقدرتها على توليد وظائف جديدة لاستيعاب الأعداد المتزايدة والمتزاحمة من العاطلين فوق أرصفة البطالة ، ولقدرتها على تحريك الركود، ومواجهة التضخم، وتقويض السوق الداخلي، وتآكل قيمة وعائد النقود الوطنية .

إن عندي أن التوازن في الحياة ، سواء في الطبيعة أو المجتمع هو القانون الأساسي وليس الصراع، وأن الصراع في النهاية هو تعبير عن فقدان توازن، أو محاولة للوصول إلى توازن،ولهذا يبقى من الضروري ، بل من الحتمي، أن تظل في حوزة الدولة ، من الثروة الاجتماعية، وأدوات الإنتاج، والأصول الاقتصادية، ما يمكنها من أن تكون عنصر التوازن الحاكم في المجتمع، وهو ما يعني أن تظل منتجة ومستثمرة رئيسية، وموجّهة للمدخلات الأساسية في قلب العملية الاقتصادية، ودون هذا التوازن ، تصبح الهندسة الاجتماعية ، عشوائيات اقتصادية، وفوضى اجتماعية، وينتهي الحراك الاجتماعي بآلياته الذاتية، إلى استقطاب اجتماعي حاد، وإلى تمركز مغلق للثروة الوطنية، ودون هذا التوازن، يتحول احتكار الدولة إلى احتكار القلّة، وهو أسوأ أنواع الاحتكار، وأكثرها إضرارًا ودمارًا، لأنه أهم عوامل تحلُّل الاقتصاد الوطني، ولأنه الماكينة الأساسية لتوليد الفساد، الذي يهبط من أعلى إلى أسفل، ولتوليد العنف الذي يصعد من أسفل إلى أعلى ، دون أن تتمكّن أدوات الضبط الاجتماعي من إيقافه ومنع الاضطراب، ومن ثم يأتي زلزال الانفجار الكبير، لتمضي الحاجات الاقتصادية والاجتماعية المضارة والمصادرة بأجيالها وقواتها الجديدة في تعريف نفسها بالقوة الجبرية.

(4 )

لقد ظل العنصر الأكثر وضوحا في الخطاب الاقتصادي التونسي على امتداد سنوات ، هو السعي إلى الاندماج في النظام الاقتصادي الدولي ، وكان الوهم مسيطراً بأن هذا الاندماج في حد ذاته يمكن أن يدفع التجربة الاقتصادية إلى أفق أوسع ، بتدفق الاستثمارات المباشرة ، وزيادة التصدير ، وتقوية العملة الوطنية ، وقد تم السعي حثيثا خلال الحقبة الأخيرة لتقوية عناصر هذا الاندماج ، لكن الاندماج على هذا النحو أصبح حاصلاً جبرياً سلبياُ من رصيد هذا الاقتصاد . لماذا ؟

لأن الاندماج- أولا - ، تم من موقع ضعف ، ولأن الاندماج- ثانيا- تم بمنطق استضعاف ، ولآن الاندماج – ثالثاً – ترك مفتوحاً لاختيارات الخارج وأولوياته وترتيب أجندته ، ولأن الاندماج -رابعاً – تم على حساب الخصوصية الوطنية ، وعلى حساب الدولة ، ولمصلحة زواج شرعي بين الاحتكارات الأجنبية ومواقع ارتكازها الوطنية في الداخل ، ولأن الاندماج – خامساً – مثلما أنتج مسلسلا ًمذهلاً من الفساد – ولٌَد ضغوطاً متزايدة على العملة الوطنية ، لكن الصورة في النهاية ظلت ناطقة بمتناقضات حية ، لا قبل لتفسيرها بما تعتقد مؤسسات التمويل الدولية أنه قوانين الاقتصاد ، فكيف يرتفع متوسط نصيب الفرد من الناتج القومي ، ويزداد الفقر انتشار وتوحشاً - ؟ وكيف يرتفع الناتج القومي الإجمالي ويتنامى الفقر معه ؟ وكيف ترتفع نسبة النمو ، وينمو الفقر بمعدلات أعلى منها ؟ وكيف تتضاعف الصادرات ، ويزداد العجز في الموازنة العامة ؟ وكيف يزيد متوسط دخل الفرد ويرتفع الناتج القومي وتزيد نسبة النمو ، والصادرات ، والاستثمارات الأجنبية المباشرة ، ثم ترتفع نسبة البطالة إلى حدود قياسية من قوة العمل ، حدٌ أن يذهب العاطلون إلى إضرام النار في لحمهم الحىٌ ؟!.

