تجارب نقدية بعيداً من المقدّس الحزبي

تاريخ الإضافة الثلاثاء 8 آذار 2011 - 5:10 ص    عدد الزيارات 599    التعليقات 0

        

تجارب نقدية بعيداً من المقدّس الحزبي

وسط تصاعد المطالبات اللبنانية بإسقاطات للثورات العربية، وفيما احلام التغيير تحتاج إلى واقعيةٍ كبيرة في مقاربة الواقع الطائفي (على ما بينته الأمثولات الكثيرة والقاسية)، يبدو النقد الملتزم إحدى أبرز وأقرب الوسائل لتغييرٍ واقعي وتدريجي، على المستوى الوطني وعلى مستوى القوى الإجتماعية المختلفة.
من هنا يُطرح السؤال: هل من مساحةٍ للنقدِ الإيجابي والبنّاء والهادف لدى الشباب اللبناني الملتزم، وبالتحديد أكثر، نقدٌ بعيدٌ من مجرد ترف التنظير والسعي لإثبات الذات؟ هذا الهدف المنشود ليس موقوفاً على الشباب ولا يعبِّر عن أوهام بقدراتٍ "أسطورية" ما لطالما أُلقيت على عاتقِ الشباب كفئة اجتماعية ولا سيما في لبنان المتعدد، لكنه يكتسبُ شرعيَته من العِبَر الكثيرة للتجارب اللبنانية في السلطة والتغيير و"الثورة"... والتي تكاد تلامسُ درجة "السينيكية" في فشلها ومأسويتها أحياناً. ويُبنى هذا السؤال أيضاً على افتراض تفاؤلي Wishful Thinking بأنَّ بعض الشرائح من الشباب الحالم بالتغيير قد تكون أكثر قابليةً من غيرها لإعادة النظر في التجارب السياسية وبأفكار واعتقادات و"أساطير مؤسِّسة" وحوادث وسيَر وأقوال وشعارات وبتقويمها لا على أسسٍ عاطفية أو انجرافية أو "قطعانية" جماهيرية أو تعلقاً بصورةٍ براقة أو بـ"الإيديولوجيا"، التي "تُعدُّ حجاباً للعقل وعدواً لعملية التعقّل والتفكير المنطقي حيث تحرم الإنسان من موضوعية المعرفة وتأمره بأن يرى العالم من خلال نافذة الأفكارِ الباطلة التي تُريه الواقعَ بالمقلوب"(1). قد تكون أكثر قابليةً للنقد وإعادة النظر والتفكير في المستقبل، لأنها دفعت أو غالباً ما تدفع ثمن العبور نحو السلطة ويتبين في بعض الأحيان أن "القضية" قد لا تكون سوى واجهة مُسيلة للعابِ المثاليات الكامنة في العقول وأن الإشكالية الحقيقية هي "من" يحمل "المشعل" ويتبنى "القضية"...

تأثيرات الوضع السياسي
 

كانت التسعينات في القرن الماضي حاضنةً لنشوء تجاربَ شبابية جنينية ومتنوعة ومبادراتٍ لا بأسَ بها: قلةٌ من قياداتٍ حزبية فاعلة في الحرب تُجري نقداً ذاتياً، مجموعات تفكر وتتحرك من داخل الأحزاب والقوى وتطرح تساؤلات نقدية وتطالب بالمشاركة وتداول السلطة، منظمات متجددة تهرب من سطوة "الإيديولوجيا"، شرائح كان نشوؤها في حدِّ ذاته طرحاً للبديل من تجاربَ سيئة وفاشلة، حراكٌ لافتٌ في الجامعات والشارع والتقاء على عددٍ من المطالب والعناوين والشعارات ولا سيما منها الحريات العامة، رغبة بالخروج من إرث الحرب وسلطاتها لكن من دون ترجمة واسعة النطاق ومؤثِّرة... وفَّر الوضع السياسي القائم آنذاك مساحةً كبيرة للإعتراض وصناعة الأحلام والأوهام. الوصاية السورية تقبض على البلاد، أمراء الحرب يتناتشون كعكة السلطة وينهبون الدولة والمال العام، "الترويكا" الشهيرة تتقاسم الأدوار والحصص والمنافع، وفي البرلمان تمثيليةٌ هزلية لهامشٍ محدود من الحرية والديموقراطية، والقسمُ الأكبر مما يسمى أو يُفترض أنه "نخبةٌ ملتزمة" غارَ في خزائن السلطان وضرب بسيفه وصمت أمام تعاظم مؤشرات الديكتاتورية الأمنيّة المقنّعة والمالية ورقص على قبور الوطن والتجأ إلى نعيم التورية واللعب ضمن حدود اللعبة.
قضى الصراع بين الجماعات اللبنانية الخائفة والإحتدام الإقليمي الدولي في لبنان منذ خريف 2004 على أيِّ حلمٍ بتطوير المساحة النقدية الضئيلة أصلاً، وما كان أحلاماً وردية بالتغيير والسعي للأفضل في وطن الأرز في ربيع 2005 تحول إلى كوابيس شلل الدولة وتشرنق الطوائف والتوترات الأمنية والمواجهات السياسية على وقع سيمفونية الإغتيالات الرتيبة والرهانات المجنونة. وعندما يحتدم صراع البقاء في لحظاتٍ كيانية تأسيسية كلحظة انسحاب الجيش السوري من لبنان، يصبحُ الحراك النقدي تَرفاً لا تستسيغه آليات تثبيت المواقع في لعبة الكراسي الموسيقية اللبنانية وتضيق فسحة النقاش لتتقدم أولويات الحفاظ على الجماعة المهدَّدة ورص صفوفها وتُسحَقُ الفردية، خاصةً في حال أن، أيضاً، "ما يُفترض" أنها نخبة ملتزمة عقلانية تتحول إلى آلةٍ دعائية طنّانة ترويجية في خدمة المصالح الشخصية، مستخدمةً كل عدّة الشغل المفترسة للعقول، وتسقط في امتحان التزام قيَم وطنية معينة.

