المشهد الفلسطيني وأسئلة المصالحة·· والعدوان!
من منظور منطقي- واقعي، يبدو التوجه الإسرائيلي نحو شن عدوان جديد على قطاع غزة، على غرار ما حدث قبل نحو عامين، أو توجيه ضربات جوية وبرية لفترة زمنية معينة، وفق ما رجَح رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو الذي منح جيشه الضوء الأخضر لتنفيذ عمليات اغتيال لقادة المقاومة الفلسطينية، في موازاة العدوان الجوي والمدفعي المتواصل، مفهوم تماما، وإن كان ثمة من يرى حذرا إسرائيليا واضحا حيال التورط في حرب جديدة على القطاع بسبب الحالة الإقليمية الملتهبة، والموقف المصري المستجد الذي عبَر عنه وزير الخارجية نبيل العربي، إذ لا يخفى أن إسرائيل التي لم تكن يوما بحاجة إلى أية ذرائع للعدوان على الفلسطينيين والعرب وكل <الأغيار>، والتي أربكتها <الثورات العربية> وحملتها على إعادة النظر في أولوياتها الإستراتيجية وعقيدتها الأمنية، معنية بانتهاز الفترة الانتقالية وحال الفوضى والانقسامات وعدم قدرة أي من الدول العربية التي تتمحور أولوياتها حول الاستقرار الأمني وتحسين الأوضاع الاقتصادية، على خوض حرب ضد الدولة العبرية في المدى المنظور، ومن ثم، استكمال إجراءاتها الاحتلالية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولا سيما في القدس التي أكد تقرير أممي صدر أخيرا أن الوجود الفلسطيني فيها يتعرض لـ <حرب إبادة> حقيقية، فيما قال تقرير آخر لمركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية أن الاحتلال يخطط لطرد 55 ألف مقدسي، ورفع منسوب إقرار القوانين العنصرية التي تمهد الطريق أمام تهجير فلسطينيي 1948، والتي كان آخرها القانون المسمى <قانون النكبة> الذي أقرته الكنيست الإسرائيلية قبل أيام، كما أنها معنية بتذكير الفلسطينيين، وبالأخص قيادة حركة <حماس> أن يدها ما زالت طويلة، ولن تتورع عن ارتكاب المجازر المتكررة في حال عدم الالتزام بالتهدئة الفلسطينية المجانية التي ترفضها حركة <الجهاد الإسلامي>، وتذكير العرب الذين ثاروا على أنظمتهم السابقة، بضرورة التزام أنظمتهم الجديدة بالاتفاقيات المبرمة معها، وكذلك تذكير العالم وأقطابه الفاعلة بأنها ما زالت دولة فوق القانون، وأنها غير مستعدة لدفع أية أثمان تفرضها الاستحقاقات الإقليمية والدولية التي تدب على الأرض·
على أن الأكثر سطوعا في هذه الرسائل الإسرائيلية الدموية المرشحة للتصعيد، هو محاولة قطع الطريق على عملية المصالحة الفلسطينية التي عادت للطفو على سطح المشهد الفلسطيني بعد تحرك الشباب الفلسطيني المطالب بإنهاء الانقسام كشرط واجب التحقق لإنهاء الاحتلال، وكذلك بعد إعلان رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، خلال الجلسة الافتتاحية للدورة الرابعة والعشرين للمجلس المركزي الفلسطيني، استعداده التوجه إلى غزة من أجل الاتفاق مع قيادة <حماس> على تشكيل حكومة من شخصيات مستقلة وكفء للتحضير لإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية ومجلس وطني، وإعادة إعمار ما تم تدميره في القطاع، حيث لم تخف إسرائيل امتعاضها الشديد واستعدادها لفعل ما يلزم لإجهاض أية مبادرة بهذا الخصوص، إلى حد مطالبة نتانياهو السلطة الفلسطينية <الاختيار ما بين السلام مع حركة حماس والسلام مع إسرائيل>·
