انصهار المجتمع الحر والتدريجي: مدخل إلى مجتمع مدني لبناني غير متوتر (2/2)
الدكتور بطرس لبكي
التنظيمات الإجتماعية المتنوعة نعني بذلك التنظيمات النقابية وهيئات أرباب العمل والجمعيات المتنوعة الأهداف والإنتماء الطائفي لأعضائها·
- النقابات نشأت النقابات قانونياً منذ عام 1946 على أثر صدور قانون العمل، وأساساً بدفع من الحزب الشيوعي اللبناني ومن حزب الكتائب اللبنانية، ثم تنوعت مشاربها الحزبية· كما نمت نقابات لا علاقة للأحزاب بها وتشكلت اتحادات على أسس متنوعة قطاعية ومناطقية ووطنية وانتمت إلى مراجع عربية ودولية متنوعة· لكن هذه النقابات اتحدت بمجملها ضمن الاتحاد العمالي العام· وقد حافظ هذا الإتحاد على وحدته اثناء 15 سنة من حروب الآخرين على أرض لبنان ورغم ضغوط الميليشيات والأجهزة، وكان رمز هذه الوحدة التظاهرة التي جرت في آذار 1987 للإعلان عن رفض اللبنانيين للتدهور الإجتماعي والإقتصادي الذي سببته الحروب، والمطالبة بالسلم وبأجراءات إقتصادية واجتماعية تؤمن مصالح اعضائها ومن تمثلهم· وقد التقى في هذه المظاهرة على المتحف، متظاهرين من شطري العاصمة - الشرقي والغربي - رغم ضغوط الميليشيات والأجهزة· وكان ذلك نظيراً ما يمكن أن يحصل···
لقد لعبت أيضاً نقابات اصحاب المهن الحرة (أطباء، محامون، مهندسون، صيادلة، أطباء اسنان··) دوراً مماثلاً· فحافظت على وحدتها وعلى وحدة مطالبها المهنية والوطنية المشابهة في هذا المجال لمطالب الإتحاد العمالي العام·
- الهيئات الممثلة لأرباب العمل كما النقابات بقيت هذه الهيئات موحدة، ولم تنقسم غرف التجارة والصناعة والزراعة بل طوّرت غرفة تجارة وصناعة بيروت تسميتها فأصبحت غرفة تجارة وصناعة وزراعة بيروت وجبل لبنان من أجل احتواء امكانية انشاء غرفة تجارة وصناعة وزراعة في جبل لبنان· وكذلك الأمر، بقيت الجمعيات الأخرى لرجال الأعمال كجمعيتي المصارف والصناعيين وجمعية تجار بيروت وغيرها موحدة في هيكليتها ومطالبها·
ونشأت جمعيات لرجال الأعمال في المناطق على الأسس نفسها·
- الجمعيات الأهلية متنوعة الإنتماء الطائفي بأعضائها أو ذات التوجهات العلمانية تطورت هذه الجمعيات منذ عقود طويلة في مجالات حركات الشباب والطلاب واتحادات الكتّاب والفنانين والحركات والمجالس الثقافية والنوادي الرياضية الإنمائية وبعض الجمعيات الخيرية والفكرية· رفدتها في أواخر القرن الماضي الجمعيات البيئية والجمعيات المطالبة بحقوق المرأة وجمعيات حقوق الإنسان وغيرها· كل هذه الجمعيات عملت وتعمل لأهداف تتخطى العائلات والطوائف·
- دور أجهزة الدولة في هذا المجال ان الدولة اللبنانية رغم قيامها على مبدأ تمثيل الطوائف في السلطات التشريعية والتنفيذية والإدارة العامة، فتحت مجالاً لتلاقي واختلاط اللبنانيين ضمن اجهزتها في العديد من الدوائر الرسمية وفي السلك العسكري والأسلاك الأمنية، كما في العديد من المدارس الرسمية والجامعة اللبنانية قبل الحرب·
في هذه الأطر ايضاً تعلم اللبنانيون الإختلاط الطائفي ومعرفة غير الطائفي وعدم اعتباره عدواً دائماً· فنشأت علاقات شخصية واجتماعية وسياسية وعائلية بين اللبنانيين من طوائف مختلفة بسبب تواجدهم اليومي في أجهزة الدولة الإدارية والعسكرية والأمنية والتربوية وغيرها· وقد سهل ذلك التوزيع الطائفي شبه الثابت للوظائف قبل الحرب، فأصبح التنافس على الوظيفة بين أبناء الطائفة الواحدة وليس بين أبناء الطوائف المتعددة· ولكن ذلك زال اثناء وبعد الحرب فبرز تنافس بين ابناء الطوائف المختلفة للوصول إلى مراكز إدارية معنية·
- الزواج المختلط طائفياً أساس الإنصهار المجتمعي ان الطائفة إضافة إلى كونها مجموعة من المؤسسات الدينية والقضائية والسياسية والتربوية والصحية والإعلامية والمالية والإجتماعية المترابطة، هي بالإساس شبكة قرابة·
فالتزاوج يجري غالباً بين أبناء وبنات الطائفة الواحدة بسبب الميل إلى عدم اختلاط الطائفة بالطوائف الأخرى من خلال الزواج·