 

تجارب
 

ليس المطلوب من الشباب أو من المحازبين عموماً مغادرة أحزابهم أو التخلي عن التزامهم السياسي، لا بل العكس تعميق الإلتزام بمشاريع وأفكار لإغناء التنافس حول مصلحة لبنان وتثبيت استقراره وتطوير نظامه والحفاظ على تجربته المميزة في هذه المنطقة. وفي كلِّ الأحوال لا توجد أوهام كبيرة بحجم التقويم الذي يمكن أن يبادروا إليه أو مساحة النقد التي يمكن أن يوفروها، استناداً إلى شبه استحالة الفصل بينهم وبين طوائفهم وسياسات النفوذ والسلطة لأحزابهم. إذن، تحسين شروط اللعبة؟
بيدهم كل تقنيات العصر والقوى الجديدة التي "تحكم العالم" وتغير في أنظمة التأثير من تفاعل في شبكة المعلومات والإتصالات، وبالتالي كل الحوافز للتخلي عن الإلتحاق الأعمى بأي نهج أو سياسة. ليست الأساطير المؤسِّسَة حتميّةً تاريخية، وليست التجارب بمعصومة عن المراجعة وإعادة التأسيس على أسسٍ صلبة، ولا يمكن الشعارات والمواقف والخطط أن تبقى رهينة تفسيراتٍ جامدة تكاد توازي النصوص المقدسة وتتحول أدبياتٍ حزبية مُنزلة. وإذا تطورت حالة التسليم بالأمر الواقع، فسيتمدد السكون ويُقضى على الحقِّ المشروع بالمساءلة والمحاسبة والمشاركة وتشغيل الطاقات وحفظ الأدوار وإيجاد ضوابط للعبة السلطة.
على الشباب اللبناني مسؤولية عدم استنساخ تجارب فاشلة وتعويم قيادات لم تنجح إلا في لعبة الدم والقتل وسياسات النكاية والتذاكي على جمهرة الشهداء وضحايا الصراعات العبثية كي لا نقول على من هم أحياءٌ عند ربهم يُرزقون. والجماعة لا تحميها قيادات تذهب بها يميناً ويساراً بسرعة انعطافاتٍ هائلة أو قوى وإيديولوجيات لا تطرحُ حلولاً إلا من الماضي أو تنظيماتٍ لا تعيش إلا على "رهاب" الآخر المختلف. يحقُّ للشباب اللبناني والحزبي خاصةً أن يذهب ويفتش ويقارن ويبحث مع الخائبين في هواجسهم وانطباعاتهم وفي المقابل في أسباب سكوتهم في الماضي عن الخطأ، يحق له أن يغامر بمجازفة طرح الأسئلة التشكيكية وأن يعيَ دهاليز لعبة الصراع على السلطة وان يطلب أجوبةً تحترم عقله وكفاياته وتضحياته عن السياسات المتبعة والخيارات المستقبلية التي قد يؤدي بعضها إلى المغامرة بمصير جماعات وأفراد ووطن من أجل رهاناتٍ كارثية، وأن يبنيَ بالتالي خياراته وسلوكاته ويترسخ في التزامه أو ينتقي القوى التي تعبر عنه أو يبتدع أطراً جديدة يرى أنها تساهم في التغيير الذي ينشده، على الأقل كي لا يكون مصيره كمصير ذلك الـBoxer – الحصان في رواية جورج أورويل الشهيرة "مزرعة الحيوانات". فمن المؤسف والمبكي – المضحك أن تشاهد آلافاً من الجيل الجديد تنقاد وراء منظومة من الصور والشعارات وتبني هالاتٍ نورانية حول رؤوس زعمائها وتأسر نفسها في قوالب وتعليبات، وتشق طريقاً في السياسة قد لا تكون مبنية في بعض الأحيان سوى على خدع وعلى تحويل محطاتٍ نزاعية إلى تواريخ مقدسة في الروزنامة الحزبية.