إن أهم الملاحظات والدروس في هذا الحيز تتعلق – أولا – باعتماد مبدأ زيادة النمو ، بغض النظر عن الايدى التي تقطف ثمار هذا النمو ، لأن عائد النمو لا يتحول – كما يدعى البنك والصندوق - إلى أمطار توزع نفسها بالعدل على صحارى المجتمع ، ولكنها تختار أن تمطر في بركه المائية أو المالية ، مادام هناك فصل جازم بين مبدأ النمو ونمط توزيع العائد ، لأن نمط الإنتاج لا يقوم في النهاية بتحديد نمط التوزيع فحسب ، ولكنه يقوم – أيضاً - بتحديد نمط الاستهلاك .

ففصل النمو عن توزيع العائد ، مهما ارتفع هذا النمو ، لا يعنى سلامة أو صحة الاقتصاد ، ولكنه يعنى اختلالاً واعتلالاً ، والأمر نفسه يطول الارتكاز على مبدأ زيادة متوسط دخل الفرد ، لأن التعميم يخفى حقيقة أن دخول أفراد بأعينهم قد نمت نمواً سرطانياً ، على حساب انخفاض دخول القاعدة الاجتماعية العريضة .

وأهم الملاحظات والدروس في هذا الحيز تتعلق - ثانيا – بحرية الاستثمارات الأجنبية في اختيار حقول عملها ، كالسماح لها بالاستحواذ على التجارة الداخلية ، أو السماح لها بالتوسع في شراء الأصول الوطنية ، لأنه لكي تتوسع الشركات الأجنبية ، لابد لها من تدمير القواعد الإنتاجية الوطنية ، ولأن دخول رؤوس الأموال الأجنبية الكبيرة ، في حقول بعينها مثل التجارة الداخلية ، لابد أن يدفع المنشات الصغيرة والمتوسطة إلى الإفلاس ، كما أنها تؤدى باحتكاراتها القوية إلى إفلاس المنتجين الزراعيين .

والنتيجة النهائية لذلك ، مع توفر فرص مفتوحة لنزح العوائد الى الخارج ، هي تقويض السوق الداخلي ، وتخفيض قدرة المجتمع على الاستهلاك ، أى ولادة الكساد .

ثم أن أهم الملاحظات والدروس في هذا الحيز ، تتعلق – ثالثاً – بجعل دور الدولة يمشى على رأسه بدلا من قدميه ، لأن المنطقي أن تقود السياسة الاقتصاد ، وأن يقود الاقتصاد السياسة النقدية ، ولكن الذي يحدث في كل الحالات المشابهة ، هو أن يقود الاقتصاد السياسة ، وأن تقود السياسة النقدية الاقتصاد ، وبالتالي يصبح المجتمع كله منتجين ومستهلكين ، مرتهنا بالسياسة النقدية ، التي لا تستطيع بطبيعتها سوى أن تشكل انحيازا إلى الخارج ، وانحيازا إلى الأغنياء . ولغير صالح المنتجين ، ولغير صالح القاعدة الاجتماعية العريضة .
(5 )

لقد توقّفت هنا بتوسع - قبل سنوات - عند آخر تقرير قدّمه جورج تينيت رئيس المخابرات الأمريكية السابق ، إلى الكونجرس الأمريكي ، قبيل رحيله عن موقعه . فقد رأيت فيه ما يستحق أن يراجعه الجميع في الإقليم ، بعمق ونفاذ أشد. كان التقرير يحمل عنوان "؟التهديدات عالمية الاتساع ضد الأمن القومي الأمريكي"، بينما كانت أهم بنود رؤيته تطول الشرق الوسط أكثر من غيره، وتطولنا أكثر من غيرنا ، فقد حدد جوهر التناقض الرهيب داخل الدولة القومية في الإقليم بألفاظه بين قوتين:

الأولى: عجز عدة أمم في الشرق الأوسط عن السيطرة على الحداثة مما سينتج عنه جمهور ثائر بلا عمل.

الثاني: انتشار تكنولوجيا المعلومات التي ستُمكِّن الشباب في مجالات عدة من تهديد الدول التي يعيشون فيها ، ثم تضاف إلى ذلك لوحة كبيرة يمكن فصل بعض خطوطها العريضة: "الإيقاع المتزايد لسرعة التغيير في عدد من المناطق - تزايد الضعف الداخلي في عدد من الدول التي أصبح تماسكها أمرًا غير مسلم به - الضغوط السكانية من ناحية ، والنظرة إلى النمو الاقتصادي اللذان سوف يؤثران بعمق في مستقبل الشرق الأوسط..إلخ" قبل أن يضيف ما أراه يشكل بيت القصيد في الرؤية وتقدير الموقف؛ وما كان يشير إلى مساحة الخطر، وتداعياته:

1- "إن المواطنين العاديين في عدة أماكن من العالم العربي ، يبدون في صورة من الهياج الزائد والصياح المدوي "
2- هناك " جمهور قلق يصعب احتواؤه، لأنه لا قيادة معروفة له، ولا هياكل تنظيمية واضحة ".
قد يحلو للبعض بصدد ذلك ، أن يحدد جوهر الأزمة في أن الحكومات في الإقليم لا تقرأ حتى ما نتجه الأجهزة والمنظمات الدولية ، من تقديرات وتقارير، اللهم إلا تلك التقارير المزيفة التي تتلقفها لتعلقها أمام شعوبها أوسمة ناطقة بصحة التوجه ، وسلامة القصد ، وقوة البناء .