في الجانب الآخر، لم يجد المراقبون في عملية التصعيد وإطلاق الصواريخ الذي لجأت إليه حركة <حماس> بعد نحو عامين من التهدئة، سوى محاولة لتنحية ووأد عملية المصالحة الفلسطينية التي اكتسبت زخما جديدا بعد التحركات الشبابية الفلسطينية المطالبة بإنهاء الانقسام، واستجابة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس للدعوة التي وجهها إليه رئيس حكومة <حماس> في غزة إسماعيل هنية لزيارة غزة وإجراء محادثات للمصالحة على مستوى رفيع، وهي الدعوة التي يبدو أنها لم تكن موضع توافق داخل <حماس>، بدليل مسارعة الحركة، وعلى لسان أكثر من مسؤول، وفي مقدمهم هنية نفسه، إلى رفع سقف مطالبها السياسية والأمنية، واشتراط التوجه نحو <حوار وطني شامل> يناقش كافة الملفات، بما في ذلك قضية الشراكة السياسية، ووجود قيادة وطنية مشتركة للشعب الفلسطيني، واعتراف بنتائج الانتخابات التي نظمت في 25 كانون الثاني (يناير) 2006، ناهيك عن المطالبة بعقد مؤتمر شعبي للبحث في مستقبل القضية والنظر في تطورات الوضع الفلسطيني، وذلك قبل الحديث عن أية حكومة جديدة!!
غير أن هذه الحسابات، التي تندرج في إطارها عملية قمع التظاهرات الشبابية التي انطلقت في غزة يوم 15/ 3 الجاري للمطالبة بوضع حد للانقسام المدمر، وعدم السماح لوفد الرئاسة الفلسطينية الأمني الذي كان ينوي التمهيد لزيارة عباس بالقدوم إلى غزة، اصطدمت بعقبتين أساسيتين : الأولى، هي التصعيد الإسرائيلي، المغطى دوليا، والذي وصل إلى حدود ارتكاب المجازر وإبداء الاستعداد لتنفيذ عمليات اغتيال ضد بعض القيادات الفلسطينية، وشن عدوان جديد على القطاع، وهو ما أخذته <حماس> على محمل الجد، بدليل إعلان حكومتها العمل وفق خطة طوارئ عليا، وإخلاء الوزارات والمؤسسات والأجهزة الأمنية، وإجراء رئيسها إسماعيل هنية اتصالات داخلية وخارجية لتجنيب القطاع مواجهة جديدة مع إسرائيل· والثانية، هي أن سيناريو الاشتباك المحدود الذي قدَر أنه قابل للاحتواء، انطلاقا من حقيقة سقوط الصواريخ على أراض خالية، خرج عن السيطرة بدخول فصائل وجماعات أخرى على الخط، وبالأخص حركة <الجهاد الإسلامي> التي وجدت فرصة في إطلاق <حماس> عشرات الصواريخ، ووجهت صواريخها البعيدة المدى على مدينتي أسدود وبئر السبع· وعليه، وبدلا من التناغم مع التطورات الإقليمية النوعية وحراك الشارع العربي الذي يعيد الاعتبار لصوت الأكثرية الساحقة من الشعب، ويوجه رسالة شديدة الوضوح إلى الفلسطينيين مفادها أنهم وحدهم من سيدفع فاتورة استمرار الانقسام والتمزق، وعوضا عن المضي قدما باتجاه تحقيق المصالحة التي كانت <حماس> نفسها قد نظمت لها تظاهرات حزبية في مدينة غزة، قبل التحرك الشبابي، ها هو الشعب الفلسطيني يدفع نحو مستنقع دموي جديد تحت وابل من المزايدات الشعاراتية غير القابلة للتسويق لدى أكثرية الفلسطينيين وقواهم الوطنية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والأكاديمية والاقتصادية المدعوة لمواصلة التحرك والكفاح للدفاع عن خيار وحدة الأرض والشعب والقضية، وعن المشروع والأهداف الوطنية والنظام السياسي الديمقراطي التعددي·
كاتب فلسطيني