 

Politica
 

منذ نحو سبعة أعوام، قُيِّد لنا المشاركة في تجربةٍ جديدة من النقاش والحوار حول شؤونٍ وطنية وسياسية بعيداً من التصورات المسبقة والأفكار الجاهزة. نشأت “Politica” أساساً من نقاش وحوارات في أوساط شبابية جامعية تنتمي أو قريبة من "القوات اللبنانية" وتوسعت لتضم ملتزمين أو مؤيدين في التيار الوطني الحر والكتائب اللبنانية ومستقلين ويساريين سابقين، حاولوا من خلال الحوارات بين بعضهم ومراجعات النصوص والكتب واللقاءات شبه الأسبوعية مع قيادات سياسية ومفكرين وأكاديميين وإعلاميين وناشطين بلورة مفهوم متمايز للنقاش وبناء الاقتناعات السياسية والوطنية. لم تكن Politica محاولةً لإطلاق حزبٍ أو تجمّع سياسيٍ جديد، بل فُسحةً حوارية نقدية نشأت أساساً على ضرورة البحث في الخيارات والتجارب السياسية اللبنانية بعيداً من الإلتحاق والتكرار الببغائي للمواقف والشعارات والغايات. شارك فيها حزبيون خائبون وأفرادٌ ابتعدوا قليلاً عن تنظيماتهم ومستقلون وأيضاً كان فيها من بقي في أحزابه حتى الساعة و"ما بدَّل تبديلا". كان العنصر المسيحي غالباً فيها بحكم البيئات الجامعية والسياسية التي أتى منها أفرادها لكنها كانت مفتوحةً للجميع من كل الطوائف وتوّاقة إلى تمدد حلقتها وتوسيع نطاقها. توقفت تجربة Politica في العام 2007 بعد نحو أربعة أعوام على مباشرة أنشطتها، في ظلِّ انشغالِ أفرادٍ منها بمتابعة الدراسة والعمل، من دون أن تلغيَ الصداقات الشخصية بين أعضائها والحلم بتكرار التجربة نفسها أو في أطر مختلفة، لكن في سبيل الغاية عينها التي كانت دافعاً لإطلاقها.

 

النخبة والسلطة
 

إيجاد المساحة النقدية وتعزيزها مرتبطان ارتباطاً وثيقاً بمسألة "النخبة الملتزمة" وبضرورة استقلالها في الحد الأدنى عن السلطة أياً تكن أشكالها، وحين تنخرط النخب الملتزمة قيماً معيّنة في لعبة السلطة، وهذا حقها الشرعي، فستفقد الكثير من استقلاليتها المطلوبة لأن "ترتفع إلى مستوى المسؤولية العمومية والرؤية الكلية والنظرية المستقبلية، إذا لم تتمتع بحدٍ أدنى من القيم ومعايير السلوك وأساليب الأداء التي تؤهلها للعب دور المنسّق والموجّه والمحفّز للمجتمع"(2).
إنَّ لبنان الحداثة الذي شكَّل منارةً لكل دول المنطقة في تقدمه السياسي ونهضته الثقافية وكان سباقاً في توفير بيئة حاضنة للحرية والديموقراطية، يستحق ان تبقى بناه السياسية في حال تطور مستمر وتقدمٍ نحو الأفضل، وألا تتصنم في المقولبات. ويستحق هذا اللبنان أن يتعلم شبابه من تجارب الماضي وأن يبتدع مخارج جديدة ومبتكرة لمأزق احلام التغيير والبنية التعددية اللبنانية.

1 - عبد الكريم سروش، "العقل والحرية"، ص 43، ترجمة أحمد القبانجي، منشورات الجمل (بيروت – بغداد)، 2009.
2 - برهان غليون، "في النخبة والشعب- حوار لؤي حسين"، ص 13، دار بترا للنشر والتوزيع، دمشق، 2010.
(Footnotes)

ميشال أبو نجم  

جوزف عون..قائد «المؤسسة الصامدة» مرشحاً للمهمة الأصعب..مشروع «شهابية ثانية» ينتظر تبلور إجماع الفرقاء اللبنانيين..

 السبت 19 تشرين الأول 2024 - 4:13 ص

جوزف عون..قائد «المؤسسة الصامدة» مرشحاً للمهمة الأصعب.. مشروع «شهابية ثانية» ينتظر تبلور إجماع ال… تتمة »

عدد الزيارات: 174,447,533

عدد الزوار: 7,758,378

المتواجدون الآن: 1