وهذا هو الأساس المتين اجتماعياً للطوائف· وإذا كان هذا التزاوج بين المذاهب المسيحية قد ازداد في العقود الاخيرة بسبب التحديث والتهجير اللذين زادا من الاختلاط المذهبي بين مسيحيي لبنان، فإن التزاوج بين مسلميه من الطوائف مختلفة وبين مسيحيين ومسلمين ما زال نادراً وصعباً· لذلك لا أمل للإنصهار الوطني إذا لم يفتح الباب أمام التزاوج بين أبناء وبنات الطوائف والمذاهب المختلفة بالإتجاهين أي السماح للبنت أن تتزوج شاباً من طائفة أخرى والشاب ان يتزوج بنتاً من طائفة أخرى وذلك في كل الطوائف دون استثناء هذه هي تجربة الدول التي سبقتنا في هذا المجال: فألمانيا الإتحادية مثلاً بعد الحرب العالمية الثانية كانت منقسمة بشكل واضح بين الكاثوليك والبروتستانت: تزاوج قليل، اختلاط قليل في المدارس، احزاب سياسية ذات غالبية مذهبية، توزيع المسؤوليات الكبرى في الدولة (رئاسة الدولة والمستشارية مداورة بين الكاثوليك والبروتستانت)، تمويل رجال الدين والكنائس من قبل الدولة بواسطة رسوم يدفعها المؤمنون لكنيستهم عبر الدولة، وكان البروتستانت أكثر ثراء وتعلماً ونفوذاً في السياسة والدولة والثقافة من الكاثوليك·
كل ذلك ذاب تدريجياً وخاصة منذ مطلع التسعينات، فالتزاوج بين الكاثوليك والبروتستانت اصبح عادة كذلك الاختلاط في المدارس والجامعات والنقابات والسكن· وأصبح الكاثوليك والبروتستانت متساوين اقتصادياً واجتماعياً، وجرت علمنة محلية للمجتمع بالرغم من الوجود الرسمي والمعترف به والممول من الدولة لمختلف الكنائس، والأجهزة الدينية الخاصة لليهود والمسلمين·
خلاصة المواطنة ممكنة في مجتمع متعدد الطوائف مثل لبنان·
الأوطان لا تبنى بالحديد والنار فقط على طريقة بسمارك وبعقلية البسماركيين العرب و<العالم ثالثيين>·
الأوطان تبنى أيضاً بالتوافق والحوار والمواثيق· لدينا أمثلة كثيرة على ذلك، أهمها سويسرا وهولندا والنمسا وغيرها من الديمقراطيات في أوروبا· فرنسا ليست المثل الوحيد ولا انكلترا حيث قهرت اكثرية الأقليات الدينية والثقافية لبناء الدولة - الأمة· هناك ديمقراطيات في أوروبا جربت الحديد والنار والأنظمة التسلطية لبناء الدولة الأم كإيطاليا واسبانيا ثم عادت إلى الديمقراطية بالحوار والتوافق واحترام خصوصيات كل المجموعات في الوطن·
تقاتل السويسريون خلال مئات السنوات واخيراً وصلوا في القرن التاسع عشر إلى ميثاق وطني يحفظ وحدة سويسرا في التنوع والديمقراطية المحلية، حيث لسويسرا مثلاً أربع لغات: الإلمانية، الفرنسية، الإيطالية (5% من السكان)، والرومانشية (5.0% من السكان) ولكل من المجموعات اللغوية الحق في استعمال لغتها في الإدارة العامة، في المدارس، والمحاكم، والإدارة المحلية، الخ··· وقد اجتازت سويسرا تجربة الحربين العالميتين الأولى والثانية التي كانت أساساً حروباً بين فرنسا والمانيا دون أن تتأثر تركيبتها، أو تتعرض إلى الإهتزاز والإنفراط· لكن هذه الديمقراطية التوافقية محمية بحيث يساهم في حمايتها عسكرياً كل مواطن· ومحاربة هذا الجيش في سويسرا الجبلية أمر صعب···
إلى جانب هذه الدول الأوروبية هناك الهند أكبر ديمقراطية في العالم، مع مئات اللغات وعشرات الولايات والأديان، حيث تعترف الدولة بكل الأديان، وبكل اللغات عندما تبلغ عدداً معيناً من الناطقين وتدعم مؤسساتها التعليمية وتعطي سلطات واسعة للولايات، مما سمح لهذه الدولة - القارة من الإستمرار والنهوض وهي في طريقها إلى أن تصبح قوة عالمية· كما ان كندا بتنوعها اللغوي والقومي وسياستها المبنية على تنوع الثقافات multiculture وبنيتها الفيدرالية واحترامها واحتوائها لكل الأديان تعطينا مثلاً عن بناء مواطنية علمانية غير معادية للدين ودامجة للتنوع مع احترامه، وتسير افريقيا الجنوبية بعد خروجها من <الأبرتايد> في طريق مماثلة·
إذاً المواطنة ممكنة في لبنان المتنوع طائفياً ومذهبياً والمتحاور بدافع من الرغبة بالعيش المشترك التي اختبرنا منافعه كما اختبرنا مضار فقدانه·
باحث في الشؤون الإقتصادية والاجتماعية