ولكن المفارقة هنا ، إن الحكومة التونسية - وغيرها من الحكومات - قد تنكبت الطريق ، فذهبت في الاتجاه الآخر ، الذي يصٌعب المهمة ويسعٌر التناقضات ، ويضعف المناعة الوطنية ، ويخلق البيئة الصالحة لنمو عوامل الاضطراب والتناحر والفوضى :

أولا: لقد أعيد تشكيل الخرائط الاجتماعية ، وتم تمركز الثروة ، وأصبحت الطبيعة الخاصة للقوى الاجتماعية الجديدة المسيطرة ، هي التي تحدد السلوك السياسي لنظام الحكم ، وبدا التناقض واضحاً وراسخا بين هذه الخرائط الاجتماعية الجديدة وبين الخرائط السياسية التي ظلت على حالها ، وكأن أكبر الأخطاء تحت شعارات ليبرالية واضحة هي التمكين في المجتمع لنمط ليبرالي ملوث في حقل الاقتصاد ، وشمولي ومستبد في حقل السياسة.

وهكذا أصبح الزاد الجديد سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا ، خارج الأطر السياسية الشرعية ، لينتقل مقود الحركات السياسية تلقائيًا من الأحزاب المعترف بها، إلى الكتل الجماهيرية في الشارع . وهكذا - أيضًا- أصبحت المعارضة الحقيقية تنتظر لحظة مناسبة للتعبير عن نفسها بالقوة في الطريق العام ، تتشكل من جمهور قلِق ومتمرد، لا قيادة معروفة له يمكن التفاهم معها، ولا هياكل تنظيمية لها ، يمكن احتواؤها.

ولقد كان هذا هو أوضح المعالم حضورًا في المشهد التونسي الأخير، عندما تبخّر حزب الأغلبية الذي ظلّ يحصل على الأغلبية المطلقة في كل الانتخابات، ولم تتبق منه غير فلول مهزومة تقبع داخل الجدران، وقطعان ضالة ، تمارس السلب في الظلام.

ثانيًا: لقد تم التعامل مع مفهوم الحداثة، ومع مدلول السيطرة عليها على نحو يتناقض مع المفهوم والمدلول.

فقد تم فهم الحداثة على أنه طلاء الدولة بلون عصري، وصبغها بمسحة غربية خالصة، وكأن الحداثة تعني تحديث واجهات الحكم دون دواخلها وأدواتها، كاستخدام الكروت الممغنطة، والتوسع في تكنولوجيا الاتصال ، وإضفاء طابع من العصرية الشكلية على أوجه الحياة العامة.

ومع بقاء القديم على حاله في القواعد الشعبية وأدوات العمل الاجتماعي والعلاقات ، وسبل العيش والحياة، يزداد التناقض حدة بين التحديث الشكلي عند القمة، وتراكم القديم عند القاع .

ثالثًا: لا يمكن السيطرة على الحداثة بإخضاعها لشروط الخارج، لأن ذلك يعني التقاط شكلها لا جوهرها ، وإنما تتطلب السيطرة عليها، وإخضاعها لشروط الخصوصية الوطنية، وتوافقها مع التراث الوطني ، ليس فقط لأن الخصوصية الوطنية تمتلك القدرة على أن تطرد قشرة التحديث، التي لا تتلاءم مع مكوناتها وحاجاتها، وإنما فوق ذلك، لأن تخفيض التناقضات مع الخارج، على حساب تصعيد التناقضات في الداخل، إنما يشكل الخطر الداهم على الاستقرار الوطني.

(6 )

يتحتّم أن يكون معروفًا في شؤون السياسة ، كما في علوم الهندسة، أن الأنظمة السياسية كالبيوت، لا تنهار وتسقط من أسقفها ، وإنما تنهار وتسقط من قواعدها.

محطات الصراع الإيراني - الإسرائيلي..من «حرب الظل» إلى المواجهة المباشرة..

 الخميس 17 تشرين الأول 2024 - 5:09 ص

محطات الصراع الإيراني - الإسرائيلي..من «حرب الظل» إلى المواجهة المباشرة.. لندن: «الشرق الأوسط».. … تتمة »

عدد الزيارات: 174,383,775

عدد الزوار: 7,755,918

المتواجدون الآن: 0